مجلة الرسالة/العدد 96/عصر الخلفاء في مصر الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 96/عصر الخلفاء في مصر الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1935


5 - الحاكم بأمر الله

للأستاذ محمد عبد الله عنان

ولم تقتصر سياسة الحاكم الدينية على هذه الناحية من اضطهاد النصارى واليهود، ولكنها كانت تتناول الناحية الإسلامية أيضا، بكثير من الأحكام والأوامر الشاذة. وقد كانت الخلافة الفاطمية تحكم في مصر شعبا لا يتبعها من الوجهة المذهبية، وكان العمل على تدعيم هذه الصبغة المذهبية أهم عناصر سياستها الدينية؛ وقد حذا الحاكم في ذلك حذو أبيه العزيز وجده المعز، وعمل لبث الدعوة الفاطمية في قوة وجرأة ولكن في نوع من التناقض أيضا؛ ففي سنة 395هـ، أمر بسب السلف (أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية. . . الخ)، وكتب ذلك على أبواب الجوامع والمساجد والمقابر والحوانيت، وأرغم الناس على المجاهرة به ونقشه في سائر الأماكن. وفي نفس العام انشأ الحاكم دار الحكمة لتنظيم الدعوة وبثها بطريقة منظمة؛ وسنعود للكلام عنها في فصل خاص. وكان سب السلف مظاهرة شيعية عملية، ولكن سخيفة مبتذلة؛ فلم يلبث أن ضج الشعب لهذا الاجتراء المثير، وألغى المرسوم (سنة 97) وشدد في هذا المنع فيما بعد، وعوقب المخالفون بالضرب والتشهير. وفي سنة 398هـ صدر مرسوم يقرر بعض الأحكام الدينية ويفسرها، على أثر ما وقع بين الشيعة وأهل السنة من خلاف وشغب على فهم بعض الأحكام وتطبيقها؛ وهو مرسوم يشف عن روح العصر، ويحمل طابع التوفيق بين المذهبين، وإليك نصه بعد الديباجة:

(أما بعد فإن أمير المؤمنين يتلو عليكم آية من كتاب الله المبين، لا إكراه في الدين. . . مضى أمس بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه؛ معاشر المسلمين نحن الائمة، وأنتم الأمة. . . من شهد الشهادتين. . . ولا يحل عروة بين اثنين، تجمعهما هذه الأخوة، عصم الله بها من عصم، وحرم عليها ما حرم، من كل محرم من دم ومال ومنكح، الصلاح والأصلح بين الناس أصلح؛ والفساد والإفساد من العباد يستقبح؛ يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر، ويعرض عما انقضى فلا يذكر؛ ولا يقبل على ما مر وأدبر من أجزاء الأمور على ما كانت في الأيام الخالية أيام آبائنا الأئمة المهتدين، سلام الله عليهم أجمعين، مهديهم بالله، وقائمهم بأمر الله، ومنصورهم بالله ومعزهم لدين الله، وهو إذ ذاك بالمهدية والمنصورية؛ وأحوال القيروان تجري فيها ظاهرة غير خفية، ليست بمستورة عنهم ولا مطوية؛ يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون؛ ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون؛ صلاة الخميس للدين بها جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون؛ يخمس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربعون؛ يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون؛ لا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف؛ لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، وإلى الله ربه ميعاده عنده كتابه، وعليه حسابه؛ ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم؛ لا يستعلي مسلم على مسلم بما أعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما أعتمده، من جميع ما نصه أمير المؤمنين في سجله هذا، وبعده قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم تعملون). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ كتب في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة)

ومن الصعب أن نحدد موقف الحاكم إزاء الشؤون الدينية تحديداً واضحاً؛ فقد نسبت إليه في هذا الشأن تصرفات كثيرة متناقضة؛ وقيل أنه حاول أن يعدل بعض الأحكام الدينية الجوهرية كالصلاة والزكاة والصوم، بل قيل أنه شرع في إلغائها، غير أنه ليس ثمة ما يدل على أنه ذهب إلى هذا الحد، على الأقل في الفترة التي نتحدث عنها، وان لم يكن ثمة شك في أنه عدل بعض الأحكام والرسوم تعديلا يجعلها اقرب إلى الصبغة الذهبية. وأما عن عقيدة الحاكم الدينية فمن المجازفة أن يقطع فيها رأي حاسم، ومن المحقق أنها لم تثبت على وتيرة واحدة، وأنها حسبما تدل تصرفاته وأوامره الدينية، كانت تختلف باختلاف فترات حكمه؛ ونستطيع أن نصف الحاكم طورا بعد أخر، بالتعصب الديني والإغراق المذهبي، واليقين والتشكك، والإيمان والإلحاد؛ وسنرى عند الكلام عن الدعوة الفاطمية السرية أن الحاكم، كان في أواخر عصره يذهب إلى ابعد مدى من الغلو والإغراق، فيؤيد الدعوة السرية إلى نسخ أحكام الإسلام، وإلى الدعوة بألوهيته وقيامه. ويعترض ابن خلدون بشدة على القول بكفر الحاكم وإلحاده وإلغائه للصلاة، ويقول أنه زعم لا يقبله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم شيء منه لقتل لوقته. بيد أن هذا المنطق لا يتفق مع الأدلة والوثائق التي انتهت إلينا عن الفترة الأخيرة عن عصر الحاكم وعن تصرفاته الدينية ومؤازرته للدعاة السريين كما سنبين بعد

