مجلة الرسالة/العدد 957/أمريكا التي رأيت:

مجلة الرسالة/العدد 957/أمريكا التي رأيت:

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 11 - 1951


في ميزان القيم الإنسانية

للأستاذ سيد قطب

أميركا. . الدنيا الجديدة. . ذلك العالم المترامي الأطراف الذي يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم، أكثر مما تشغل من الأرض رقعته الفسيحة، وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم بالأوهام والأعاجيب، وتهوى إليه الأفئدة من كل فج، شتى الأجناس والألوان، شتى المسالك والغايات، شتى المذاهب والأهواء

أمريكا. . تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطي والباسيفيكي. تلك الموارد التي لا تنضب من المواد والخامات، ومن القوى والرجال. تلك المصانع الضخمة التي لم تعرف لها الحضارة نظيراً. ذلك النتاج الهائل الذي يعيا به العدو الإحصاء، تلك المعاهد والمعامل والمتاحف المنثوثة في كل مكان. عبقرية الإدارة والتنظيم التي تثير العجب والإعجاب. ذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة. ذلك الجمال الساحر في الطبيعة والوجود والأجسام. تلك اللذائذ الحرة المطلقة من كل قيد أو عرف. تلك الأحلام المجسمة في حيز من الزمان والمكان. .

أمريكا هذه كلها. . ما الذي تساويه في ميزان القيم الإنسانية؟ وما الذي أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم، أو يبدو أنها ستضيفه إليه في نهاية المطاف؟

أخشى ألا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا، وعظمة (الإنسان) الذي ينشئ هذه الحضارة؛ وأخشى أن تمضي عجلة الحياة، ويطوى سجل الزمن، وأمريكا لم تضف شيئاً - أو لم تضف إلا اليسير الزهيد - إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم، التي تميز بين الإنسان والشيء، ثم بين الإنسان والحيوان

إن كل حضارة من الحضارات التي مرت بها البشرية، لم تكن كل قيمتها فيما ابتدعه الإنسان من آلات، ولا فيماسخره من قوى، ولا فيما أخرجت يداه من نتاج. إنما كان معظم قيمتها فيما اهتدى إليه الإنسان من حقائق عن الكون، ومن صور وقيم للحياة؛ وما تركه هذا الاهتداء في شعوره من ارتقاء وفي ضميره من تهذيب، وفي تصورة لقيم الحياة من عمق، والحياة أنسا نية بوجه خاص، مما يزيد المسافة بعداً في حسابه وحساب الواقع، بينه وبين مدارج الحيوانية الأولى، في الشعور والسلوك، وفي تقويم الحياة وتقويم الأشياء

فأما ابتداع الآلات، أو تسخير القوى، أو صنع الأشياء، فليس له في ذاته وزن في ميزان القيم الإنسانية، إنما هو مجرد رمز لقيمة أساسية أخرى: هي مدى ارتفاع العنصر الإنساني في الإنسان، ومدى الخطوات التي يبعد بها عن عالم الأشياء، وعالم الحيوان. أي مدى ما أضاف إلى رصيده الإنساني من ثراء في فكرته عن الحياة، وفي شعوره بهذه الحياة

هذه القيمة الأساسية هي موضع المفاضلة والوازنة بين حضارة وحضارة، وبين فلسفة وفلسفة؛ كما أنها هي الرصيد الباقي وراء كل حضارة، المؤثر في الحضارات التالية، حين تتحطم الآلات وتفنى الأشياء؛ أو حين تنسخها آلات أجد وأشياء أجود، مما يقع بين لحظة وأخرى، في مشارق الأرض ومغاربها

وإنه ليبدو أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج، بحيث لم تبق فيها بقية تنتج شيئاً في حقل القيم الإنسانية الأخرى. ولقد بلغت في ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة، وجاءت فيه بالمعجزات التي أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور ووراء التصديق لمن لم يشهدها عيانا. ولكني (الإنسان) لم يحفظ توازنه أمام الآلة، حتى ليكاد هو ذاته يستحيل آله؛ ولم يستطع أن يحمل عبء العمل المنهك ثم يمضي قدماً في طريق الإنسانية، عندئذ أطلق للحيوان الكامن العنان؛ ضعفاً عن أن يحمل عبء العمل وعبء (الإنسان)!

وإن الباحث في حياة الشعب الأمريكي ليقف في أول الأمر حائراً أمام ظاهرة عجيبة، قد لا يراها في شعب من شعوب الأرض جميعاً: شعب يبلغ في عالم العلم والعمل، قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى؛ بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك!

