مجلة الرسالة/العدد 942/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 942/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1951



نظرات في إصلاح الريف

تأليف الأستاذ عبد الرازق الهلالي

للأستاذ علي محمد سرطاوي

(143 مطابع دار الكشاف ببيروت - الطبعة الثانية)

هذا كتاب الموسم في العراق؛ تلقته النفوس المؤمنة بالإصلاح الاجتماعي، باللهفة والغبطة، والشوق، كما يتلقى الثرى المكدود، الجاف، قطرات الغيث، تهطل من جفون الغيوم، فأعيد طبعه، ولما تمضي على الطبعة الأولى، غير بضعة شهور، فكان ذلك تقديرا، بليغا، صامتا لرسالة الكتاب العظيمة

ومؤلف هذا السفر النفيس، شاب في طليعة شباب العراق طموحا، وثقافة، وتفانيا في خدمة الهدف المجيد؛ طوف في الشرق والغرب، فأفاد من ذلك تجارب، لها قيمتها، وخطرها، وأثرها في صقل مواهبه وتجاربه وتوجيههما التوجيه الذي ربط روحه بأرواح الملايين المعذبة من أبناء جنسه، في سبل الحياة، فانعكست منهم على نفسه تلك المعاني التي تقشعر من هولها الأبدان، مجسمة لأولئك البائسين، في مظاهر الجوع والمرض والجهل، فكان هذا الكتاب تعبيرا صادقا عن هذه المعاني

درس الآداب متخصصا في دراسته الجامعية، وضرب بسهم وافر فيه، وصال وجال في ميادينه مؤلفا، وكاتبا، ثم مد بصره إلى لآفاق القانون فحلق إلى أعاليها كالنسر الجريء، ثم راح يتدرج في الخدمة المدنية من التدريس إلى التوجيه في وزارة المعارف ثم إلى إدارة نقابات العمال في مديرية العمل والضمان الاجتماعي، وأخيرا استقر في البلاط الملكي العامر، مساعدا لرئيس التشريفات في بغداد

والمعذبون في ريف العراق، هم أولئك الفلاحون الذين يؤلفون سبعين في المائة من مجموع السكان؛ يتضورون جوعا على مدار السنة، ويتحركون عراة، حفاة، ورضى، على الأرض التي يسخرون على زرعها بالإكراه، كما تتحرك الأنعام، التي لا تملك من أمر نفسها شيئا، وإنما يملك أمرها صاحب الأرض الظالم، ذلك الراعي، الذي يذبحها إذا شاء، ويجيعها إذ أراد، ويبيعها متى أحب

ومن دواعي الاغتباط العميق، والأمل الباسم، أن يبعث الله إلى الظلام الحالك فوق دنيا هؤلاء المعذبين، إقباساً من رحمته تشرق من قلوب طبقة من الشباب المتزن، المؤمن بربه، وعظمة أمته، لا تعيش على هامش الحياة في تلك الأبراج العاجية السخيفة التي يلجأ إليها، عادة، المهزومون من الحياة، والذين لا يصلحون لها، ولا تشعر بوجودهم فيها، وإنما يضطرمون في صميمها، ويجاهدون أحداثها، ويمدون أيديهم لإنقاذ الملايين من نفوس مواطنيهم، التي يدفعها الجوع والمرض والجهل إلى تصديق كل ما تزيفه لها الحضارة الغربية من أوهام وأباطيل؛ ويجولون بين أولئك المواطنين، وبين الجري وراء سراب الشيوعية الخادع، ذلك السراب الذي يتراءى لأعينهم في بيداء ظلم الحياة وعذابها، ماء، وما هو بالماء. . . وإنما هو لعاب الشيطان تعكسه زبانية الجحيم على أجنحتها في الفضاء، تغريرا بالمغفلين

وأصدرت المطابع الغربية كتبا كثيرة، بعد الحرب العالمية الثانية، تحدثت فيها عن قصة الجوع في الشرق الأوسط، وعن الظلم الاجتماعي، وما قد يجر وراءه هذا اللون من الاضطهاد والإرهاق للجماهير، ومن كوارث يخشى منها على هدم هذا المجتمع التعس؛ وحذرت المسؤولين وأنذرتهم باقتراب العاصفة، وأوصيت بالقيام بإصلاح شامل سريع

ومن بين هذه الكتب المتعددة، كتاب الإنجليزية ألفته المس وارنر، وقام بنشره معهد العلاقات الدولية في بلاد الإنجليز تحت عنوان (الفقر والجوع في الشرق الأوسط).

