مجلة الرسالة/العدد 946/شاعر مجهول
مجلة الرسالة/العدد 946/شاعر مجهول
2 - شاعر مجهول
للأستاذ حسني كنعان
شاع في سوريا أن قوة كثيفة قادمة من الأناضول التركي يتقدمها كبار القادة والصدر الأعظم قد أعدها السلطان للقضاء على جيش إبراهيم باشا والقضاء على حركته التحريرية قبل أن يستشري شرها ويستفحل أمرها. وما كادت تتخطى هذه القوة حلب وتصل إلى منبج حتى تلقتها أيدي الصقور المصرية، فأسرت القادة ثم أسرت الصدر الأعظم نفسه، فتمزق ذلك الجيش الذي أطلقوا عليه جيش الخلاص والإنقاذ، ففر منه عائدا إلى تركيا، وأسر من أسر من أفراده، فكانت هذه النكسة للأتراك بمثابة فضيحة كبرى طمعت الدول الأجنبية بهم، وجعلتهم يطلقون على الدولة العثمانية الرجل المريض، فأزمعوا تقسيمها مذ رأوا أن عاملا من ولاتها استطاع أن يغلبها على أمرها ويضطرها إلى الاستعانة بهم. وكان من أمر الأجانب المستعمرين الطامعين ما كان من التدخل في شؤون الدولة العثمانية، وتغير وجه التاريخ، ولولا ذلك التدخل لرفرف العلم المصري فوق سراي يلديز مقر سلاطين آل عثمان ولتحررت البلاد العربية جميعها، فاستدعى محمد علي ولده إبراهيم إلى القاهرة ليتداولا في الأمر، وكان معه شاعرنا الجندي الذي سبقه اسمه إلى مصر وذاع خبره فيها، لأن قصائده في مدح الباشا القائد ووصف معاركه قد تنقلها الأيدي وتداولتها الأسماع، فلقى هناك من حفاوة شعراء ذلك العصر وأدبائهم ما جعله مغتبطا مسرورا بهذه الزيارة، فمدح أميرها بما جعله مرموقا في أعين أمرائها وزعمائها. ومما قاله في مدح محمد علي الكبير من قصيدة جاء فيها
سرت والنور يغشاها سحيرا ... وعرف المسك يصحبها مليا
وسرت متابعا بللثم منها ... وماطيء نصلها الرطب الزكيا
إلى أن أجلستني فوق عرش ... لدى قصر حوى روضا بهيا
ذكرت لها الأفاضل فاستهلت ... بمن لأبي الحسين غدا سميا
إماما عارفا برا تقيا ... خفاجيا كريما أريحيا
إذا ما قال أما بعد يبدي ... لنا إيضاحه المعنى الخفيا
به مذ شرفت ضمياط قدرا ... كساها المجد ثوبا سندسي أعار الزي أحنف بن قيس ... وفاق يحسن سيرته الثريا
يمر على البلاد كنيل مصر ... فيروى أهلها حيا فحيا
نعم أم الزمان غدت عقيما ... إذا عن مثله فاقصر أخيا
لنحو علاك بنت الفكر وافت ... وغيرك لم نجد خلا وفيا
فهب تقصير شعري لاعترافي ... أيا من فاق في الفضل الرضيا
فإني فيك قد شرفت نظمي ... وجئت أروم منحا أخرويا
وصل مسلما دوما على من ... على بالجسم مرتبة الثريا
وآل ما البديعة في خباها ... بدت شمسا وماست سمهريا
فكان لهذه القصيدة تأثيرها الحسن لدى الأمير المصري الكبير وكان لها وقعها وصداها
مكث الجندي مدة في القاهرة يتمتع بعطف الأسرة العلوية ويرتع في خبراتها ومباراتها، ينظم فيها القصائد ويضع القدود والموشحات، وكان طوال إقامته في مصر كعبة قصاد أهل الفن، أخذ عنه أرباب الفن كثيرا من الموشحات والمواويل والقدود والأدوار والقصائد، فلحنوا هناك. وكانت لهم بمثابة مادة فنية جديدة أكبوا على تلحينها والتغني بها مدة من الزمن أفاضت على القطر لونا جديدا من ألوان الغناء، فيها المتعة واللذة والمعاني المبتكرة الأخاذة، ولا تزال موشحاته وقدوده تستعمل في المغنى القديم حتى الآن دون أن تعرف أنها من نظمه ووضعه، منها موشح
يا غزالي كيف عنى أبعدوك (من نغمة الإصبعان)
ومنها موشح تيمتني (من نغمة البياتي) ومنها موشح أهوى الغزال الربربي باهي الجمال من نغمة الحجاز التي نشرت في الرسالة سابقا. ومن الموشحات المشهورة التي لم تنشر هنا بعد قوله من نغمة البياتي - نواه
يا صاح الصبر وهي مني ... وشقيق الروح نأي عني
بالحسن يفوق على الند ... إن ماس بأثواب الند
وحسام لواحظه الهندي ... قد جرد من غمد الجفن
