مجلة الرسالة/العدد 945/مع شوقي الخالد:
مجلة الرسالة/العدد 945/مع شوقي الخالد:
مسرحية مصرع كليوباترا
للأستاذ حسين كامل عزمي
مقدمة:
المشهور أن المسرحية فن غريب على الأدب العربي والنقد الأدبي الحديث منوط به البحث عن سبب هذه الظاهرة، بخاصة إذا عرفنا أن الأدب المسرحي في أصيل الآداب العالمية، ففي أدب اليونان القدماء نجد المسرحية مكتملة العناصر إلى حد كبير حتى أن أسس المسرحية التي وضعها أرسطو في بحثه في الفن، كانت - ولا تزال - من عمد الفن المسرحي. .
وتاريخ الفن المسرحي الحديث في مصر لا يزال في حاجة إلى تأريخ مدون. . . ولعل أقرب تاريخ لهذه الحركة الحديثة هو مقدمة مسرحية (أوديب) لتوفيق الحكيم. . ومنها نعلم أن المسرحية الحديثة قد بدأت معتمدة كل الاعتماد على الآثار الفنية للمسرحين: الفرنسي والإنجليزي. . . وخاصة آثار القطبين: موليير وشكسبير. .
وإن كان المصريون وقد شاركوا فيها متاخرين، فإن مشاركتهم تلك كانت تأثرية لا فنية، كما اعترف الأستاذ الحكيم في مقدمته السالفة الذكر
بيد أننا نستطيع أن نلمح حركة تسعى نحو التقدم بفضل جهود ركني المسرح المصري الحديث من الفنانين الأدباء، ونعني بهما شوقي في مسرحياته الشعرية، وتوفيق الحكيم في مسرحياته النثرية. . . ملاحظين أن فن الحكيم في المسرحية أثبت قدما، فمواطن الإجادة عنده نراها متميزة جلية، في حيوية الشخصيات وفاعلية الحوادث، ونبض الجو بالحياة، والقوة التأثيرية الكامنة في الحوار. .
كذلك نلاحظ أنه - أي الحكيم - لا يعتمد اعتمادا كليا على التراث التاريخي في مسرحياته، كما فعل شوقي. . .
1 - طبيعة الحوادث:
الفصل الأول - المنظر الأول: يبدأ بنشيد شعبي، المقصود منه شيئان: أولهما التمه للحديث عن الحركة الوطنية (بين حابي وديون وزينون)، وثانيهما التلميح إلى وفاء شرميون للملكة. . . وإذن فقد وفق في الإفادة من هذه الحادثة، وبعد ذلك تظهر هيلانة. فيمهد شوقي في كلمة لامحة من حابي، لعاطفة الحب التي استغلها في توضيح جانب عاطفي من الملكة، وجانب الوفاء من هيلانة للملكة. . ثم همس زينون لنفسه وتجاذبه أطراف الحديث مع حابي، والتمهيد من هذا للإيحاء القوي، الذي أراد شوقي أن يبسطه على الجمهور، فهو كما سنرى يحاول أن يضع في شخصية الملكة شيئا يشبه المغناطيسية الجنسية، ابرز تعلق زينون - وهو شيخ - بها. . . ثم افتتان حبرا الساحر بفتنتها، حين تغني بجمالها وتغزل. . بدلا من أن يرجم لها بالغيب. . ناهيك عما صوره من وله أنطونيو بها. . . مما لا مزيد عليه، ثم عطف أونبيس بعد ما أبدى بغضه، وشدة إخلاص وصيفاتها، وشاعرها، ومضحكها. . . حتى لقد كان شوقي أن يخلق لنا دراما أخرى في طيات الدراما الأصلية ليحقق هذا الغرض - غرض وصف إخلاص خدمها لها - ونقصد به، أي بالدراما الأخرى، انتحار هيلانة، رغم وجود عاطفة بينها وبين حابي. . ولكنه استدرك استدراكا - ليته ما استدركه - فلقد تخبط فيه بعد أن حله بمعجزة. . .! (معجزة حقة النجاة التي أعطاها أوبيس لحابي حتى تنجو هيلانة بعد ذلك. .) ويكفي هذا المنظر لنعلم إلى أي حد كان شوقي حريصا على أن تكون الحادثة التي يردها مؤدية إلى أهدافها التي يرمي إليها، فطبيعة الحوادث كانت منتقاة خاصا، في شيء كثير من الاصطناع والتعمل، الأمر الذي يبعد المسرحية عن الجو الواقعي الطبيعي إلى حد كبير. .
زد على هذا الخطأ الذي ارتكبه في اعتماده على المعجزة كما قدمنا
ب - طبيعة الحوار:
يتميز الحوار في مسرحية كليوباترا بقوة في واقعيته وطبيعة تكوينه حينا، ويضعف في واقعيته وطبيعته حينا آخر. . ومرد هذه الذبذبة بين القوة والضعف شيء واحد، وهو تمكن شوقي من ناصية النظم. . .
