مجلة الرسالة/العدد 945/رحلة إلى ديار الروم
مجلة الرسالة/العدد 945/رحلة إلى ديار الروم
4 - رحلة إلى ديار الروم
السيد مصطفى البكري الصديقي
للأستاذ سامح الخالدي
الشيخ بستسكري محلا في المركب، وشروعه في السفر إلى مصر بحرا:
(وبت ليلة الجمعة في (قاسم باشا) لدى صيدقنا الحاج محمد اليالقجي، لدعوة سابقة لجل حضور زواج ابنته، ثم بت ليلة السبت لديه أيضا لخلوصي في مودته، واستكرينا محلا في المركب المسافر لديه، وكانت هاتان الليلتان باجتماعنا بالوالد السيد محمد عقود اللبثين واخبر في الليلة الأولى أن بعض الناس دخل في بغاز الأندلس لمدائن لا تحصى، وعاين فيها غرائب لا تستقصى، وحدث بما لم يسمع وفي الكتب لم يودع، وان رسالة العرائس، وشرح الصلوات البشيشة المسمى بالروضات العريشة نقلت منها الطائفة الحناينية نسخا كثيرة وكذلك الابتهالية التي مطلعها (يا رب بالذات العلية)
(وفي الليلة الثانية كانت المذاكرة في الكنز المطلسم والاسم الأعظم، وكنت أسمعته الكتابة التي كتبتها في الجزء الثاني، من (شرح الورد السحري) الرباني على الاسم الكريم فقال لم يبق في هذه السطر القليلة، ما يحتاج لذكره إلا ذكرته بعبارة قصيرة غير طويلة، وأسمعته في ذلك المجلس النبوية المسماة (بجريدة المآرب، وخريدة كل شارب) فقال لم أر فيها رأيت صلوات أجمع منها فإنك ذكرت فيها الآل والأصحاب، والخلفاء الأنجاب، والمجتهدين الأقطاب، والختم وأعوانه الأنساب
وبت عنده قبل هذه الجمعة ليلتين، طيبتين، وحدث فيهما من أخبار الخليفتين، الممهد والمهدي الأنورين والأفخرين. وفي ليلة الاثنين دعانا مصطفى بن كشيش للعشاء عنده صحبة الوالد، ثم ودعنا الداعي بعد المبايعة)
(وسرنا معه (أي الداعي الحاج مصطفى بن كشيش) وبعض المحبين إلى البحر وبتنا في المركب بعد الودع بليلة متسعة وجاءنا في الصباح الأخ الملتاح الشيخ ذروق، والحاج مصطفى المشوق، والأخ الشيخ عبد الوهاب التميمي الخليلي، وغيرهم من أحباب، وجاءني تابع ابن العم الملا محمد بالمقامة الشامية والمغربية السامية، وطلب الاندراج في سلك أهل المعراج، فأجبته لطلبته، وأسعفته برغبته) الشروع في السفرة البحرية - من الأستانة إلى الإسكندرية:
(وسرنا قبيل الظهر من (بشك طاش) إلى (قوم لي) والعقل من الفراق طاش، وبتنا في أكنافة وقد حفنا الله بالطاقة، ووجهنا دفة الانكسار إلى ناحية (بغاز حصار) وأقمنا الثلاثاء والأربعاء، وفي الإقامة نرجو السلامة لما الفؤاد وعا، ورحلنا عند يوم الخميس متوجهين إلى مسامته جزيرة (ساقز) ولم نقف عندها حتى أتينا (أستن كوي) وقاربنا حداها وأقمنا لدى (قره باغ) ثلاثة أيام، وسرنا في اليوم الرابع من خلف (رودس) بسلام، ودخلنا الإباحة ونحن في بسط وراحة، ودارك المولى بالعناية ومن بفضله بالرعاية، فطوى شقة المشقة الطويلة وجاد بإمداد مآثر جميلة. وكان صديقنا المجد السعيد الشيخ خليل أفندي أبو سعيد، مفتى الديار المقدسة حالا، أصلح الله منا ومنه مآلا وحالا، ممن نزل في المركب المذكور، طالبا المنزل المعمور، وصحبته الشاب النجيب الحميم السيد إبراهيم نجل المرحوم الشيخ موسى الفتياني منح التداني)
(وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين من شهر رجب وصلنا الإسكندرية المحروسة ذات الوهب ولما وصلناها وحللنا فناها جاءنا أرباب المكس (الجمرك) والنكس، الذين قرب زوالهم دون لبث ومكث، لأنهم أهل وعقد ونكث، وفتشوا الأثواب ورموا البعض على التراب، فتغير الفؤاد، من فعل هؤلاء الأوغاد معنا ومع جملة العباد، ورجونا الولي الجواد بدفع هذه الأنكاد، عن أمة الهدى والرشاد، وتقريب زمن الإسعاد، بظهور نورد ممهد البلاد والأغوار والأنجاد، بجاه سيدنا محمد سند الأفراد وآله وصحبه الأجواد)
وصف الرحالة الأندلسي أبن جبير (لجمرك الإسكندرية) قبل
الشيخ البكري بخمسمائة وسبعين سنة!
