مجلة الرسالة/العدد 959/السلام العالمي والإسلام

مجلة الرسالة/العدد 959/السلام العالمي والإسلام

مجلة الرسالة - العدد 959
السلام العالمي والإسلام
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 11 - 1951



للكاتب الداعية الأستاذ سيد قطب

للأستاذ محمد فياض

بينما تتصارع الشيوعية والديمقراطية من جهة، وبينما تتصارع شعوب تدين بالإسلام مع كلتا الكتلتين من جهة أخرى؛ يقفز من بين الشعوب الإسلامية دعاة إسلاميون وهيئات إسلامية، فيتقدمون الصفوف، ويمسكون بدفة التوجيه في محاولات جبارة ليحولوا وجهة الكفاح الشعبي في القعة الإسلامية، إلى كفاح إسلامي يستعصي على الفكرة الشيوعية، ويتمرد على دعاة الديمقراطية، ويتجه إلى الإسلام. . ليكون القوة الإسلامية الأولى، التي إنبعثت من بطن الصحراء، لتديل دولة الفرس الوثنية، وتزيل دولة الرومان الظالمة، فتبلغ رسالتها، وتؤمن رقعتها، وترفع الظلم عن كل إنسان

وفي غضون ذلك كله، ومن بين صفوف قادة الفكر، ودعاة الفكرة، ومن بين أبراج الأدباء والكتاب في بلادنا؛ رأينا صاحب قلم جريء، ينزل من بين الأبراج، ليبرز خلال الصفوف الشعبية، متجرداً، مخلصا، للكفاح. . الكفاح المرير بثمنه وقيوده، فيضرب هنا ويضرب هناك، ضربات متتالية، متواليات، في ميدان الفكرة الإسلامية، وفي ميدان الفكرة الإشتراكية. وفي ميدان الشعوب. . لتأكل. . لتلبس. . لتعي. . لتتحرر. لتعيش عيشة الإنسان!

وما نظننا بعد في حاجة إلى الإشارة لصاحب هذه الضربات الحرة السافرة، فنحن نعرف فيها الأستاذ سيد قطب، كما نعرفه بها والجدير بالإشارة: أن الفكرة الإسلامية تحت ذبابة قلمه بدت لنا مكبرة ضخمة، واضحة، في كلياتها وجزئياتها، في مباحثها وأقسامها؛ وهذه حالة جديدة، وظاهرة فريدة، في (الفهم الإجتماعي) للفكرة الإسلامية، منذ نشأت إلى الآن. . فكل ما كان من فهم لفكرة الإسلام، لم يعد تناول بعض جنباتها في شطحات مفككة، بين خطأ وصواب؛ أما سيد قطب فكان من الإسلام في عصرنا الحاضر، بمثابة العدسات المجمعة المكبرة. . المفرقة الموزعة، أو كان بمثابة المرآة الضخمة التي إنعكست لنا فيها الفكرة الإسلامية، واضحة ناطقة صافية معقولة، جذابة منطقية

ولعلني لا أعدو الواقع، حين أقول إن سيد قطب لو قدر له في إسلوبه، طبيعة السخرية والتورية، والإيماء والكناية؛ لفاق تأثيره تأثير (فولتير) في هزه للنفس البشرية، من داخل لا من خارج، وفي إشعاره لها بالكبت والضغط. . وإذن لأحتل سيد قطب في حيلته وفي عصره مكانة لا تقل عن مكانة (فولتير) في التاريخ. . ولدى المؤمنين بالحرية والإخاء والمساواة بعد مماته. ولكنني أعتقد أن سيد قطب ينأى بنفسه عن ذلك الجانب، ليوائم بين كتابه وحقيقة ما يكتبه عن الفكرة الإسلامية، التي لا تعرف الألغاز والمعميات، والتي لا تهرب من الضوء. وأعتقد أيضا أن الجامع مع ذلك بينه وبين (فولتير) هو أن كليهما في عصر ويلد مليء بالقلق، مليء بالتطلع، وأن كليهما خلص لفكرته، مؤمن بها في ميدنه، وأن كليهما متأثراً بعصره، شديد التأثر بزمانه وما بعد زمانه. . ورغم ما بينهما من تفاوت في المنهج والمنحى والطريقة، ورغم ما بين فكرتيهما من تباين في الأسس والأصول

