مجلة الرسالة/العدد 938/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 938/الكُتُب

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 06 - 1951



درجات الناس

تأليف الأستاذ طه محمد الساكت

للأستاذ منصور جاب الله

كلما هممت بإرسال المقال في هذا الكتاب، صرفتني عنه مشاغل طرآنية، أو حجرتني صوارف الدنيا من هم أو مرض أو عمل! بيد أني الساعة حريص على الكتابة في هذا السفر رغم هذه الشكاة التي تغرقني منذ مطالع شهر رمضان!

أول ما يطالع القارئ في هذا الكتاب صورة ضوئية لمسجد يحيى باشا الكبير في رمل الإسكندرية، والقارئ العادي لا يعرف المغزى في نشر هذه الصورة حتى يقرأ ما كتب في الصفحة المقابلة؛ إذ يروى المؤلف نص الدعاة الذي حاول (أن يدعو به مرة عقب صلاة الفاروق - أيده الله - بمسجد يحيى باشا ليؤمن المصلون على دعائه، فحال الحرس بينه وبين بغيته) وإذن فالكتاب وليد عقدة نفسية عند المؤلف بقيت تحز في نفسه طوال هذه الحقبة. ومما يؤيد هذا المذهب أن الأستاذ المؤلف ذكر في الصفحة الأخيرة من مؤلفه أن أصوله عنده منذ أربعة عشر عامأن أي منذ أن حاول الدعاء لمليكه في مسجد يحيى باشا فحيل بينه وبين ما يريد.

على ان نشر هذه الصورة العزيزة في مقدمة الكتاب قد ردني إلى الوراء بضعة وعشرين عاماً ترادفت ترادف الموج في محيط الزمان، فإني لأذكر هاتك الحلقات التي كانت تلتئم في ذلك المسجد المعمور يتوسطها العارف بالله الشيخ محمد البوريني إمام الخديو السابق، وكيف أعادت إلى تلك الدروس ذكريات مدارسات السلف الصالح من أمثال الحسن البصري وسفيان الثوري، وأشهد أني ما حضرت درساً دينياً كان له الأثر في نفشي ما كان لشيخنا البوريني رحمة الله.

ومتصفح الكتاب إذا شاء عرضه على الناس لابد واجد صعوبة، فهو من كتب التصريف التي أجهد المؤلف نفسه في جمع شتاتها ومطا منة ضروبها حتى استوت له جملة صالحة عرضها على القارئين. فهو يبدأ بمناجاة ملك الملوك محرمأن وأرسلت إلينا رسلك فضلاً منك وكرمأن ثم أورثت الكتاب الذين اصطفيت من عبادك، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات).

ويخلص من ذلك إلى مخاطبة (السادة الملوك) فيرفع إليهم الحديث في أدب المخضع الخاشع (هل أتتكم سادتي أنباء الأسفلين من الرعايا إذ ركبوا بحور الظلم والظلمات في سفائن باسم الشيطان مجراها ومرساها ارتدوا فيها فراعنة، وتمردوا فيها على الربابنة، ثم خرقوا أسفلها وأنتم العالون، ورقعوا في حدود الله وأنتم عليها قائمون. وقد بلغ من أمرهم أن سخروا من الناصحين حتى استيئسوا، وهزئوا بالراشدين حتى أبلسوا! فلم يبق في النجاة من أمل إلا تأخذوا بسلطان الله على أيديهم قبل أن تهلك جميعاً بشؤم معاصيهم).

ولعل في هذه الكلمات القصار التي اقتطفناها ما يوضح مقصد الكتاب وهدفه، فهو يريد النصح إلى من ملكهم الله الأمر وتبصيرهم مواطن الضعف والقوة في الأمة، فإن (صلاح كل من الراعي والرعية يؤثر في الآخر تأثيراً بليغاً، وإن كان صلاح الراعي في رعيته لأبلغ أثراً وأهدى سبيلاً، وليس من العدل والإنصاف في شيء أن نتجاهل قوة الرابطة بين الجانبين كليهما فنذكر اثر واحد دون صاحبه).

ويستطرد المؤلف من ذلك إلى تبيان درجات الأفراد ويتحدث عن المثل الكامل ودرجات الأمم، ويورد بعض الأحاديث في منزلة صحابة رسول الله ، فإذا بلغ الحديث درجات الملوك أورد ذلك الدستور الرشيد الذي وضعه الحسن البصري للإمام العادل عمر بن عبد العزيز فسار على سننه مدة حكمه القصير، حتى إذا مات نقضه الأحداث من بني أمية! وإذ يتكلم المؤلف عن درجات الناس عند الملوك لا تخونه شجاعته وإنما يقول في صراحة مؤدية (أعظم الناس عندهم - أي عند الملوك - أسرعهم إلى تحقيق رغباتهم وأشدهم ميلاً إلى هواهم، وأقل الناس كرجة عندهم ومنزلة أشجعهم على نصيحتهم وأخوفهم عليهم من بطش الله وعقابه).

(من أجل ذلك تحامي الناس نصحهم حتى الدعاة إلى الله عز وجل وكانوا بين خائف منهم ويائس، وبالغ كثير من الناس في مدحهم والثناء عليهم ابتغاء المال والدنيا).

وكم كان جميلاً من المؤلف أن يورد شذوراً عن بعض المؤلفات التي وضعت لخدمة الملوك في عهد السلف الصالح من هذه الأمة مثل سراج الملوك للإمام الطرطوشي؛ وسلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع.

ولقد كان المؤلف بارعاً في استشهاده بنكبة المنصور لأبي مسلم الخرساني والرشيد للبرامكة على أن بطانة السوء لابد أن يفتضح أمرها على الأيام، وقد قبل لأبي مسلم (لم خرجت الدولة عن بني أمية؟) وقال (لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألفاً لهم، فبم يعد العدو صديقاً بالدنو، وصار الصديق عدواً بالإبعاد).

وجهد الكاتب جهده في بيان في القرآن الكريم فذهب إلى أنها ذكرت ثماني عشرة مرة في الكتاب المنير في أربع عشرة سورة نصفها مكي ونصفها مدني، ومضى في تخريجه إلى درجة تشهد له بالبراعة والاجتهاد.

وأفراد المؤلف فصلا لحقوق الملك استهله برواية الشعبي عن ابن عباس قال (قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب - يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله علي وسلم وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجرين عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً. قال الشعبي: فقلت لابن عباس كل واحدة خير من ألف قال: إي والله ومن عشرة آلاف!).

ولا نستطيع أن نمضي في الاقتباس إلى نهايته، فحسبنا أن نذكر بالحمد تلك (العقيدة النفسية) التي تخلفت في صديقنا الأستاذ طه محمد الساكت قبل بضعة عشر عاماً، فكان نتاجها هذا الكتاب الأول من نوعه بعد عهد السلف الصالح، وعندنا أنه كتاب وضع للخاصة وإن كان صاحبه نص على ذلك في مقدمته. ففيه من المسائل الفلسفية العميقة ما يحمل القارئ على المطاولة والمجاهدة في سبيل تفهمهاً، وفيه توريات بعيدة المرمى لا يتفتق لها إلا الذهن الخصب الطيع.

فعلى هذا الأساس نتقبل كتاب الأستاذ الساكت ونعتبره كتاب تصوف وفلسفة، ونحمد له هذا الجهد الذي بذل، ونقد له هذه الشجاعة في إبداء بطريقة مؤدبة ملفوفة، فلو أن كاتباً غيره تناول مثل هذه الدقائق لزل به القلم ووقع في نزواته وشطحاته!

منصور جاب الله