والكتاب دراسة مركزة لمشاكل الفلاحين في مصر وفلسطين وشرق الأردن، ولبنان وسوريا والعراق؛ قالت فيه عن مصر، إن العلاقات التي تربط الإنسان بالحيوان، عن طريق الرحمة الإنسانية، والشفقة المطلقة، لا وجود لها بين مالك الأرض والفلاح هناك، وحذرت من انفجار اجتماعي مفاجئ قد يعصف بالحياة عصفا عنيفا لا رحمة ولا هوادة فيه، وأوصلتها دراساتها إلى وجود مليونين من الجائعين في مصر يجب نقلهم إلى العراق للعمل في الزراعة، بحكم التشابه بين مناخ البلدين، وبحكم الصلاة المتينة من الدم واللغة والدين والجوار بين الشعبين، ولكنها لم تحبذ ذلك العمل الآن، لعلمها أن الفلاح العراقي يئن من ظلم أشد هولا، وأرجأ ذلك العمل إلى ما بعد الإصلاح الاجتماعي الشامل الذي يجب أن يتم سريعا في العراق. .

ومضت تدافع في كتابها عن سياسة أبناء جنسها في مصر وفلسطين وشرق الأردن والعراق، وعن أصدقائهم الفرنسيين في سوريا، حينما عجزوا عن تقديم أية مساعدة لتلك الطبقات المعذبة في تلك البلدان التي حكموها حكما مباشرا، أو غير مباشر، مدة ثلث قرن من الزمن أو يزيد، فزعمت في معرض دفاعها، أن الطبقات الأرستقراطية التي ورثت النفوذ من الماضي، كانت تحرض، تلك الجماهير عليها، عن طريق الوطنية الرخيصة، الرعناء، غير الواعية، وتدفعها إلى الثورة، فكانت والحالة هذه، مضطرة إلى مهادنة تلك الطبقات، وإطلاق يدها، وإفساح المجال لها تعبث بهذه الجماهير، وتظلمها وتسومها الخسف كما تشاء وتريد، حبا في استتباب الأمن

ونحن لا نريد أن نصدق هذا القول، لا لأنه يعيد الاحتمال، بل لأن التجارب علمتنا أن نكون حذرين في كل ما نسمعه عنا من أقلام الغربيين، ونشك فيه، ونعتبره دفاعا باطلا عن الظلم الذي أصاب هذه الطبقات من أبناء جنسها، وأصدقائهم الفرنسيين ونرى أن الفرص التي تتيح إشاعة العدالة، والإصلاح الاجتماعي لم تكن في استطاعة الطبقات العربية التي أشارت إليها، بحكم سوء التوجيه الخفي، الذي لا تكاد تجهله المس وارنر، وتعرفه الدنيا. .

وشيء آخر يراه القارئ المتأمل في ذلك الكتاب؛ تلك هي الصورة التي رسمتها لشقاء الفلاحين، فلقد كانت مشوشة، غامضة، بعيدة عن الواقع، بعدا كبيرا، إذا ما قارناها بتلك الصورة الرائعة التي وسمها الأستاذ الهلالي لأولئك المعذبين بألوان زاهية من دم قلبه، وعواطفه وحبه العميق