وقد لا يقصر بي التعبير عن الواقع حين أقول: أن طبيعة الأستاذ سيد قطب ككاتب، طبعة مرنة لينة، تستجيب وتعي. . وتتأثر وتؤثر. في إسلوبه بساطة محببة أليفة، وسلاسة طبيعية غير كتكلفة، وفي إدائه دقة الكليات والجزئيات. . وفي تصويره براعة التناسق والتوازن، والتعادل والأنسجام. وإنك لا تكاد تقرأ الصفحة من كتابه، أو النهر من مقاله، حتى زتقسم بكل مقسم، أنك قد لمست من خلال السطور، رفرفة الروح، وحرارة العقيدة، وتظارة الفكرة، وأن سيد قطب يكتب حين يكتب، بكل جوارحه ومشاعره وأحاسيسه؛ وأنه يفنى فيما يكتب ويخلص لما يسطر، وأنه يتكلم من خلال السطور، في قسوة وفي رحمة. . بيديه ورجليه، وعقله وعاطفته

وهذه واحدة أخرى نذكرها في إجمال عن طبيعة مؤلفاته الإسلامية، وطريقة عرضها: بعد أن قدمنا طبيعته ككاتب، في إسلوبه، وفي تصويره، وفي إدائه:

قرأت للأستاذ سيد قطب في ميدان الفكرة الإسلامية، خمسة كتب: التصور الفني في القرآن. والعدالة الإجتماعية في الإسلام، ومشاهد القيامة في القرآن، ومعركة الإسلام والرأسمالية، وأخيرا هذا الكتاب الذي بين يدي (السلام العالمي والأسلام) وقد عرفت عن هذه المؤلفات عدة أشياء؛ تتركز في دقة التقسيم، وجودة العرض، والقدرة على الإستنباط والإستنتاج وعمق البحث وجدته؛ وتتمثل في بساطة وسهولة وسلاسة توائم سائر القراء من جميع الطبقات، رغم ما بها من تجنيح وتحليق، في تقسيماته واستنباطاته وإستنتاجاته؛ على جعبة مليئة بالعديد الدقيق من مألوف ألفاظ الإقتصاد والمنطق والطبيعة. كالسطح الساكن، وأخراهما متأججة ثائرة لا تلوي على شيء. . الطرف الأول في كتابه العدالة، والثاني في كتابه المعركة، وبن الكتابين وبين الطريقتين، أوساط عديدة تقف بين الوجه الهادي للنفس المتأججة، وبين الوجه الغاضب للنفس الثائرة، في مكان خاص بين الوجهين والطريقتين، وكتاب المؤلف الأخير أرب إلى الهدوء وإلى العدالة منه إلى المعركة، وإن كان الباب الأخير فيه، يميل إلى أن يكون وسطا متوازيا في عرضه وأدائه بين الكتابين، وبين الطريقتين

وقد كان بودي أن أتحدث عن كتبه كلها، ولما أكنه لها ولنتاجه وطريقته من تقدير وحب، لولا إنني في مجال الحديث عن كتابه الأخير، أو هذا هو ما فرضه علي الإعجاب والحب. ولا أعتبر أن ثمة إعتبارا من حبي وإعجابي يقف بيني وبين أن أقول للأستاذ سيد قطب على رؤوس الناس ما يود سائر القراء قوله له: لقد وضعت لبنات جديدة في (مكتبة القرآن) حتى كتابك (مشاهد القيامة في القرآن) رغم أن جودة العرض وحسن التقسيم قد هربا منه هروبا لم يخلف ورائه سوى مستنبطات ومستنتجات. . الحق إنها تستأهل الإعجاب والتقدير. والحق إنها تستأهل أن يكون بجوارها جودة العرض وحسن التقسيم، لتكون لها القيمة النشودة، والفائدة المرجوة