لعل من الطريف أن نأتي هنا على ذكر ما قاله ابن جبير الرحالة الأندلسي، على جمرك الإسكندرية، فنرى أن الحال لم تتغير كثيرا في معاملة الوافدين على ثغر الإسكندرية، مع اختلاف العهدين:
قال أبن جبير في رحلته طبعة 1326. ص - 7 (شهر ذي الحجة من السنة المكورة (578 هـ 1182 م) أوله يوم الأحد ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية، فمن أول ما شاهدنا فيها يوم نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها، لتقييد جميع ما جلب فيه، فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدا واحدا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناص ليؤدي زكاة ذلك كله دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو لم يحل، وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد لطريقهم فلزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسال هل حال عليه حول أم لا، واستنزل أحمد بن حسان منا، ليسأل عن أنباء المغرب وسلع المركب، فطيف به مرقبا على السلطان أولا ثم على القاضي ثم على أهل الديون، ثم على جماعة من حاشية السلطان، وفي كل، يستفهم ثم يقيد قوله: فخلى سبيله، وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم ويحمل جميع ما أنزلوه إلى الديون فاستدعوا واحدا واحدا وأحضر ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالزحام، فوقع التفتيش لجميع الأسباب ما دق منها وما جل، واختلط بعضهم ببعض وأدخلت الأيدي إلى أوساطهم بحثا عما عسى أن يكون فيها ثم استحلفوا بعد ذلك، هل عندهم غير م وجدوا لهم لا؟ وفي أثناء ذلك هب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام، ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الآجر بلك، وهذه لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين، ولو علم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وإيثار الرفق لأراك ذلك، وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واستردوا الزكاة على أجمل الوجوه، وما لقينا ببلاد هذا الرجل، ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من نتائج عمال الدواوين). انتهى ابن جبير
الشيخ البكري يزور الإسكندرية
ولنرجع الآن إلى الشيخ البكري فإنه بعد أن قاسى على أيدي أرباب المكس في الإسكندرية ما قاسى يقول:
(واجتمعنا بالصالح الفالح الذي على الفضائل حاوي، الشيخ مصطفى الشعراوي، خطيب سيدي عبد الله المغاوري فأنزلنا داراً قريبة من داره، فقر بها قراري، وكان رفيقنا السيد إبراهيم الفتياني هو المعرف والدليل للمنزل الثاني)
(وفي يوم الثلاثاء ضحوة النهار توجهت إلى زيارة رجالها الأخيار، فأول من زرته منهم رضى اله تعالى عنهم، جناب سيدي عبد الله المغاوري، ثم زرت الموازيني ونزلت لدى سيدي محمد شرف الأبو صيري وصليت ركعتين، وزدت بعده جناب سيدي الإمام أبا العباس أحمد بن عمر الأنصاري، خليفة الأستاذ الملاذ الولي، سيدي أبي الحسن على الشاذلي، وزرت ضريحا لصيق ضريحه الطيب المهاب، يقال إن فيه من له إليه انتساب، ثم توجهت على الأقدام لزيارة سيدي ياقوت العرشي، ثم زرت سيدي مكين الدين الأسمر الأزهر، والأنور الأبدر الأقمر، وغيرهم من سادات أعيان
(وفي صحوة يوم الأربعاء توجهت لزيارة رجال العتيقة فرأيت آثار سورها مهدمة، كادت تكون منعدمة، ونرجو لها العمار وتشعشع الأنوار في تلك الديار، فإن آية ليل محاسنها محيت بها والدمار، حتى كأنها لم تكن في سالف الإعصار، وذهبنا إلى جامع العطارين، وزرنا المصحف العثماني، وزرنا الشيخ عبد الرزاق الوفائي، والشيخ علي البدوي والشيخ مفرح وأبو غزالة، والشيخ جابر والشيخ يعقوب والشيخ صفوان والشيخ العجمي، والصوري والفتياني؟ وجامع العطارين الثاني، وغيرهم من أرباب تداني وأصحاب تهاني)
