مجلة الرسالة/العدد 946/رسالة المربي

مجلة الرسالة/العدد 946/رسالة المربي

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 08 - 1951



الحرية. . . المعنى الحقيقي لها. . . صلتها بالتربية. . .

تحديد رسالة المربي

للأستاذ كمال السيد درويش

(تابع)

لقد اختلف الناس حول تفسير الحرية منذ القدم وسوف يظلون على اختلافهم هذا. وهل ينعم المجتمع الإنساني حتى الآن بالحرية كما يجب أن يكون؟

إن أول معنى للحرية هو الذي فهمه الإنسان الأول حين كان يسعى في الغابات: حرية مطلقة غير مقيدة اللهم إلا بقيود البيئة التي يعيش فيها

ثم تطور معنى الحرية ينمو المجتمع الإنساني وظهور التقاليد تلك التي استبدت بحرية الإنسان وأخذت تسلبه إياها رويدا رويدا حتى شعر في النهاية بسلطانها الديكتاتوري فقام يثور ضد عبودية التقاليد. . . قام يستعيد حريته الأولى. . . حريته المطلقة عرف الإنسان الحرية بمعناها المطلق وما كاد يبتعد عنها حتى عاد إليها. وهذه هي الحرية التي نادى بها جان جاك روسو: (لقد ولد الإنسان حرا. .)

ولكن الحرية المطلقة كانت نكبة على الإنسان فنفر منها وهجرها. وكيف لا يفر منها وقد وجدها تقتل نفسها بنفسها فتستحيل بذلك إلى الديكتاتورية بعينها. ألست حرا في أن أفعل ما أشاء؟ وغيري أليس بدوره حرا؟ سأستعبده بحريتي المطلقة، وسيستعبدني بدوره وهكذا يصبح كل منا عبدا للآخر

جرب الإنسان الحرية المطلقة كما جرب الديكتاتورية فوجد أنهما اسمان لمسمى واحد، ذلك هو العبودية. وواجهته المشكلة فماذا فعل لحلها؟ لقد لجأ إلى الحل الوسط: يجب ألا يتمتع بالحرية هكذا مطلقة من كل القيود كما يجب ألا يعيش بدونها. الحرية المقيدة هي علاج حيرة الإنسان

وخرج الإنسان من المشكلة ليجد مشكلة أخرى اشد تعقيدا، حقا يجب تقييد الحرية ولكن إلى أي حد يجب تقييدها؟! ما اكثر القوانين التي وضعت لتقييد الحرية فإذا بها تلتف حول عنقها لتخنقها وتزهق روحها؟! ما الفائدة إذا كنا سنصيح مرددين: إيه أيتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمك؟! لا بد من تحديد المدى الذي يجب أن نذهب إليه في تقييد الحرية حتى لا تنقلب إلى ديكتاتورية وعبودية. ولكي نحدد المدى سنسير مع الطريقة النفسية فنسأل أنفسنا أولا:

ما هو الغرض من تقييد الحرية؟! أليس الغرض هو الكف من ضرر إطلاقها للمحافظة عليها؟ لتكن قيود الحرية هي تلك القيود التي تؤدي حقا إلى تقدمها ونموها لا إلى تأخرها وضمورها وهنا تتضح الصلة الوثيقة بين التربية وبين المعنى الحقيقي للحرية التربية قيد ووسيلة. هي قيد نقيد به حرية المتعلم كوسيلة من وسائل المحافظة على نمو هذه الحرية وازدهارها. وهذا مقياس يمكن أن نقيس به نجاح التربية في الوقت الحالي. أهي قيد يزيد في حرية الإنسان وفي مدى تمتعه بالحياة؟ أم هي عبء ثقيل حرم الإنسان حريته ولا يزال يسلبه إياها كبيرا؟

هذا الطفل الناشئ! لماذا نعلمه؟ أليس غرضنا من ذلك أن نجعله أقدر على فهم مجتمعه والاندماج فيه والتمتع بأكبر قسط من الحرية في الحياة؟ ألسنا نزوده بخبرة من سبقه من الناس لينتفع بها في التغلب على ما يصادفه من عقبات، وكلما تمكن من ذلك اتسع مجال الحرية أمامه لينعم بالحياة؟ إن التربية قيد ضروري لحرية الإنسان وهي بذلك جزء لا يتجزأ منها وعلى العكس من ذلك لو زودنا الطفل بتعليم جاف جامد ليست له أية قيمة علمية في الحياة لن يستفيد منه قط ولن يستخدمه في تذليل ما سيصادفه من مشاكل وعقبات - وما أكثرها - في الحياة. لم يعطه ذلك التعليم أية حرية في الحياة. وهكذا يصبح في نظره مجرد قيد لا اكثر ولا اقل. . مجرد عبء يضاف إلى أعبائه فيثقلها، ومشكلة تضاف إلى مشاكله فتعقدها، ويكون مثل المتعلم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا

يتضح من ذلك أن رسالة المربي يجب أن تكون في العمل بالطريقة السيكولوجية (النفسية) لا المنطقية وفي التخلص من ديكتاتورية التقاليد وفي توطيد دعائم الحرية. . الحرية المقيدة لا المطلقة،. . والحرية المقيدة بأي نوع من أنواع القيود؟! بالقيود التي تزيد في الحرية نفسها

هذا هو الأساس الفلسفي لرسالة المربي في الحياة سواء أكان مدرسا أم غير مدرس. وتلك هي الخلاصة التي استخلصتها الإنسانية خلال العصور، وبعد أن جربت مختلف الاتجاهات فلم تنته إلا إليها، والتي تتمثل في كتابات كبار فلاسفة التربية في الوقت الحالي

ولكن. . كيف يمكن إخراج هذا الأساس الفلسفي إلى خير الوجود العملي؟! سوف يكون ذلك موضوع المقال القادم بإذن الله

كمال السيد دروبش

ليسانيسية الآداب بأمتياز - دبلوم معهد التربية العالي

مدرس بالرمل الثانوية