وعسير على الباحث، كما يقول المؤلف في كتابه (السلام العالمي والإسلام) - (البحث عن أي حقل من حقول الإسلام، دون الإلمام بفكرة اٌسلام الكلية عند الكون والحياة والإنسان. . فهذا الدين لا يعالج مشكلات الحياة أجزاء وتفاريق. . إنما هو يرجعها كلها إلى نقطة إرتكاز واحدة. . مردها إلى فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان) وفكرة السلام في الإسلام (تتصل إتصالاً وثيقاً بطبيعته وبفكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان) ومن أجل هذا يعقد المؤلف باباً خاصة بعنوان (طبيعة السلام في الإسلام) ويؤكد فيه أنه يجب أولاً وقبل كل شيء، ربط فكرة السلام بفكرة الإسلام الكلية عن الكون والحياة والإنسان رغم إنها ليست موضوع كتابه هذا كما لم تكن من موضوع العدالة. والؤلف يستهل ذلك الباب بقوله: (من هذا التناسق في طبيعة الكون، وفي ناموس الحياة وفي أصل الإنسان. تستمد طبيعة السلام في الإسلام. . فتيتند إلى أصل أصيل عميق، ويصبح السلام هو القاعدة الدائمة، والحرب هي الإستثناء). ولكن الإسلام (يستبعد الحروب التي تثيرها العصبية العنصرية) أو (العصبية الدينية بمعناها الضيق. . كراهية الأديان الأخرى) كما (يستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع: حروب اإستعمار والإستغلال والبحث عن الأسواق والخامات، وإسترقاق المرافق والرجال) ويستبعد أيضا تلك (الحروب التي يثيرها حب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، أو حب المغانم الشخصية والأسلاب). . فما هو ذلك النوع من الحرب، الذي يستثنيه الإسلام من قاعدته الدائمة: السلام؟

نترك ذلك للمؤلف في كتابه، كما نترك ما يطوف حول موضوع السلام والحرب في الإسلام من شبهات وظنون، ومخاوف وأقاويل

قد يسأل القارئ، لماذا وضع المؤلف ذلك الكتاب. .؟ ولمن يقدمه من الناس.؟ ونعتقد أن الجواب يدلي به المؤلف نفسه في أخريات الفصل المعقود بعنوان (العقيدة والحياة) الذي جعله مطلعا لكتابه، حيث يجيب في أخرياته من ثنايا قوله (ولقد كنا نتجنى على عقيدتنا الضخمة. . أنها لا تسعفنا بالحلول العملية امواجهة الحياة العصرية ومشكلاتها وبخاصة في الحقل الإجتماعي والحقل الدولي. فأما الحقل الإجتماعي فقد صدرت فيه عدة مؤلفات تكشف الحلول العملية التي يملك الإسلام أن يوجه بها الحياة. . وأما الحقل الدولي، فربما كان العمل فيه قليلاً، ولم تشرح هذه الناحية بعد شرحاً كافياً، وأمامنا اليوم مشكلة السلام العالمي التي تواجهها البشرية جميعاً. ونواجهها نحن ضمناً. فهل للإسلام فيها رأي؟ ولها عنده حل؟

هذا الكتاب كله هو الإجابة التفصيلية على هذا السؤال. . وفي سبيل هذه الإجابة، وفي سبيل تحديد (طبيعة السلام في الإسلام) وتفصيلها، يقيم المؤلف هذه الطبيعة، ويشيد ذلك السلام، ويبني كتابه على عمد أربعة (سلام الضمير، وسلام البيت، وسلام المجتمع، وسلام العالم) فبدون واحد من هذه العمد لا يتحقق اللام في نظر الإسلام، بل ولا يستقيم للآخر موقف، ولا يستقر له مكان (فالإسلام يبدأ محاولة السلام أولا في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة. . ثم في وسط الجماعة. . وأخيرا. . يحاوله في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب)