إذ أنه عندما يستهويه معنى من المعاني يخرج عن طبيعة الحوار، إذ يغربه ذلك بالاسترسال، فيطيل إطالة غريبة شاذة عن الواقعية في فاعلية الحوار، وحركته الجدلية الطبيعية، وتجاوبه المألوف. . خذ مثلا حوار أوروس وانطونيوس ابتداء من ص 58، فإن مشاركة أوروس في الحوار لا تتعدى خمسة أبيات على حين أربت أبيات انطونيوس على السبع صفحات. . . لا لشيء إلا لأن شوقي يريد أن يفرغ جعبته من الألفاظ الحربية المستمدة من الثقافة العربية الصرفة، غير بال بخرقه لقواعد المنطق السليم فيما يكون بين المتحاورين. . . على حين أنه - كما قدمنا - كان يمتلك ناصية الحوار حتى ليصل به إلى قوته الواقعية بنفس الملكة - ملكة النظم. . .
فنراه مثلا يدير دفة الحوار في سرعة، وتجاوب، وتفاعل. . . فلا تزيد العبارة عن لفظة، ويكتمل المعنى في كل ذلك، ومثلنا على ذلك الشواهد التالية:
يا ابنتي ودي هلما زيناني للمنية
غسلاني طيباني بالأفاويه الزكية
ألبساني حلة تعجب أنطونيو سنية
من ثياب كنت فيها أتلقاه صبية
ناولاني التاج تاج الشمس في ملك البرية
وانثرا بين يدي عرشي. . الرياحين البهية
. . . إنما نرى أن شوقي قد ركز شاعريته على الفصل الرابع فهو قد كان يعلم - وهو الشاعر المقتدر الأريب - مبلغ تأثير خواتيم الأحاسيس في النفوس
لقد كان يعلم أنه - لا بريق الفظ ولا رنين الجرس، ولا تصوير عظمة الملك. . . بأدوات كافية لإثارة العطف على البطلة. . وإنما يحدث هذا التأثير تصوير جوانب الضعف الإنساني
ج - لمحات نفسية:
ج - الفنان الذي يقدم للمسرح إنتاجه مطالب من الوجهة النفسية بشيئين:
أولهما: الفهم العميق للحركات النفسية لأبطال مسرحيته، وثانيهما التنبه لمواد التأثير في نفوس النظارة، الذين يتلقون هذه المسرحية بما يتفق والغرض الذي يرمي إليه من إثارة نفوسهم. . . وبمعنى آخر، فيما يتصل بموضوعنا. نريد أن نقول إن شوقي مطالب - إلى جانب فهمه لشخصيات أبطاله - بأن يوجه أدوات التعبير وجهة تأثيرية قوية، على من يطمع في رضائهم عن أبطاله، بما يحقق هدفه. . . وهدف شوقي في هذه المسرحية، فيما يبدو، هو تبرئة ساسة كليوباترا. . فكيف تأتى له ذلك. .؟
لقد اهتم اهتماما واضحا جليا بمس الجوانب الأنسانية من شخصية البطلة. . جعل لها بريقا. . ثم أطفأه. . وإن (المصائب المنزلية، والحوادث الاجتماعية لا تدهشنا حقيقة كما تدهشنا مصائب الملوك، ومخاطر الأبطال، وحوادث القصور. . ولكنها تؤثر فينا كل التأثير، لاتصالها بنا، واقترابها منا. .) كما يقول أستاذنا المتمكن الزيات بك في بحثه الفريد عن الرواية المسرحية في التاريخ والفن
لقد بث شوقي في تضاعيف شخصية البطلة كل ما يمكن بثه من خصائص الأنثى الجذابة المحبوبة العاطفية، ثم بالغ في لمس حياتها الحزينة، التي تستثير العطف والرثاء. . . فقد بدأ الفصل الرابع، واستلهم أسلوب المفاجأة العاطفي (الرومانس) وأجرى على لسان كليوباترا صرخة المرأة التي سلبت حبيبها، وتفردت بالألم. . ثم أجرى حديثا بينها وبين وصيفتها، ليس فيه شيء مما يكون بين السيد والمسود، فتركها إنسانة مجردة من كل شيء إلا من إنسانيتها. . . ثم صور أسى العظيم المهزوم حين تسمع كليوباترا دبيب حارس الأعداء فتقول إنه (معربد الخطو من نشوة النصر لا تسع الأرض رجليه من كبر) حتى إذا حادثها الحارس صانعته في غي كبر الملك، ثم تلتفت إلى وصيفتها قائلة:
يا شرميون تعلمي الدنيا ويا ... هيلانة اختبري الزمان القاسي
إن التي حرست بأبطال الوغى ... باتت تصانع سفلة الحراس
حتى إذا ما جاء حابي صالحته مصالحة الإنسان للإنسان، لا مصالحة الملك لفرد من الرعية، تقول:
وفيت لي حابي ولم تكن تفي
ثم تتلطف مع خادمتها فتقول للوصيفتين:
يا خادمي، بل ابنتي، تلطفا ... في البحث حتى تاتيا بإياس
وتقول:
يا ويح صحبي بعد طول سرورهم ... قعدوا إلى أحزانهم يبكون
وتقول:
أنشو. . يعز على إنك ساهم ... يبدو عليك الهم والتفكير البقية في العدد القادم
حسين كامل عزمي
السويس