مجلة الرسالة/العدد 954/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 954/الكتب
الشيوعية على حقيقتها
تأليف عمر بك الإسكندري
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
مؤلف هذا الكتاب أستاذ قديم، غني عن التعريف به، هو الأستاذ عمر بك الإسكندري، شقيق المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري، فقيد العالم العربي والإسلامي على السواء. .
وعمر بك رجل لم يعرف في حياته غير الجد والعمل، والإخلاص والسعي، فأمكنه أن يستفيد من كل لحظة من لحظات حياته، وشغله العلم وجلاله، عن السياسة وسلطانها الغالب، وزخرفها الكاذب.
زاول التدريس شاباً في معاهده الثانوية والعالية، فأقبل على العلم يستزيد منه، وينهل من مناهله، ويغترف من بحاره ما وسعه الاغتراف، فألف التاريخ كتابيه تاريخ مصر إلى الفتح العثماني، وتاريخ مصر من الفتح العثماني إلى العصر الحديث - في وقت لم يكن من السهل التأليف في التاريخ. ثم ارتقى في مناصب التعليم الإدارية، حتى آثر الراحة والهدوء، فطلب إحالته إلى المعاش قبل السن القانونية، فأجيب إلى طلبه. . ولكن المرحوم النقراشي باشا لم يعفه من العمل والجد، فأسند إليه ترجمة كل ما تصل إليه وزارة الداخلية من نشرات خاصة عن الشيوعية - لما يعهده فيه من اقتدار على الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى العربية، وبصيرة بدقائق هاتين اللغتين، فقام بما عهد إليه خير قيام، وكان من نتيجة ذلك هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم إلى القراء. .
ولقد ضل كثير من الناس، وبخاصة في مصر - في فهم حقيقة الشيوعية ومبادئها وأغراضها وأهدافها القومية والبعيدة، وطرائق الحكم والمعيشة في البلاد الواقعة تحت سلطانها، واتجاهات أبنائها الفكرية والدينية، والخلقية والاجتماعية، واعتقدوا أنها السبيل إلى الحياة الرخية والمعيشة الراضية السعيدة، التي تصل بالبشرية إلى الغاية المنشودة، والأمل المرجو. . ذلك أن كل ما يعرفه هؤلاء عن الشيوعية أنها تسوى بين الناس جميعاً على اختلاف طبقاتهم في مستوى المعيشة، وانتزاع ثروات الأغنياء، وتوزيعها على الفقراء من أفراد الشعب، بحيث لا يكون هناك غني ولا فقير، ولهذا فكل من أعتقد هذا يمني نفسه بذلك اليوم الذي تبسط فيه الشيوعية رواقها على بلاده، ليصبح سعيداً منعماً، بعد طول الكد والكفاح، والشقوة والنضال.!
ويسود هذا الرأي بين طبقات العمال بخاصة، أما أهل الريف فأكثرهم بمنجاة منه ولله الحمد، فلا يزال فيهم بقية من دين وإيمان، وصلاح وتقوى، يعصمهم كل أولئك من هذه العقائد، أو بمعنى أدق من هذه الأخطار، ولعل السبب في ذلك أنهم لم تتح لهم الفرص لاجتلاء غوامض هذه الموضوعات، ولا مبهمات مسائلها وأهدافها. .
وقد أتيحت الفرصة للمؤلف الكبير أن يطلع على الآراء والمذاهب الشيوعية في أمهات كتب الشيوعيين وغيرهم من مؤلفات الأجانب، كما اطلع على آراء فيلسوف الشرق، السيد جمال الدين الأفغاني عن الشيوعية في رسالته الخالدة (الرد على الدهريين) التي ترجمها من الفارسية إلى العربية الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
والكتاب مكون من مقدمة في خطر الأوهام الشيوعية، وأن الدسائس والأقاويل وما ينبغي عليها من وعود، هي التي مهدت لقادة الحركة الشيوعية الأولى في روسيا السبيل للاستيلاء على عقول الملايين من العمال والفلاحين، فانقادوا لهم، وانساقوا وراءهم، واستماتوا في الكفاح معهم لنيل ما قالوا أنه مرتع الحرية ومنبت النعيم، حتى تم لهم ما أرادوه في قرارة نفوسهم من قلب نظام الحكم في بلادهم والاستئثار بالسلطة فيها - وستة فصول: يتناول الفصل الأول منها نشأة الشيوعية الحديثة وظروف انتشارها في روسيا دون غيرها، وقد ساعد على رواج هذه المبادئ في روسيا تفشي الجهل وقتئذ بين الملايين من أهلها. واشتداد تذمرهم من الحكم القيصري الذي لم يكد التاريخ يرى أشد منه ظلماً وقسوة أو كبتا للحرية. . يتجلى ذلك في الحادثة المشهورة التي سبقت الثورة الروسية الأولى سنة 1905 كما ذكرها تاريخ الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي (البلشفيك) حينما أضرب العمال يوم 3 يناير سنة 1905 في مدينة بطرسبورج، فقررت الحكومة القضاء على الحركة بالقوة، ودست على الثوار قساً يدعى (جابون) فأفهمهم أن خير وسيلة لنيل مطالبهم أن يجتمعوا يوم 9 يناير ويسيروا في موكب هادئ حاملين أعلام الكنيسة وصور القيصر إلى قصر الشتاء حيث يقدمون للقيصر عريضة بمطالبهم، وسار موكبهم صبيحة ذلك اليوم كما أراد القس ومعهم نساؤهم وأطفالهم حتى بلغ عدد الجميع مائة وأربعين ألف نفس، فما كان من القيصر (نيقولا الثاني) إلا أن أصدر أمره بإطلاق النار على هذا الحشد الحاشد، والجمع الزاخر، فمات منهم ما يزيد على الألف، وجرح أكثر من ألفين، حتى جرت الدماء أنهاراً في شوارع بطرسبورج.