وفي سبيل (سلام الضمير) حيث (لا سلام لعالم ضمير الفرد فيه لا يستمتع بالسلام) وفي سبيل (سلام البيت) حيث أن (الفرد الذي لا يستمتع بالسلام في بيته) لن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوق له طعماً، ولن يكون عامل سلام، وفي أعصلبه معركة، وفي نفسه قلق، وفي روحه إضطراب) وفي سبيل (سلام المجتمع) حيث (تتشابك المصالح، وتتزاحم الدوافع، ويكثر الشد والجذب، والأخذ والعطاء) وفي سبيل (سلام العالم)

. . . في سبيل كل ذلك

يستعرض المؤلف الوسائل والأسباب، ويستكشف السبل المؤدية في الإسلام إلى (سلام الضمير، وإلى سلام البيت، وإلى سلام المجتمع، وإلى سلام العالم) على قيود النظر الإسلامية إلى الفرد والجماعة (فالفرد والجماعة في الإسلام ليساعدوين ولاندين، إما هما خلية واحدة في صورتين: الفرد فرداً، والفرد مشتركا في جماعة، وقد نشأت هذه الصورة من طبيعة الإسلام وإستمداد شريعته من الله لا من إنسان، فالفرد لا يشرع للجماعات في الإسلام، والجماعة لا تشرع للأفراد، إنما يخضع افرد، وتخضع الجماعة، لذلك القانون الألهي الذي يرعاهم جميعاً، وحينما يتقرر ذلك يصبح أمن الفرد الشخصي هو أمن الجماعة الكلي، وأمن الجماعة العام هو أمن الفرد الخاص، بلا تعارض بينهما ولا إنفصام

ثم يعقد المؤلف فصلاً آخر أو باباً ختامياً بعنوان (والآن. . .) يتساءل فيه عن طريقنا نحن الأمة المسلمة.؟ وكيف نواجه مسألة السلام العالمي بعقيدتنا اٌسلامية. وكيف نتصرف في المجال الدولي طبقاً لهذه العقيدة، وما واجبنا تجاه الحياة. . وتجاه الإنسانية. . . وتجاه أنفسنا؟ وقبل أن يجيب الأستاذ يأخذ في إستعراض الحالة الدولية، بما يقوم فيها من صراع، وبما يشتجر فيها من مذاهب، حتى يخلص بنا إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وإلى (طريق الخلاص) الذي نترك كتابه يتحدث عنه في واقع منطقي يعلو على الشك وعلى الجدال

ذلك هو كتاب الكاتب الداعية الأستاذ سيد قطب، حاولت جاهداً أن أجمل فكرته للقراء في تلك السطور

وبعد فالكتاب يقع في 180 صفحة من القطع المتوسط، ويتمتع بكل الخصائص الممكنة لمؤلفه، أما ما حدث فيه من تكرار لبعض ما ورد فيه من كتابه العدالة، مما قد يؤدي إلى إذهاب بعض جدته، فلعل السبب هو التشابك والتماسك في كليات الفكرة الإسلامية وجزئياتها، تشابكا يرغم الباحث على التطرق لكل ما يجاور مبحثه المطروق. والكتاب أيضاً كتاب فريد في شموله وتكامله، وما نزال في إنتظار كتابه التالي (نحو مجتمع إسلامي) متحضر، لأنه (كمحاولة للقيام بدراسة وافية لمقومات المجتمع الأسلامي ودستوره كما يمكن أن تكون في القرن العشرين) يعد أقرب الخطوات الفكرية والكشفية لطريق العمل الجدي المنتج. وللوقت السانح للوحدة الإسلامية، فإلى ذلك الحين. . . وإلى ذلك الحين

محمد فياض