مجلة الرسالة/العدد 96/القصص

مجلة الرسالة/العدد 96/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1935



من أساطير الإغريق

أجنحة ديدالوس

أول محاولة للطيران عرفها التاريخ

للأستاذ دريني خشبة

لم يكن في أثينا القديمة على ما اشتهرت به من روعة الفن وكثرة الفنانين، من هو أمهر من ديدالوس العظيم في نحت الدمى وصناعة التماثيل، وهندسة المباني الضخمة. ولقد كان يتنقل بين المعاهد اليونانية، وخاصة بين إقريطش وقبرص وأثينا، لكثرة الدعوات التي كانت تصله من ملوكها، ليقوم على بنايتهم وليتعهد تماثيلهم، وليشرف بنفسه على هياكلهم، ليقال في مواضع الفخر، إن هذا التمثال، أو تلك الدمية، أو هذه الزخرفة من عمل ديدالوس

واستفاضت شهرته، وذاع صيته، وملأ الخافقين أسمه، ولاسيما بعد إذ شاد اللابيرنث (التيه) لمينوس ملك إقريطش، واللابيرنث عمل من أجل الأعمال الهندسية القديمة، إن لم يكن أجلها جميعاً. ذلك أنه كان لمينوس وحش هائل مخرب يسمى (المينوطور)، نصفه الأسفل نصف عجل جسد، ونصفه الأعلى نصف رجل له أنياب الأسد، وغدرة الذئب، وقوة التنين العظيم

وكان لا ينفك يقتل كل من اقترب منه، ولو كان من خاصة الملك. فلما استطار شره، وعظمت بليته دعا مينوس الملك، ديدالوس المهندس، ليشيد هذا البناء الرائع، ذا المنعرجات والحنيات، والشعاب المتداخلة، التي لا يستطيع أحد أن يفلت منها، إذا انفتل فيها. وقد بناه ديدالوس على شكل دائرة عظيمة محيطها هذه الشعاب والمنعرجات، وفي وسطها فضاء فسيح يربض فيه المينوطور أو يركض

ولندع الآن ذاك المينوطور الرهيب جاثما في اللابيرنث، لنرى ما كان من أمر ديدالوس بعد ذلك

ظل الناس يتحدثون عما وهب ديدالوس من عبقرية، وما أوتي من حذق ونبوغ، وظلوا يتهافتون على آياته الفنية التي كساها إلهامه ظلالا كظلال السحر، وموهها بأمواه القداسة والخلود، حتى كبر الفتى بردكس، ابن أخي ديدالوس؛ وكان شاباً ممتلئ الجسم، مفتول العضل، قوي الملاحظة، دقيق الفهم، سريع التصور؛ ما كاد يتتلمذ لعمه حتى بلغ شأوه، بل هو قد فاقه بمزج الشعر والموسيقى بفن الحفر والمثالة، ولاءم بين روحها جميعاً، فكان يبرز تحفه في مظهر دقيق وطراز أنيق؛ ثم هو يضفي عليها من شبابه الغض، وروحه العطرية الشاعرة، ظلال الحب، وسمات الفتنة، ويحرك فيها عواطف الآلهة!

ولهج الاثينيون باسم هذا الفنان الشاب، وتناسوا عمه الذي هو أستاذه وملهمه. وضاق ديدالوس بابن أخيه ذرعاً، وساءه أن تكسف شمسه الوضاءة المتلألئة، نجمه الذي لبث زماناً يسلسل نور الفن في أرجاء هيلاس

وما فتئ العم يحنق ويحنق، وما فتئ بردكس يسمو بفنه إلى الذروة، حتى لسعت عقارب الغيرة قلب الشيخ الفنان، ونفثت فيه سمها، فلم يعد يطيق هذا الخصم الذي صنعه لنفسه بيديه، ولم يعد يحتمل أن يرى نفسه كماً مهملا بجانب الفتى العبقري، فأقسم ليزيحنه من طريقه، ولو بتجريعه كأس المنون، وزين له أن يحتال عليه، فيذهب وإياه إلى شعاف جبل شاهق، ذي مهاو تنتهي إلى اللج الجياش في اليم، حتى إذا كانا فوق القنة المشرفة على البحر المصطخب، نهز منه غرةً ودفع به إلى الأعماق، حيث ينشق له قبر من الموت. . . والنسيان!