في مدينة رشيد:
(وفي يوم الخميس توجهنا صحبة أصحابنا من كل رئيس نحو (رشيد) التي ساكنها رشيد، وصلينا الظهر لدى الجبانة، وزرنا الشاطئ رفيع المكانة، وقطعنا المعدية ليلا بعد اللتيا واللتي، وسلمنا على تلك المعاهد وبتنا مع مفتينا السابق، الذي للمحامد يسابق، في الوكالة وبعد صلاة الصبح توجهنا نحو (رشيد) مستمدين من أهلها السادة أهل المكانة والجلالة، في (وكالة الباشا) وفي الطبقة العالية مع رفاقنا أهل المراتب الغالية، وحصل بعض مطر، منع من زيارة ساداتها أرباب المقام الأعظم، ثم أنا في ظهر يوم الاثنين المبارك توجهنا صحبتهم في معاش في المسير نتشارك، ونزلنا إلى زيارة الشيخ محمد أبي العباس الباني مرتبة التداني على أساس، وصليت لديه الظهر جامعاً للعصر مقلداً للأمام ابن إدريس رفيع القدر منيع النصر، ثم أهديت بقية رجالها الفواتح كالمحلاوي وأبو الريش والعرابي وسكان كوم الأفراح ولما سامتنا الشيخ أبا منصورة قرأنا له الفاتحة، وما زلنا إلى الساعة الرابعة من الليل باللبان نسير، إلى أن وصلنا بمعونة الكبير إلى مساواة (محلة الأمير) ولم ننم إلا اليسير، خوفاً من طروق سراق، لهم باع فيه الغير فاق، واخبرنا أنهم ربما هجموا على المعاش والتجأنا إليه في رد كيدهم في نحورهم، وجدنا في الصباح أقاح برد حادق، يرد الغرزان من الغلمان إلى مرتبة البوادق، وكنت وضعت في البحر المالح ورداً يناسب استعماله فيه وللحلو صالح، ووسمته (بالجوهرة الثمينة. . فيما يقول راكب السفينة)
(ومررنا ضحوة النهار على سيدي محمد الهلابي ودفينه والشيخ يوسف المغربي، وسيدي علي الخزرحي، وسيدي عبد الوهاب أبي مخلوف والشيخ عامر والبهيسي، فقرأنا لكل منهم الفاتحة وهاج عند الظهر ريح في وجهنا شديد، فربطنا لما لم نستطع المشي الذي ملقه نسميها للقر مفيد، وعند الغروب سرنا لما سكن ذاك الهوا الهبوب، ومازالوا يجرون اللبان، إلى أن عمود نصف الليل بان، وربطنا عند صليبة، ورجال لنا بالبر مجيبة، وبعد بزوغ الشمس، وكان الهم أبعد منه أمس، قرأنا الفاتحة لفرد هذه النواحي، القطب الذي الأمداد ناحي، سيدي إبراهيم الدسوقي، ورجينا منه الشفاعة بحل قيودي وثوقي ونشر قلوعي، ووقد شموعي، وما زلنا بالقلوع نسير، والحق يهون كل عسير، إلى أن وصلنا بلدة الشيخ حسن الولي، الحسن، فهاج ريح، وماج البحر الفسيح، ولم يمكنا الذهاب لتراكم السحاب، وطبق الجو بزائد النو، وسحت المطار مصحوبة بألطاف الستار ولما أذن مؤذن الصباح رحيل محيمل الفلاح، سرنا إلى أن سامتنا (دسوق) ذات اللمع والبروق، والطلوع والشروق، ثم لما مررنا على (مرفض) التي يحق لها أن ترقص طرباً بحلول أبي المجد فيها قدس الله سره، فقرأنا له الفاتحة، وعندما جئنا محلة أبي علي زرنا على البعد كل من حل بها من ولي، وهي على ما قيل ثلث الطريق، فقلنا عسى أن يسعف المولى بالريح المريح من التعويق، وقرأنا بالخصوص الفاتحة لابن الشرمي، ومازلنا نسير بمعونة السميع البصير، وكلما جزنا على قبة علم كبير، قرأنا له الفاتحة، وجونا كامل البشير، فقلت:
ألا يا ظاهرين بقطر مصر ... أغيثوني وزيحوا غيم حصري
(ثم إنا ربطنا لدى الشط، ووارد الأكابر شط، وسرنا غب الغروب، ليلا مع معاشات كثيرة لها للمسير هبوب، إلى أن وصلنا قرية (شابور) وبتنا بها في سرور فيها هلال شعبان المبارك
للكلام بقية
سامح الخالدي