مجلة الرسالة/العدد 947/النسيان في نظر التحليل النفسي

مجلة الرسالة/العدد 947/النسيان في نظر التحليل النفسي

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1951



للآنسة فائزة علي كامل

كان العلماء النفسانيين يوجهون كل اهتمامهم إلى دراسة الذاكرة، تاركين جانبا ظاهرة النسيان، إلى أن كان أواخر القرن التاسع عشر فانعكست الآية واحتلت الأبحاث في النسيان مكان الصدارة. ويرجع الفضل في ذلك إلى (فرويد) الذي ألقى ضوءا على هذه العملية فأبان ما فيها من ديناميكية لم تكن معروفة من قبل

لقد كانت الآراء السائدة ترد النسيان تارة إلى عدم الانتباه؛ وأخرى إلى علل فسيولوجية، وثالثة إلى عوامل نفسية وفسيولوجية معاً. درس (فرويد) هذه النظريات وصرح بأنها ليست خاطئة من أساسها، ولكنها في حاجة إلى التعديل، إذ ليست جامعة لتفسير كل حالات النسيان

أخذ (فرويد) يدرس ما سماه (الأفعال الفاشلة)، وهي تلك الحوادث البسيطة التي نصادفها في حياتنا اليومية كفلتات اللسان، وفلتات القلم، وأخطاء السمع. وكالنسيان الذي يظل لفترة معينة مثل نسيان اسم شخص أو موضع شيء ثم نذكره بعد مدة قد تطول أو تقصر

إن هذه الوقائع لو طلبنا تفسيرها من شخص عادي فإنه قد يستخف بنا في بادئ الأمر وينظر إلينا شزرا، ثم يقول أنها أشياء تافهة في نظره، يتحكم فيها عامل الصدفة ولا تحتاج إلى شرح أكثر من ذلك. فإذا عدنا وسألناه: ماذا تعني بذلك؟ هل تعني أنه توجد حوادث تقع خارج سلسلة ظواهر العالم وقد بلغت حدا من التفاهة جعل حدوثها وعدم حدوثها سيين؟ أنك بذلك تحطم قانون الحتمية وتقلب التصور العلمي للعالم. هنا نجد أن الشخص سيتراجع ويحاول أن يجد علة لهذه الأفعال فيقول: إنها تحدث عندما يكون الإنسان منحرف المزاج أو متعبا أو عندما يستثار أو عندما يشرد ذهنه عن الشيء الذي يقوله أو يقوم بأدائه

لو أنعمنا النظر فيما أتى به هذا الشخص العادي لوجدنا أنه يقول بعامل واحد هو عدم الانتباه، وهذا ينشأ نتيجة عوامل فسيولوجية كالتعب، والصداع، والهزال. . الخ. أو عوامل نفسية فسيولوجية كتشتت الفكر، الاستثارة. . . الخ. ولكن هل حقا أن عدم الانتباه هو وحده الذي يوقع في فلتات اللسان فيجعل الخطيب يخطئ ويأتي بكلمة عكس المقصود مثلاً؟ يجيب (فرويد) بأن ذلك وأن كان عاملا مساعدا إلا أنه ليس العلة الحقيقية. فماذ نقول إزاء نسياننا كلمة معينة على الرغم من توجيه الانتباه إليها وقول الشخص (إنها على طرف لساني)!؟

يرى (فرويد) أن العلة الحقة هي الاضطراب في الانتباه لا القلة فيه. فسبب هذه الأفعال هو اضطراب في الانتباه نشأ من تدخل مجرى آخر من الأفكار. ففلتات اللسان مثلاً هي نتيجة تداخل غرضين أثناء الكلام، فإذا تغلب أحد الغرضين يؤدي إلى تشويه أو تحوير الكلمات والأسماء فتأتي الفلتة بمعنى تهكمي أو هزلي. ويسري هذا على فلتات القلم وأخطاء السمع ونسيان الكلمات والأسماء لزمن معين. فهذه كلها أفعال لها معنى، إنها أفعال نفسية لها هدف خاص