وأنفذها ديدالوس المسكين!

ولكن الآلهة كلها كانت تنظر، وتستعد للمعجزة! وكيف؟!

لقد أستجمع الشيخ كل قوته، ووضع في يديه كل منته، ودفع بابن أخيه من فوق القنة، فتردى الفتى على حدور الجبل، حتى إذا كان بينه وبين الموت قاب قوسين، هبطت منيرفا سيدة الأولمب، وصاحبة أثينا، من عليائها، فأنقذت بردكس من قتلة محققة، ثم نفثت في إذنه نفثتين، كان بهما فرخاً حزيناً من أفراخ القطا، راح يرف في السماء مدوماً فوق عمه، حتى كاد يصعقه من حيرة وعجب!!

وانقلب ديدالوس إلى بيته أسوان أسفاً، ووقر في نفسه أن الآلهة التي سحرت بردكس لتنقذه من تدبيره السيء، لأبد أنها تترصده، ولابد أنها ستأخذه بأوزاره في القريب، غير متجنية ولا ظالمة؟ ثم مضت سنون وولد لديدالوس طفل جميل الصورة، طلق المحيا، مشرق الغرة، سماه إيكاروس. ولكن الطفل لم يستطع أن يخفف من الروع الذي كان ينتاب أباه، أو يذهب بسورة الهم التي كانت تجثم على قلبه، وتثقل على نفسه، كلما تصور الهامة المفزعة التي يضطرب بها نومه، فتقض مضجعه وتزلزل كيانه

لقد كانت القطاة تتمثل له كلما أغمض طرفه، كأنها روح ميت ترنق على خصمها تكاد تصعقه. وازداد الشيخ خبالاً حينما ألحف عليه الأثينيون يسألونه عن بردكس أين قضى وأيان ولى! وأخذ الغوغاء يلغطون، وشرع الخاصة يتسقطون أخبار الفتى الفنان، ودأبوا على عمه يسألونه عنه، وهو يضلل بهم ويخترع لهم، حتى أوجس أن ينكشف سره، فينكل الناس به. فآثر الهجرة عن أثينا المحبوبة، إلى صديقه مينوس ملك إقريطش، مصطحباً معه ابنه الطفل إيكاروس

وتطامن الدهر، وشب إيكاروس وترعرع، وأخذ عن والده من الفن ما أخذ بردكس من قبل، وحسب ديدالوس أن الزمان قد غفل عنه، وأن أعين الآلهة قد غفت واستنامت، وأن الأيام قد ابتلعت إثمه الكبير في تضاعيفها القاتمة المظلمة، فأستيقظ الغرور في قلب الفنان الشيخ، ولم يتقبل ما غمره به مينوس الملك من النعم بالشكر الواجب على لاجئ طريد مثله، بل بطر وأستكبر، وكفر بأنعم مولاه وآلائه، ومد له هواه فولغ في إناء الملك، بعد أن أختلط بأهل بيته اختلاطاً شائناً أدى إلى كثير من القيل والقال

وعلم الملك بما كان من خيانة ديدالوس فأمر بالقبض عليه، واعتقاله في إحدى غرف القصر حتى يقضى في شأنه؛ فأُلقي به في حجرة منفردة في طرف القصر، مشرفة على الماء، متصلة بالسماء

وطالت عزلت الفنان الشيخ في معتقله هذا، وضاق ابنه بالحيز الضيق الذي يحبس أنفاس روحه، ويحسر مرامي مقلتيه، ويشيع الهم في حنايا ضلوعه، فقال لوالده وهو يحاوره: (أهكذا قضى علينا أن نموت هنا صبراً يا أبتاه!) وكانت كلمات إيكاروس المبللة بالدموع تذهب كالصدى في أذان الشيخ، وكان الغلام يجتذب اللفظة المفردة من فم أبيه، فما كاد يفوز إلا بلا. . . أو بنعم. . .

