مجلة الرسالة/العدد 952/ أصحاب المعالي،

مجلة الرسالة/العدد 952/ أصحاب المعالي،

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1951


2 - أصحاب المعالي

(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)

(حديث شريف)

للأستاذ محمد محمود زيتون

والسموأل يباعد ويقارب بين الطرفين البعيدين في هذه الصورة الشعرية إذ يقول:

لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل

رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل

هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره ... يعز على من رامه ويطول

علونا إلى خير الظهور وحطنا ... لوقت إلى خير البطون نزول

ولم يكن أمام الحارث بن حلزة ما يعوق رقيه وانتماءه إلى ذروة الشرف، يقول:

فبقينا على الشناءة تنمينا ... حصون وعزة قعساء

ويقول عنترة العبسي وقد جمع بين الحركة إلى أعلى وخوض الحروب ونيل الرتب:

ولى بيت علا ذلك الثريا ... تخر لعظم هيبته البيوت

وخضت بمهجتي بحر المنايا ... ونار الحرب تتقد اتقادا

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ... ولا ينال العلا من طبعه الغضب

وهو الذي لم يقعد بسواد وجهه عن النهوض والجهاد. وفي ذلك يقول:

وأختر لنفسك منزلاً تعلو به ... أو مت كريماً تحت ظل القسطل

إن كنت في عدد العبيد، فهمتي ... فوق الثريا والسماك الأعزل

وبذابلي ومهندي نلت العلا ... لا بالقرابة والعديد الأجزل

لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل

تلك هي مؤهلات المجد التي ابتدعها عنترة، وحرص على إبرازها، فكان له مكانه الممتاز بين أصحاب المعالي، وحسبه شرفاً أن له - وهو العبد الأسود - همة عالية نالها بالقوة لا بالانتساب إلى سادة العرب محتداً وعديداً، وأحق معادن الرجولة بالإشادة هذا المعدن العنتري النادر أو كما يقول شاعر قديم:

شباب قنع لا خير فيهم ... وبورك في الشباب الطامحينا

وأصحاب المعالي من القوة بحيث يتفاوتون في درجات التصعيد، كل على حسب طاقته من التصميم على إدراك الغاية: فهذا النابغة الذبياني يمدح عمرو بن الحارث_ألا أنعم صباحاً، أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك. . والسخاء ظهارتك، والحمية بطانتك، والعلا غايتك.) وتلازمه هذه النزعة حتى وهو يمدح النعمان بن المنذر ملك العرب:

كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

هذا في حين نرى عنترة - وهو الباطش الشديد - يتوعد النعمان بهذا الشعر المليء بالذخيرة، المفعم باللهيب، المختضب بالدماء:

اليوم تعلم يا نعمان أي فتى ... يلقى أخاك الذي قدر غره العصب

فتى يخوض غمار الحرب مبتسماً ... وينثني وسنان الرمح مختضب

إن سل صارمه سالت مضاربه ... وأشرق الجو وانشقت له الحجب

والخيل تشهد لي أني أكفكفها ... والطعن مثل شرار النار يلتهب

والنقع يوم طراد الخيل يشهد لي ... والضرب والطعن والأقلام والكتب

ومن هنا نرى الفرق بين النعمان وعنترة في القدرة على التصعيد في طلب المعاني النادرة، والامتزاج بالطبيعة في توليد القوى الدافعة الرافعة معاً.

وهذا ابن المنير الطرابلسي ينزل القمر - كرمز للجمال - من السماء إلى الأرض فيقول:

وأنزل النير الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسوراني

ومثله في هذا محمد بن وهيب إذ يقول:

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر

وكان زهير بن أبي سلمى - على تقواه وروعه وسيادته وغناه - من دعاة المغامرة في طلب العزة ولو لقي في ذلك حتفه، قال يمدح الرجلين الساعيين في إصلاح ذات البين بين عبس وذبيان، وذلك كنز من المجد يرفع صاحبه: قال:

عظيمتين في عليا معد هديتما ... ومن يستبح كنزاً من المجد يعظم ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلم

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم

ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ... ومن لا يكرم نسفه لا يكرم

ويقول أمية بن أبي الصلت: وقد أدرك الإسلام ولم يسلك:

ورثنا المجد من كبرى نزار ... فأورثنا مآثرنا بنينا

وهو المادح بقوله:

وأرضك كل مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء

وبذلك جعل الطريف سقفاً للتليد. والسماء أشرف من الأرض على كل حال.