شمس بأطالسها حلت ... ولبند ذوائبها حلت
وبشهد مباسمها حلت ... للكأس فما بنت الدن بلطافة معناها رقت ... ولمد محاسنها رقت
ولفرط نحولي مذ رقت ... لطفا أحسنت بها ظني
زارت والعنبر يصحبها ... وسحاب النور يحجبها
وإذا ما لاح منقبها ... أبصرت الشمس على الغصن
ما أحلى حين أشاهدها ... وبما ترضاه أناشدها
واجلي للقلب مشاهدها ... من راجي الغفلة والظن
وهناك موشحات في الديوان أرى من الفائدة الإتيان على ذكرها في هذه الكلمة تتمة للفائدة: منها موشح من نغمة الرصد: مطلعه
الحب في صدق النية ... خير الصفات المرضية
قد لذ صافي المشرب ... في حالة الباز الأشهب
وصار لي نعم المذهب ... هجر السوي بالكلية
طابت ليالي الأفراح=وراق خمر الأقداح
وقد زكا للأرواح ... نشر الرياض الإنسية
سلطان أهل التحقيق ... بعد الإمام الصديق
ما حي ظلام التعويق ... راقي مقام القطبية
مالي إذا عز الناصر ... إلا حمى عبد القادر
راعي الحمى الزاخر ... سر المعاني القدسية
إن كنت معنا فاتبعنا ... واصبر على البلوى معنا
وإن تسل عن ذي المعنى ... هذا طريق الصوفية
صلاة مولاي الباري ... على النبي المختار
والآل عد الأمطار ... أزكى صلاة مرضية
هذا لون من ألوان الموشحات الصوفية المتداولة لدينا حتى الآن في حلقات الأذكار، وأردته على صوفية شاعرنا وهوايته في المذهب. ولقد كان أهل زمانه يضعونه في مصاف الأقطاب أهل الكشف أصحاب الكرامات. وقيل إنه زار حلب في سنة من السنين وكانت سنة ما حلة مجدبة ما بضت السماء بقطرة مطر واحدة، فخرج الحلبيون إلى العراء يستسقون ويستغيثون وكان هذا الجندي في طلعيتهم، فنظم في الحال موشحه المشهور الذي نشرته الرسالة سابقا ومطلعة
يا ذا العطا يا ذا السخا يا ذا الوفا ... إسق العطاش تكرما فالعقل طاش من الظما
إلى آخر الأبيات، ويذكر الطاعنون في السن في بلادنا الشامية نقلا عن آبائهم وأجدادهم، أن مواكب المستغيثين ما كاد يصل إلى المدينة راجعا من العراء حتى جادت السماء بغيث مدرار لم تحصل عليه التربة الحلبية منذ عشرات السنين، وبهذا أنقذ الموسم. . . وكانت سنتئذ تعد من السنين المخصبة الممرعة لديهم. ولهذا لا يزال الحلبيون حتى الآن يفزعون إلى العراء كلما ضنت عليهم السحب بالأمطار، ينشدون هذه الموشحات إذ يعتقدون فيها الخير والبركة. . . ولكن الخير والبركة بعيدتان عن أهل هذا العصر الذي طغى عليهم فيه الكفر والإلحاد. . . فلم تعد تفيدهم في ضن مواسمهم وشحها لا توسلات إسق العطاش ولا بل الفراش. . . فديوان شاعرنا قد حوى الكثير من أمثال هذه الموشحات التي يضيق المقام عن سردها. أما في الأشعار الغزلية فلقد فاضت ريحة الشاعر المطبوع بالشيء الكثير، ومن أغرب ما رأيته فيها قوله من قصيدة له مشهورة مطلعها
هزوا القدود فأخجلوا سمر القنا ... وتقلدوا عوض السويف الأعينا
وتبادروا للعاشقين فكلهم ... طلب النجاة لنفسه إلا أنا
لا خير في جفن إذا لم يكتحل ... أرقا ولا جسد تجافاه الضنا
لما انثنى من سندس ... قالت غصون البان: ما أبقى لنا؟
وبثغره وبخده وعذاره ... معنى العذيب وبارق والمنحنى
أقسى علي من الحديد فؤاده ... ومن الحرير نراه خدا لينا
قلبه القاسي ورقة خصره ... هلا نقلت إلى هنا من ها هنا
شبهته بالبدر قال ظلمتني ... يا عاشقي بالله ظلما بينا
من أين للبدر الأتم ذوائبا ... أو مقلة أو ورد خد يجتني
البدر ينقص والكمال لطلعتي ... فلذاك قد أصبحت منه أحسنا
لو أن رقة خصره في قلبه ... ما كان جار على المحب ولا جنى
هذا نوع من أنواع أشعاره في الغزل وهي كثيرة ولا يحصى لها عد، أقل ما يقال فيها أنها وإن كانت قديمة لا تتمشى مع رغبات أبناء العصر الحاضر، إلا أنها في ثناياها حشاشة شاعر تكاد تذوب ورقة وتقطر حلاوة وفنا
يتبع
حسني كنعان
دمشق