إن فكرة التقاء القوى هي الفكرة الأساسية لدى فرويد وأثرها ظاهر في تفسيره للنسيان. فهو لا يرجعه إلى ضعف في الذاكرة، وإنما يراه نتيجة دافع مكبوت بواسطة قوى معاكسة، هو نتيجة اصطدام مؤثر محرك في طريقه إلى التصريف بمؤثر آخر فيؤدي ذلك إلى كبته. فالاسم المنسي أو الكلمة المنسية غالباً ما يكون لها علاقة بشخصية الفرد ويثيران فيه انفعالات عنيفة ومؤلمة. فتبعا لمدرسة زيورخ نستطيع أن نقول انهما يمسان (عقدة شخصية). قد تكون هذه العقدة مهنية كما نسى (فرويد) اسم مستشفى وهو لأنه يتصل بالأعصاب وقد تكون عائلية كنسيان (فرويد) أيضا اسم محطة لأن أخته كان اسمها فمن أهم الدوافع التي تساعد على النسيان الميل إلى تحاشي عودة الألم إلى الذاكرة، إذ أن كل شخص يود نسيان الأشياء المكدرة. أنه يوجد صراع نفسي مستمر لاستبعاد الخبرة المؤلمة من الشعور، وهكذا. . فالنسيان ليس إلا عملية دفاعية تتم بطريقة لا شعورية لتصل الأنا إلى حالة نتمتع فيها بالارتياح

كذلك يلاحظ أن الشيء قد ينسى لارتباطه بشيء له أثر مؤلم. ويأتي (فرويد) بمثال شاب غير موفق في حياته الزوجية لبرود الزوجة. وفي ذات يوم قدمت له تلك الزوجة كتابا اشترته له لعلمها بأن فيه ما يهمه. فشكرها على هذا الاهتمام ووعدها بأن يقرأه. ومر شهران دون أن يقرأه، ثم تذكره وقام ليبحث عنه ولكنه لم يستطع العثور عليه إذ نسي نسيانا تاما ذلك الموضع الذي وضعه فيه. ومرت ستة شهور ثم مرضت أم الزوج مرضاً خطيراً ولم تكن تقطن مع ابنها، وهنا تركت الزوجة منزلها وذهبت إلى منزل حماتها، وقامت بتمريضها خير قيام وأظهرت عناية فائقة بها مما أفعم قلب الزوج بحب زوجته لما تبين فيها من نبل ووفاء. وفي هذه الأثناء عاد الزوج إلى منزله وإذا به يتقدم من المكتب ويفتح درجا معينا فيجد الكتاب المفقود

إن الميل إلى نسيان الأشياء التي لا يحبها الإنسان شيء عام، وما الانكارات والتكذيبات التي يصادفها الطبيب أثناء عمله إلا إحدى نتائج هذا الميل. فمثلا جاءت أم إلى فرويد وعرضت عليه ابنها العصبي وفي أثناء حديثها ذكرت له أن الولد يتبول تبولا لا إراديا أثناء الليل، وأن أخوته وأخواته كانوا مثله أيضا، ثم مرت عدة أسابيع وحضرت الأم فسألها (فرويد) عن بعض الأشياء ومن بينها مسألة (البول) وإذا بها تنكر هذه الواقعة بالنسبة للمريض وبالنسبة لأخوته وتعجب وتتساءل: من أين عرفت هذا؟! وهنا ذكرها فرويد بسياق الحديث السابق الذي دار بينهما وظهر أنها هي التي صرحت بذلك!

وإن (دارون) يؤيد قول (فرويد) بأن الأشياء المؤلمة تكون أسرع إلى النسيان من غيرها. فهو يذكر أنه يسير على قانون ذهبي يتلخص في أن يأخذ مذكرة بكل واقعة أو فكرة أو ملاحظة جديدة تنشر وتكون معارضة نتائجه العامة. فقد اتضح له من تجاربه أن مثل هذه الوقائع والأفكار أكثر فرارا من الذاكرة عن الوقائع والأفكار المحببة إلى الشخص

وهكذا يأتي (فرويد) بهذه النظرية الجديدة لتفسير النسيان، فهو في نظره إنما يرجع إلى اضطراب في الانتباه منشؤه دوافع لا شعورية تعمل على إبعاد الأفكار التي توقظ شعورا مؤلما. فكل عملية عقلية يصحبها قدر معين من الطاقة النفسية فإذا زاد هذا القدر إلى حد كبير فإن الشخص يشعر بعدم الارتياح، ولذلك يوجد ميل دائم إلى تصريف هذه الطاقة حتى يتجنب الألم ويمنع نشوب التوتر النفسي. فإذا حدث أن حلت عملية عقلية معارضة لمؤثرات أخرى واصطدمت بالنشاط الترابطي المعتاد فإن هذه العملية العقلية تفصل وهذا دفاع شبيه باستجابة الهرب لمنبه مؤلم

ان الميل لنسيان ما هو مكدر وغير سار شيء ضروري ولازم لكل إنسان يعيش على سطح البسيطة. . إذ أنه لا يستطيع الخلاص من حدوث أشياء مؤلمة تنغصه. . كما لا يقدر على التحرر من الانفعالات الشديدة الناجمة عن تأنيب الضمير أو الشعور باللوم والخجل. . أو الإحساس باقتراف الإثم واستحقاق العقاب فائزة علي كامل

طالبة ماجستير بقسم الفلسفة