وكلما قارنت هذه الصورة بتلك التي رسمها قلم المس وارنر، وغيرها من كتاب الغريب لحياتنا الاجتماعية، كلما ازددت إيماناً بأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه، وكلما بدا لي الضلال المبين الذي نسج في غمرة عقول لا تزال تؤمن بالغرب حتى في الحديث عن أنفسنا، وعاب أحد أصحاب هذه العقول على المؤلف عدم رجوعه إلى المصادر الأجنبية في وصف حياة الفلاحين في العراق فكانت لفتة فير موفقة، وزلة كشفت عمله في أعماق النفس، تستحق السخرية العميقة من المتزنين ونحن في سبيل الحديث عن الفلاح العراقي. إنما نتحدث عن الفلاح في كل جزء من وطن العروبة، فلقد وحد الألم المشترك والعذاب الذي لا يحتمل، والظلم الاجتماعي الذي لا يطاق، بين قلوب أولئك المعذبين، على بعد الدار، ونأي المزار، فكان الحديث عن أية طبقة منهم في أي مكان من الوطن الشامل، إنما هم الحديث عنهم جميعا

العراق بلد زراعي، ومساحته (435) ألف كيلومتر مربع، وعدد السكان فيه يقرب من خمسة ملايين، وكان هذا العدد زمن العباسيين يزيد على أربعين مليونا. والأرض الصالحة للزراعة في الوقت الحاضر تبلغ مساحتها (92) ألف كيلو متر مربع، لا يزرع منها فير خمسها

وتقسم الأرض الزراعية إلى منطقتين: شمالية، وهي الأرض التي تعتمد الزراعة فيها على مياه الأمطار ومساحتها (41) ألف كيلو متر مربع؛ وجنوبية وهي التي تعتمد الزراعة فيها على مياه الأنهار ومساحتها (51) ألف كيلو متر مربع

ويتألف سكان العراق، من البدو الرحل ونسبتهم العددية لمجموع السكان ثمانية في المائة، وسكان المدن، ونسبتهم العددية، اثنتان وعشرون في المائة، وسكان الأرياف، وتبلغ نسبتهم ستعون في المائة

وتؤلف القرية في منطقة الأمطار الشمالية، الوحدة الاجتماعية، وكان فيها الفلاح على وجه العموم، يتمتع بملكية صغيرة، وشبه استقلال، ولكن مرور الزمن، جعل (المختار) أو (الأغا) مستبدا، فاعتدى على الفلاحين، واستولى على أراضيهم، وسكتت السلطات، وغضت الطرف عن هذا الظلم، حتى فدا الفلاح عاملا مأجورا (للأغوات)

أما في الجنوب، فتتألف الوحدة الاجتماعية، من القبيلة، تمتعت منذ زمن موغل في القدم بحق المعيشة في أراض واسعة، بطلق عليها اسم (الديرة)، وزعت الأراضي منها على الرؤساء، والمشايخ، وغدا أفراد القبيلة مزارعين عند هؤلاء، لا يملكون شيئا. . .

وهذا النوع من الملكية في المنطقتين الذكورتين، ليس إلا لونا من ألوان الإقطاع البغيض، يجعل لفريق من أبناء الأمة سلطانا على أرض الوطن وأبنائه، مرتكزا على حق الوراثة، أو حق الغزو، أو حق العصيان، وسلطان من هذا النوع، لا يستمد قوته من إرادة الأمة، ولا يوافق مصالحها، ويجب القضاء عليه وظيفة الفلاحين لا تتناول ما يكفيها من الأغذية المكونة للطاقة الحرارية، أو المكتسبة للمناعة، فهم في شبه جوع دائم، ويمكن القول أن ثمانين في المائة من السكان لا تتوفر في أغذيتهم المواد التي يحتاج إليها الجسم

وسوء التغذية يجعل الجسم عرضة للأمراض الفتاكة التي يشكو منها الفلاح العراقي، كالملاريا، والبلهارسيا، والإنكلستوما، والزحار، والسل الرئوي، والزهري، والتراخوما

وعدد الأطباء في العراق (816) طبيبا، ويتركز منهم في بغداد ولوائها (527) طبيبا، ويبقى لألوية العراق الأخرى البالغ عددها ثلاثة عشر لواء (299) طبيبا، ومن تحصيل الحاصل أن يزعم إنسان أن في مقدور هذا العدد الضئيل، مكافحة تلك الأمراض الفتاكة

(البقية في العدد القادم)

على محمد سرطاوي