ومن هنا أستغل البلشفيك، وهم الأكثرية المتطرفة من الشيوعيين، هذه الحادثة حيث كانوا يسيرون في الموكب، وقتل بعضهم وقبض على البعض الآخر، فأفهموا فيما بعد العمال أنهم مخدوعون في القيصر ورجاله، وأن خلاصهم مما يعانون لا يكون إلا عن طريق القوة المسلحة. .!!
ويتناول الفصل الثاني من الكتاب عجالة في تاريخ نشأة الشيوعية في روسيا وتطورها إلى ابتداء الحكم الشيوعي. وكيف كان الشيوعيون الروس في أول أمرهم ينتمون إلى دوائر وهيئات (ماركسية) سرية صغيرة نبتت في البلاد تباعاً، وكانت أقدمها (هيئة تحرير العمال) التي تألفت عام 1883، ألفها (بليخانوف) أحد أعضاء الهيئات الثورية القديمة التي كانت تعمل في روسيا سراً قبل أن تعرف (الماركسية) وفي 1895 أسس (لينين) (عصبة سان بطرسبورج الكفاحية لتحرير طبقة العمال) ووحد فيها جميع دوائر العمال الماركسية بالمدينة، ويعتبر لينين أبو الشيوعية المتطرفة في روسيا، وأكبر حاقد على الحكومة القيصرية!!
وقد أغتنم البلشفيك فرصة الاستياء من القيصر لهزيمة الجيوش الروسية في الحرب العالمية الأولى، فأعلنوا ثورتهم يوم 26 فبراير سنة 1917 وظلوا في نشاطهم حتى تم لهم قلب الحكومة المؤقتة في يوم واحد، يوم 25 أكتوبر سنة 1917 وفي المساء عقد مؤتمر عام لمجالس السوفييت، فصار هذا منذ تلك اللحظة أساس نظام الحكم في روسيا، وألف المؤتمر أول حكومة اشتراكية سوفييتية في روسيا وجعل إدارتها في يد مجلس يسمى (مجلس مندوبي الشعب) وأسندت رياسته إلى (لينين).
وتحدث الأستاذ الكبير في الفصل الثالث عن سير الحكم الشيوعي في روسيا من الوجهة الاقتصادية، وموت (لينين) في هذه الأثناء، وترشيح (ستالين) لرياسة الحزب خلفاً منه، وفي الفصل الرابع عن الحالة السياسية والاجتماعية نقلاً عن كتاب الشيوعية في ميدان العمل، وهو مصور معتمد من مجلس نواب الولايات المتحدة كمستند رسمي من مستندات المجلس، وقد تم وضعه على أن يكون خالياً من التحيز، حاوياً للمحاسن والمساوئ معاً، ولا أدل على أنه قد حقق ذلك ما يحويه من آراء عن الدفاع الوطني، واعتراف بما يبذله الشيوعيون في سبيل نهضة التعليم من مجهودات تؤتى ثمارها حسب سياسة موضوعة، ثم كيف يستغلون أوقات الفراغ فيما ينفع ويفيد، باعتبار أن قضاء الفرد لأوقات فراغه على الوجه الصحيح من مستلزمات نمو ثقافته وتحسين حالته الصحية، وأن الواجب على كل مواطن أن يكون دائماً على استعداد لعمله وللدفاع الوطني، وهذا الاستعداد يكفله إلى حد كبير قضاء الجماعات لأوقات فرغ مجتمعين، وبالطريقة المثمرة التي تعد لهم بإشراف الحكومة والحزب الشيوعي. .!!
وتناول الفصل الخامس الشيوعية قديماً وحديثاً، والسادس السياسة السوفييتية الحاضرة، ومن هذا نرى قيمة هذه الموضوعات الهامة، وحاجة المجتمع إلى دراستها بإنعام نظر، وحسن تدبير، والوقوف على حقيقتها، وتبين أوجه الإنصاف فيها. .
وما أحوج المجتمع المصري بخاصة، والبلاد العربية بعامة، إلى هذا النوع من الدراسات، حتى يكونوا على بينة من أمرهم في كل ما يحيط بهم من أخطار وشرور، ويذيع فيهم من أفكار وآراء. .
عبد الحفيظ أبو السعود
المدرس بالمدارس الثانوية الأميرية