وكانت للغرفة التي اعتقلا فيها شرفة صغيرة تطل على البحر الأبيض المتوسط، وكان منظر السفائن الماخرة كالأعلام، والطير صافات من فوقها كأنها تسبح بدورها في لج من زرقة السماء، يثير في نفس الفتى أحلاما وأخيلة وأمنيات. وأنه لفي أصيل جميل يناجي الطبيعة من شرفة سجنه الصغيرة، إذا به يذهب إلى والده مستبشرا متهللا، ويقول: (أبي! أعجزنا أن نصنع لنا أجنحة كهذه الطير. فنفلت بها من هذا المكان الرهيب؟.)

وكان الشيخ جالسا في زاوية مظلمة من زوايا الغرفة يجتر أحزانه، ويتغنى آلامه، فلما سمع ما خاطبه ابنه به، افتر فمه العجوز عن ابتسامة منقبضة مغضنة، وشاعت في أساريره بوارق أمل جديد!

وقال لابنه: (أجنحة وأنى لنا بالريش يا إيكاروس؟)

فقال الولد: (لا عليك يا أبي، أن غرفة الدجاج قريبة من هنا!)

وعبس الفنان الشيخ، وقال: (والحارس الفظ؟. . .)

فتضاحك إيكاروس قائلا: (الحارس!؟ أمره أهون مما ترى. . . سنرشوه يا ابتاه، فيحضر لنا ما نشاء من الريش، وسنخدعه أننا صانعان له لباسا لا تحلم الملوك بمثله!)

ولكن العبوسة التي رفت على جبين الشيخ أنشبت فيه جميع مخالبها، وقال: (دعني أفكر يابني، دعني أفكر يا إيكاروس. . .)

وهكذا كانت العبقرية البكر، الكامنة في هذا الفتى الصغير، لقاحا بعيد الأثر في عبقرية الشيخ الفاني المتهدم، وهكذا بدأ الفنان الأكبر، باني اللابيرنث، ومشيد هياكل الآلهة، يفكر في هذا المقترح الشارد الذي اقترحه عليه الفنان الصغير!

(أجنحة. . . دجاج. . . ريش. . . الحارس الفظ. . . مينوس. . . بردكس. . . فرخ القطا. . . الطير. . . إيكاروس ابني. . .!) وهكذا انبطح الشيخ على وثيرته تتداعى هذه الخلجات في رأسه الساخن المتأجج، تذكى فيه الذكريات والماسي!

وأحتال الفتى على الحارس حتى حصل على مقادير هائلة من ريش البط والإوز والديكة؛ وفكر الشيخ كيف يثبت الريش في مكانه من عضد الجناح، فادخر الشموع التي كانت تترك له يضيئها في الليل، ليتضاعف بلهيبها الخافت حزنه؛ حتى إذا كان لديه قدر كبير منها، عمد إليها فصهرها، وثبت بها ما شاء من الريش، وبذلك صنع زوجين من الأجنحة الكبيرة، يكفي أحدهما لحمل فيل! وجلس يمحض ابنه النصح فقال:

(أي بني! أي إيكاروس العزيز! سنطير من هنا يا ولدي! إلى أين؟ لست ادري! ولكننا سنفلت من هذا السجن على كل حال! وهاأنذا قد صنعت الأجنحة التي تخيلها املك الصغير الذي هو أكبر من جميع آمالي! ولقد رأيت إلى كيف كنت أذيب الشمع قريبا من النار يا ولدي، فأوصيك إذا طرنا ألاَّ تترك سمتي، وأن تكون دائما قريبا مني، فإني أخشى إذا علوت علوا شاهقا أن تصهر الشمس شمع جناحيك، فتهوى في البحر، فتتردى في أعماق الموت! وكما أخشى عليك من العلو الشاهق، فكذلك لا أرى لك أن تدنو من الماء، فإنه إن وصل إلى الشمع أيبسه، ولم يعد يصلح لمهمة الطيران، إذ يساقط قطعة فقطعة، ويتناثر الريش، وتسقط، إما في البحر فتغرق، وإما في الأرض فيندق عنقك. فلا تنس يا بني أن تتبعني أبداً، وأحذر أن تعلو فتدنو من الشمس، أو أن تسفل فيصيبك رذاذ الماء ورشاشه. إليَّ يا ولدي اثبت لك جناحيك، ولنمض على بركة ز. . . ز. . . زيوس!!)

وتلجلج لسانه حين أراد أن ينطق باسم الإله الأكبر، لأنه يثق أنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو محيط بعباده، لا ينسى أن ينتقم من الظالمين للمظلومين!

وانطلقا من الشرفة، والقيا على القصر، وما أحاط به من حرس وعسس، نظرات كلها نقمة وتغيظ. . .

ومرا بشطوط كثيرة ومروج كبيرة، وكان الصيادون والزراع والبحارون وأهل القرى كلما رأوا هذين الطائرين الكبيرين، ذوي الهيئة الآدمية، خروا للأذقان سجدا، يحسبون أنهما إلهان من آلهة السماء، هبطا يباركان الناس والخلق، فيهللون ويكبرون!!

فهذا شيخ يطلب إليهما أن يباركا في عقبه ويمدا في اجله، وهذه شمطاء تدعو أن يردا عليها جمالها الضائع وشبابها الذاهب، وتيك رؤوم تناجي ابنها في قبره فتطلب إليهما أن ينفضاه من الثرى! وهؤلاء فلاحون يصرخون أن يمنا عليهم فيخلصاهم من الفقر والمتربة. . .

وشاع الزهو في أعطاف إيكاروس، فكان يرتفع قليلا، أو يهبط قليلا عن سمت أبيه؛ ثم تشجع وتشجع، وبهرته زرقة السماء وأديمها الصافي، فجازف وارتفع ارتفاعا شاهقا، ونسي وصية أبيه، فعلا وذهب في السماء صعدا، وكان يغريه أن يصغر العالم الأرضي في عينيه، فيعلو ويعلو

وا أسفاه!! لقد دنت ساعة الانتقام لك يا بردكس! فلقد صهرت الشمس شمع الجناحين، وهوى إيكاروس إلى الأعماق! ولما دنا من والده صرخ صرخة هائلة دوت في إذن أبيه، فتلفت الشيخ ليرى ولده يغوص في اليم، يبتلعه مرة ويلفظه أخرى!

فأسرع الوالد المسكين إلى البحر، وأنتشل ولده من الماء جثة هامدة! وكان هو بدوره قد أذاب الماء شمع جناحيه، فعالج الموج معالجة، وسبح بفلذة كبده إلى جزيرة قريبة، بلغها بعد جهد وعناء!

وجلس يبكي ولده. . .

ثم شق له قبرا صغيرا في رمل الشاطئ، وما كاد يسره فيه، حتى رأى قطاة حزينة تدوم في السماء، ثم تهبط قليلا قليلا، حتى تكون بمقربة من القبر، فتقف كاسفة مشجونة وتنظر إلى الجثة والدموع تنهمل من عينيها. . عبرة، فعبرة. .

ويفرغ الشيخ من مواراة ولده في التراب! وينته! فيرى القطاة! فينشج نشيجا مؤلما، ويقول: (بردكس!! أتيت تبكي إيكاروس!! سامحني يا بردكس!)

فتزقو القطاة كأنها تنتحب! ثم تدنو من القبر حتى تكون فوقه، فتذرف عبرتين غاليتين، وترف في الهواء حتى تغيب عن عيني ديدالوس!!

دريني خشبة