ومن أصحاب المعالي الشعراء من جعل للعلا عينا وحاجباً، واختار لها خدنا وقرينا، من هؤلاء الخطيب أبو محمد إذ يقول:

(لقد رأيت الثناء حقاً واجباً. على من غدا للعلا عيناً وحاجبا، وسلب الوفاء صاحب القوس (حاجبا). وقال أيضاً:

من ذا يفيد فديتكم زواره ... خطط النوال غرائبا ورغائبا

أم من غدا خدن العلا وقرينها ... فظننت ذا عينا وهذا حاجبا

وجعل أبو العتاهية للعلا يداً إذ قال في مدح الرشيد:

بسطت لنا شرقاً وغرباً يد العلا ... فأوسعت شرقياً وأوسعت غربياً

وأكثرهم يجعل المجد بناء يسقفونه بالممدوح أو يجعلونه رداء وإزاراً له، قالت الخنساء في صخر:

وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى

وقال أبو فراس الحمداني في رثاء جابر بن ناصر الدين:

لما تسربل بالفضائل وارتدى ... برد العلا واعتم بالإقبال

وقال الإمام السبكي وقد جعل للمعالي أذيالاً يجرها بنو النجار فخراً بالنبي:

نزلت على قوم بأيمن طائر ... لأنك ميمون السنا والنقيبة

فيا لبني النجار من شرف به ... يجرون أذيال المعالي الشريفة وحافظ إبراهيم قد تجشم الصعب لكي يلبس المجد معلماً، بينما جعل محمود صفوت الساعاتي للعلا عيوناً تبكي على عزيز راحل:

بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من حزنها الكتب

ومنهم من نصب خيام العز على ظهر السماك، فهذه نقية بنت الخطيب تقول:

أعوامنا قد أشرقت أيامها ... وعلا على ظهر السماك خيامها

ومنهم من لم يرض بالأرض مقاماً، فارتفع إلى ما فوق السماء بالعفة والكرامة، قال أبو ليلى النابغة عبد الله بن قيس في حضرة رسول الله:

علونا السماء عفة وتكرماً ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فتغضب رسول الله، وبان ذلك في وجهه وقال: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟

قال: إلى الجنة يا رسول الله. فقال النبي: أجل إن شاء الله ذلك لأن الله سبحانه وتعالى وصف الجنة بالعلو فقال:

(في جنة عالية)

ويقول أبو النجم العجلي:

ثم جزاه الله عنا إذ جزى ... جنات عدن في العلالي والعلا

ويقول أبو العتاهية في القلم:

لك القلم الأعلى الذي بسنانه ... يصاب من المرء الكلى والمفاصل

ومن شعراء العرب من يقصر المعالي أحياناً على الممدوح فيقول:

قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلا والمثل الثاقب

وقد ينزل أحدهم الثريا من السماء ليضعها على نحر الحبيب فيقول:

كأن الثريا فوق نحرها ... توقد في الظلماء أي توقد

وإنما يرتفع الفرد وتعلو الجماعة ينشدان الكمال جداً واجتهاداً كما يقول القائل:

دنوت للمجد والساعون قد بانوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا

وكابدوا الجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تدرك المجد حتى تلعق الصبرا

ولا يخفض القبيلة وأفرادها إلا التخلف عن طلب المعالي، قال الشاعر في (قصي): ألهي قصياً عن المجد الأساطير ... ورشوة مثلما ترشى السفاسير

وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له ... وقولها: رحلت عير. . أتت عير

وما أبدع الجمع بين الغرام والجهاد في قول الشاعر الذي يطلب العزة في الكأس والقبلة، وقد تمناهما في قبة الفلك وجبهة الأسد، وترفعا بهما عن الابتذال:

ليت الملاح وليت الراح قد وضعا ... في جبهة الليث أو في قبة الفلك

كما يقبل ذا حسن سوى ملك ... ولا يطوف بحانات سوى ملك

ويضع الحافظ أبو الطاهر السلقي أهل الحديث في أعلى مكان حيث لا يدانيهم أحد من الناس:

أهل الحديث هم الرجال البزل ... ومن المعالي في الأعالي نزل

هل يستوي السمك الذي تحت الثرى ... أبداً مقيم والسماك الأعزل

أما الخنساء فقد قالت ترثى أخاها صخراً وفي مرجل نفسها تعتمل عناصر القوة مع مؤهلات المجد:

طويل النجاد رفيع العما - د ساد عشيرته أمردا

إذا القوم مدوا أياديهم ... إلى المجد مد إليه يدا

فنال الذي فوق أيديهمو ... من المجد ثم مضى مصعدا

يحمله القوم فوق ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا

وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى

وتقول أيضاً:

وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم من فوقه نار

ومن الناس من يتعالى بنفسه إذا تكبر عليه أحد أو تباعد عنه، قال الشاعر:

وإني إذا ما لم تصلني خلتي ... وتباعدت مني اعتليت بعادها

أي علوت بعادها ببعاد أشد منه، وقال أحمد بن بلال بن جرير

لعمرك إني يوم فيد لمعتل ... بما ساء أعدائي على كثرة الرجز

أي عار قادر قاهر

وليس يتساوى عند الموت خامل وعامل، فمن كان في الحياة عالياً فهو كذلك عند الموت، قال أبو الحسن الأنباري في رثاء أبي طاهر محمد بن بقية وزير عز الدولة بن بويه عندما صلبه عضد الدولة، وتمنى الشاعر أن لو كان هو المصلوب، وقيلت فيه هذه القصيدة التي قال في مطلعها:

علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات

ومنها:

ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الوفاة

أصاروا الجو قبرك واستعاضوا ... عن الأكفان ثوب السافيات

ومنها:

ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات

حتى المرأى كانت ترى أنه صاحبة المعالي حين تبدي زينتها وتمشي تيهاً ودلالاً، فقد كتبت ولادة بنت المستكفي على تاجها بسلوك من الذهب:

أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وآتيه تيهاً

وأمكن عاشقي من لثم ثغري ... وأعطى قبلتي من يشتهيها

وليس يصلح للمعالي كل من استند إلى نسب أو حسب، وإن كان يصلح لها خامل الآباء إذا طلب الأسباب، لهذا يقول أبو الأسود الدؤلي:

كم سيد بطل آباؤه نجب ... كانوا الرءوس فأمسى بعدهم ذنبا

ومقرف خامل الآباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرتبا

وبالعزيمة الصادقة يبلغ المرء هذه الدرجات كما تقول ليلى الأخيلية:

فتى كانت الدنيا تهون بأسرها ... عليه ولا ينفك جم التصرف

ينال عليات الأمور بعزمه ... إذا هي أعيت كل خرق مشرف

ويتفلسف ابن المعتز في (مؤنة المعالي) فيقول:

(لن تكسب - أعزك الله - المحامد، وتستوجب الشرف إلا بالحمل على النفس والحال، والنهوض بحمل الأثقال، وبذل الجاه والمال، ولو كانت المكارم تنال بغير مؤنة لاشترك فيها السفل والأحرار، وتساهمها الوضعاء من ذوي الأخطار، ولكن الله تعالى خص الكرماء الذين جعلهم أهلها. فخفف عليهم حملها وسوغهم فضلها، وحظرها على السفلة، لصغر أقدارهم عنها وبعد طباعهم منها، ونفورها عنهم واقشعرارها منهم).

أما الفرزدق فيرى مؤهلات المجد في عزة النفس وكثرة العدد:

لنا العزة القعساء والعدد الذي ... عليه إذا عد الحصى يتخلف

ويرى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب أن الإسلام هو العيش العالي، ولو أصيب في سبيله بما أصيب، فهو القائل عندما قطعت رجله في غزوة بدر، وتوسد قدم النبي عليه السلام:

فإن يقطعوا رجلي فإني مسلم ... أرجى به عيشاً من الله عاليا

وألبسني الرحمن من فضل منة ... لباسها من الإسلام غطى المساويا

ويرى الإمام علي كرّم الله وجهه أن مطالب العلا كثيرة، وتستلزم بذل المال، وحسن الخلق، والاعتصام بالله وحده، وشكر نعمه، وكذلك العلم والسفر فهو القائل:

ونافس ببذل المال في طلب العلا ... بهمة محمود الخلائق ماجد

وبالله فاستعصم ولا ترج غيره ... ولا تك في النعماء عنه بجاحد

ويقول:

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمو ... على الهدى لمن استهدى أدلاء

ويقول:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرج غم واكتساب معيشة ... وعلم وآداب وصحبة ماجد

فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة ... وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد

فموت الفتى خير له من مقامه=بدار هوان بين واش وحاسد

ويرى البارودي كل شيء محبب في سبيل المعالي:

ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب

أما شوقي فيتخذ عزة النفس والإباء سلماً لطلب العلا:

ينال العلا من لا يرى في سبيلها ... رضاء يخسف أو قعودا إلى حكم

أأقبل أن يستعبد الضيم مهجتي ... وما خلقت إلا قضاء على الضيم

والعلم في نظر الشيخ طنطاوي جوهري هو مذهبه في المعالي: لي في العلا مذهب سارت به السلف ... فلا أبالي إذا ما ضله الخلف

ومنها:

أبيت إلا المعالي والمعارف إذ ... أرى الجهالة عاراً ليس ينكشف

وكم خطبت المعالي وهي ترمقني ... ولم يعقني عن إدراكها الترف

ولم يكن خجل عائشة التيمورية ولا الحجاب بمانعها عن العلياء:

ما عاقني خجلي عن العليا ولا ... سدل الخمار بلمتي ونقابي

عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت ... صعب السباق مطامح الركاب

ويحتفل صفي الدين الحلي بالأخطار والأخلاق، ما دامت عليات الأمور رائد الكريم:

لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ... ولا ينال العلا من قدم الحذرا

ومن أراد العلا عفواً بلا تعب ... قضى ولم يقض من إدراكها وطرا

لا بد للشهد من نحل يمنعه ... ولا يجتني النفع من لم يحمل الضررا

لا يبلغ السؤل إلا بعد مؤلمة ... ولا يتم المنى إلا لمن صبرا

ويقول:

ولا ينال العلا إلا فتى شرفت ... خصاله فأطاع الدهر ما أمرا

والعفاف والإقدام والحزم والجود هي المؤهلات التي لا بد منها - في نظر أبي العلاء - في سبيل المجد:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل ... عفاف وإقدام وحزم ونائل

ولا يحمي الشرف العالي من الأذى إلا السيف في رأي المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم

ولا يصون العلا في نظره إلا استعمال الشدة في موضع الشدة، والحلم في موضع الحلم:

وما قتل الأحرار كالعفو عنهمو ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى

للكلام صلة

محمد محمود زيتون