ولكن هذه الحيرة تزول بعد النظرة الفاحصة في ماضي هذا الشعب وحاضره، وفي الأسباب التي جمعت فيه بين قمة الحضارة وسفح البدائية:

في العالم القديم آمن الإنسان بقوى الطبيعة المجهولة، وصاغ حولها الخرافات والأساطير؛ وآمن بالدين، وغمرت روحه أضواؤه ورؤاه؛ وآمن بالفن وتجمست أشواقه ألواناً وألحاناً وأوزاناً. . ثم آمن بالعلم أخيراً، بعد ما انقسمت نفسه لأنماط من الإيمان، وألوان من المشاعر، وأشكال من صور الحياة وتهاويل الخيال، بعدما تهذبت روحه بالدين، وتهذب حسه بالفن، وتهذب سلوكه بالاجتماع. بعدما صيغت مثله ومبادئه من واقعية التاريخ، ومن أشواقه الطليقة. وسواء تحققت هذه المبادئ والمثل أم لم تتحقق في الحياة اليومية، فقد لقيت على الأقل هواتف في الضمير، وحقائق في الشعور، مرجوة التحقق في يوم من الأيام، قرب أم بعد، لأن وجودها حتى في عالم المثال وحده، خطوة واسعة من خطوات البشرية في مدارج الإنسانية، وشعاع مضيء من الرجاء في تحقيقها يوماً من الأيام

أما في أمريكا فقد ولد الإنسان على مولد العلم، فآمن به وحده، بل آمن بنوع منه خاص، هو العلم التطبيقي؛ لأنه وهو يواجه الحياة الجديدة في القارة الجديدة؛ وهو يتسلم الطبيعة هنالك بكراً جامحة عتيدة؛ وهو يهم أن ينشئ ذلك الوطن الجديد الذي أنشأه بيده، ولم يكن له من قبل وجود؛ وهو يصارع ويناضل لبناء هذا الوطن الضخم. . . كان العلم التطبيقي هو خير عون له في ذلك الجهد والتنظيم والإنتاج

ولم يفرغ الأمريكي بعد من مرحلة البناء، فما تزال هنالك مساحات شاسعة لا تكاد تحد من الأراضي البكر التي لم تمسها يد؛ ومن الغابات البكر التي لم تطأها قدم، ومن المناجم البكر التي لم تفتح ولم تستغل، وما يزال ماضياً في عملية البناء الأولى، على الرغم من وصوله إلى القمة في التنظيم والإنتاج

ويحسن ألا ننسى الحالة النفسية التي وفد بها الأمريكي إلى هذه الأرض فوجاً بعد فوج، وجيلاً بعد جيل، فهي مزيج من السخط على الحياة في العالم القديم، والرغبة في تحرير من قيوده وتقاليده، ومن هذه القيود والتقاليد الثقيل الفاسد، والضروري السليم، ومن الرغبة الملحة في الثراء بأي جهد وبأية وسيلة؛ والحصول على أكبر قسط من المتاع تعويضاً عما يبذله من الجهد في الثراء

وبحسن ألا ننسى كذلك الحالة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى التي تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد. فهذه الأفواج هي مجموعات من المغامرين، ومجموعات من المجرمين؛ فالمغامرين جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات؛ والمجرمون جئ بهم من بلاد الإمبراطورية الإنجليزية لتشغيلهم في البناء والإنتاج

ذلك المزيج من الملابسات، وهذا المزيج من الأفواج، من شأنه أن يستنهض وينمي الصفات البدائية في ذلك الشعب الجديد، وينيم أو يقاوم الصفات الراقية في نفسه أفراداً وجماعات؛ فتنشط الدافع الحيوية الأولية، كأنما يستعيد الإنسان خطواته الأولى؛ بفارق واحد أنه هنا مسلح بالعلم، الذي ولد مولده، وخطأ على خطواته. والعلم في ذاته - وبخاصة العلم التطبيقي - لا عمل له في حقل القيم الإنسانية، وفي عالم النفس والشعور. وبذلك ضاقت آفاقه، وضمرت نفسه، وتحددت مشاعره، وضؤل مكانه على المائدة العالمية الزاخرة بالأنماط والألوان

وقد يدهش الإنسان وهو يقرأ قصص الجماعات الأولى التي هاجرت إلى أمريكا في أيامها الأولى، ويتصور كفاحها الطويل العجيب، مع الطبيعة الجامحة في تلك الأصقاع المترامية، ومن قبل مع أنواء المحيط الرعيبة، وأمواجه الجبارة، في تلك القوارب الصفار الخفاف؛ حتى إذا رست على الصخور محطمة أو ناحية لقيت النازحين، مجاهل الغابات، ومتاهات الجبال، وحقول الجليد، وزعازع الأعاصير، ووحوش الغابات وأفاعيها وهوامها. . . لقد يدهش الإنسان كيف لم يترك هذا كله ظلاله على الروح الأمريكية إيماناً بعظمة الطبيعة وما وراء الطبيعة، ليفتح لها منافذ أوسع من المادة وعالم المادة

ولكن هذه الدهشة تزول حين يتذكر ذلك المزيج من الملابسات، وذلك المزيج من الأفواج. لقد قابلوا الطبيعية بسلاح العلم وقوة العضل، فلم تثر فيهم إلا قوة الذهن الجاف؛ وقوة الحس العارم، ولم تفتح لهم منافذ الروح والقلب والشعور، كما فتحتها في روح البشرية الأولى، التي احتفظت بالكثير منها في عصر العلم، وأضافت به إلى رصيدها من القيم الإنسانية الباقية على الزمان

وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين؛ والإيمان بالقيم الروحية جميعاً؛ لا يبقى هنا لك متصرف لنشاطها إلا في العلم التطبيقي والعمل، وإلا في لذة الحس والمتاع. وهذا هو الذي انتهت إليه أمريكا بعد أربعمائة عام

للكلام بقية

سيد قطب