مجلة الرسالة/العدد 957/الثورة المصرية 1919

مجلة الرسالة/العدد 957/الثورة المصرية 1919

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 11 - 1951



للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

شهداء:

في يوم الاثنين 15 من أكتوبر 1951 أقر البرلمان المصري التشريعات التي قدمتها إليه حكومة جلالة ملك مصر والسودان وهي الخاصة بإلغاء اتفاقيتي السودان 1899 ومعاهدة 1936، وبذلك تخلصت مصر من القيود التي كانت تحد من سيادتها وحرياتها وتقف في سبيل وحدة الوادي

ولكن الغصب الأجنبي رفض أن يعترف بما قررته مصر، وأعلن تمسكه بالمعاهدة؛ بل زاد فأكثر من قواته البرية والجوية والبحرية

وهنا قام نضال بين مصر التي لا تبغي إثماً ولا عدواناً بين عصابة اللصوص من الدول الاستعمارية فانضمت أمريكا وفرنسا إلى إنجلترا وعملتا على تأييدها وشد أزرها

وكان من الطبيعي أن يظهر المصريون شعورهم وغبطتهم بتحررهم فقامت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد تعلن ابتهاج مصر بما قرره البرلمان. وساء الإنجليز ابتهاج المصرين بإلغاء المعاهدة فأطلقوا قواتهم في مدن القنال الهادئة ألوا دعة ثم اعتدوا على الشعب الأعزل بمدافعهم ونيرانهم فسالت دماء الأبرياء من الشهداء المصريين

وأكثر من هذا أنهم منعوا بالقوة تشييع جنازات شهداء مدينة الإسماغعليلية الذين استشهدوا في يوم الثلاثاء 16 أكتوبر وهكذا تعتدي إنجلترا - وهي التي تملقت مصر إبان محنتها أثناء الحرب العالمية الثانية - على الأبرياء من المصريين الذين أنقذوها في أخطر فترة مرت عليها في التاريخ، وكان في يدهم لو أرادوا خنقها وإراحة أنفسهم والعالم من بغيها، ولكنهم صدقوا وعودها وآمنوا بما قررته هي وشريكتها أمريكا في ميثاق الأطلنطي 1941 من احترامهم لحريات الأمم السياسية والفكرية والدينية. فلما انتهت الحرب تبخرت الوعود البريطانية وعادت بريطانيا تعلن ما أخفت وتماطل فيما وعدت وقلبت لمصر ظهر المجن فقتلت أبناءها واحتلت في غمرة بغيها وعدوانها مدينة الإسماعيلية ومكاتب الجمارك في السويس وبورسعيد كما احتلت بلوكات السكك الحديدية في محطة (فرز نفيشة) فليسجل التاريخ وليشهد العالم، وأما أنتم أيها الشهداء الأبرار فإلى جنة الخلد خالدين فيها أبداً أمس واليوم:

في وسط هذا الخضم المضطرب من الحوادث والعواطف ومن خلال هذه الثورة الوطنية أكتب إليك أيها الأخ المصري معيداً أمامك صورة جهاد آبائك ومسجلاً لك جهادك، فأنا أحدثك الآن عن مصر في ثورتين: الثورة الأولى1919 والثورة الثانية 1951

بدأت ثورة 1919 عقب الحرب الأوربية الأولى 1914 - 1918 فقصد زعماء مصر سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلى شعراوي إلى دار الحماية وطالبوا المعتمد البريطاني باستقلال مصر فأنكر عليهمطلبهم ووعدهم بمخاطبة حكومته انصرف الزعماء من دار الحماية وألفوا (الوفد المصري) ليعمل على تحقيق استقلال مصر والسودان استقلالاً تاماً

بدء العمل:

في 20 نوفمبر 1918 طلب سعد ورفاقه من المعتمد البريطاني أن يسمح لها بالسفر إلى أوربا لعرض مطالب مصر على مؤتمر الصلح المنعقد في باريس، فجاءهم الرد من السلطة بإرجاء الإذن (إلى أن تزول الصعوبات التي تمنع سفرهم في الوقت الحاضر)

احتج سعد ولم يفتر في العمل أو يتوان. أخذ يجمع التوكيلات من الأمة للمطالبة بحقوقها فأقبل الناس عليها بشغف. رأت السلطة في هذا الأمر خطر فقررت منعه وصادرت التوكيلات. احتج سعد على مصادرة التوكيلات وأخذ يواصل نشاطه فوجه نداء لمعتمدي الدول الأجنبية جاء فيه:

(إيماناً بالتصريحات المؤكدة التي أعلنها ساسة الخلفاء عند نشوب الحرب ولازالوا يجاهرون بها في انتصارهم للحق والحرية

واعتماداً على تلك الروح الجديدة التي تدفع أمم العالم وديمقراطيتها نحو ذلك المثل الأعلى مثل الحياة المطمئنة في كنف العدل وبحبوحة السلام

وثقة على الأخص بأن دخول الولايات المتحدة الفاصل في الممترك العالمي لم يكن لها فيه نقصد سوى صيانة حقوق الأمم الضعيفة واستفتاح عصر عدل مجرد عن الهوى تبور فيه إلى الأبد صفة من لا ينظر إلا إلى إرضاء مطامعه الشخصية ولا يهمه غير بسط على بني الإنسان اعتماداً على القوة والجبروت فمصر التي تعرف واجباتها وتهتم بمصالح نفسها رأت بمجرد عقد الهدنة الأخيرة أنها بعد أن لبثت طول مدة الحرب على أكمل حال من السكينة وحسن الوفاء، قد آن الأوان لتجهر - بما لها من حق في أن تحيا حياة حرة خالصة من القيود والأغلال)

واختتم الوفد النداء بالاحتجاج على الخطة التي اتخذت معه وعلى كل قرار بشأن مستقبل مصر لا يؤخذ رأي الأمة المصرية فيه

وفي نفس اليوم 6 ديسمبر 1918 أرسل إلى رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج برقية جاء فيها:

(تحدث في مصر أمور مخالفة لتقاليد الحرية والعدالة التي هي شعار دولة بريطانيا، وللسياسة الحرة التي لازلتم إماماً لها. . . هل تقبلون سعادتكم أن صوت أمة بأسرها يخفت بينما أرجاء العالم تدوي بأصوات الأمم المطالبة بمالها من الحقوق ومن حرية التصرف بمسقبلها؟. . . بالنيابة عن الوفد المصري أرفع هذه التصرفات لنظركم السامي.)

سعد زغلول

موقف الوزراء:

هذا ما قام بع سعد وزملاؤه. ولكنا من ناحية أخرى نجد أن رئيس وزراء مصر في ذلك الحين المغفور له حسين رشدي باشا وزميله عدلي يكن باشا غافلين وكانا يؤمنان تماماً بحقوق مصر، وكان رئيس وزراء مصر 1914 حين أعلنت عليها الحماية - وكان هو الذي قبل الحماية - فرأى أن الواجب يحتم عليه كمصري أولاً وكرئيس للوزراء ثانياً أن يعمل على تخليص مصر من الحماية. لهذا تقوم بدوره يطلب السماح له ولزميله عدلي بالسفر لمباحثة رجال الحكومة البريطانية في المسألة المصرية، فرفضت الحكومة البريطانية طلبهما فقدما استقالتهما في 4 ديسمبر فلم تقبل، فرفعا استقالة ثانية في 23 ديسمبر ولكنها رفضت أيضاً، فأتبعاها بثالثة في 30 ديسمبر 1918. رأت بريطانيا أن تصرح لهما بالسفر ولكن رشدي باشا علق سحب استقالته على التصريح للوفد بالسفر فرفض طلبه فاستقال

موقف رائع: استقال رشدي باشا واخذ الإنجليز يبحثون عن رئيس للوزارة يشغل مكانه وعن وزراء يتولون الحكم بدل الوزراء، ولكن ذهبت جهودهم أدراج الرياح ذلك أن المصريين على اختلاف ميولهم ومذاهبهم وقفوا صفاً واحداً منهم ليخون الوطن وليتعاون مع الغصب الأجنبي بقبوله الوزارة. وظلت مصر بلا وزارة في الفترة من ديسمبر 1918 إلى مارس 1919 وهكذا تجلت الوطنية المصرية رائعة قوية

هذا ما كان من أمر مصر في 1919. أجمعت الأمة على الوقوف صفاً واحداً في سبيل تحقيق مطالبها وصمدت للعدوان الآثم. وإن مصر 1951 ستكون إن شاء الله أكثر قوة وأشد وطنية، وستدافع عن حرياتها دفاع المناضل المستميت، ولن يخضعها اعتداء أو تهديد، ولن يثنيها وعد أو وعيد. وإلى اللقاء في العدد القادم إن شاء الله

قويسنا

أبو الفتوح عطيفه