- 8 -

ولننتقل إلى ناحية أخرى من تصرفات الحاكم هي تصرفاته المالية. كان الحاكم بإجماع الرواية، جواداً وافر البذل، وكان كثير الزهد بالمال؛ وكانت الخلافة الفاطمية قد حققت في عهدها القصير من الأموال والثروات الطائلة من الجواهر والتحف الباذخة ما يفيض في وصفه المؤرخون المعاصرون بما يدهش ويبهر، وتكدس لدى الحاكم من الأموال والتحف ما يجل قدره ووصفه. ولكن الحاكم لم يغرق في تلك المظاهر الفخمة التي كانت تنثرها الخلافة الفاطمية من حولها؛ وكان يؤثر بطبيعته مظاهر الانكماش والبساطة، وكان خلافا للطغاة يعف عن مال الرعية، فإذا بدا له أن يصادر مال كبير مغضوب عليه فإنه يضيفه إلى الأموال العامة، وقد انشأ لذلك ديونا خاصا يسمى بالديوان (المفرد) تضاف إليه أموال من يقضى عليهم بالمصادرة؛ وقد ترد هذه الأموال إلى أصحابها متى زالت أسباب السخط عليهم؛ وقد تبقى نهائيا وتستعمل في الشؤون العامة

واشتهر الحاكم طوال عهده بالسخاء والبذل، وكان يسرف في العطاء أحياناً إلى حدود تهدد مالية الخزينة، وتثير اعتراض الوزراء ورجال الدولة؛ ومما يؤثر في ذلك أن أمين الأمناء الحسين ابن طاهر الوزان اعترض ذات مرة على إسراف الحاكم في الصلات والعطايا، وبلغ الحاكم اعتراضه وتوقفه في تنفيذ الأوامر، فبعث إليه بخطه في الثامن والعشرين من رمضان سنة 403 بهذه الرقعة المؤثرة:

(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله كما هو أهله ومستحقه:

أصبحت لا أرجو ولا اتقي ... إلا إلهي وله الفضل

جدي نبيِّ، وإمامي أبي ... وديني الإخلاص والعدل

ما عندكم ينفذ، وما عند الله باق، والمال مال الله عزوجل، والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام) وكان ذوو الحاجات يقصدون الحاكم أثناء طوافه، سواء بالنهار أو الليل، ويرفعون إليه حاجاتهم وظلاماتهم، فيقضي فيها بنفسه، ويقضي حاجات الكثيرين، ويثير العطايا على المحتاجين. بيد أنه لم يكن يخلو في ذلك من الشذوذ أيضا فيبخل أحياناً بأقل الصلات

وكان الحاكم يميل إلى التخفيف عن الشعب في أمر الضرائب فكان يرفع عنه أحياناً بعض المكوس حين الأزمات العامة؛ وقد يعيدها طبقا للظروف والأحوال؛ ولما فتحت دار الحكمة كان من رسومها أن يؤدي (المؤمنون) مال النجوى، وهو رسم اختياري ينفق من دخله على النقباء، وكانت تحصل أحياناً وتبطل أحياناً

- 9 -

إلى جانب هذا الجود الشامل، وهذا التعفف عن أموال الرعية، كان الحاكم يتمتع بخلة أخرى اجمع المؤرخون على الإشادة بها، تلك هي زهده وتقشفه في مظاهره العامة وفي حياته الخاصة، ثم تواضعه المؤثر واحتقاره للرسوم والألقاب الفخمة التي كان يحيطه بها ملك قوي وخلافة باذخة. وكان لأول حكمه قد أمر بمنع الناس كافة من مخاطبة أحد أو مكاتبته بسيدنا ومولانا إلا أمير المؤمنين وحده؛ ثم عاد فاصدر أوامره، بألا يقبل أحد له الأرض، ولا يقبل أحد ركابه ولا يده عند السلام عليه، إذ لا يجوز الانحناء إلى الأرض لمخلوق، وإنما هي بدعة من صنيع الروم لا يجمل أن يجيزها أمير المؤمنين؛ ويكفي في السلام الخلافي أن يقال: (السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته)، كذلك يجب ألا يصلى عليه أحد في مكاتبة ولا مخاطبة، بل يقتصر في ذلك على (سلام الله وتحياته ونوامي بركاته على أمير المؤمنين) ويدعي له بما تيسر من الدعاء فقط، وقد كانت الصلاة على أمير المؤمنين من أخص رسوم الخلافة الفاطمية، وكانت الإمامة عنوانها، وكان يصلى على الخليفة كما يصلى على النبي في الخطبة، وفي المكاتبات والمحادثات الرسمية. ولكن الحاكم ابطل هذه الرسوم ولم يقل الخطباء يوم الجمعة سوى: (اللهم صلي على محمد المصطفى، وسلم على أمير المؤمنين على المرتضى، اللهم وسلم على أمراء المؤمنين، آباء أمير المؤمنين، اللهم اجعل افضل سلامك على عبدك وخليفتك. . . الخ)، ومنع الحاكم أيضا ضرب الطبول والأبواق حول القصر، فصار الحرس يطوفون بلا طبل ولا أبواق. وركب الحاكم يوم عيد الفطر (403هـ) إلى المصلى بلا زينة ولا جنائب ولا موكب فخم، واكتفى بأفراس عليها سرج ولجم محلاة بفضة خفيفة، وبنود ساذجة، ومظلة خلافية بيضاء بلا ذهب، يرتدي البياض بلا حلية ولا ذهب، وعمامة دون جوهر، ولم يفرش المنبر، ولم تتخذ بالمسجد أهبات غير عادية، وركب إلى الصلاة في عيد الأضحى على هذا المنوال البسيط

وكانت هذه النزعة إلى البساطة تسود معظم المواكب والاستقبالات الرسمية. وكان الحاكم يركب في المدينة في ابسط المظاهر الديمقراطية التي تذكرنا بديمقراطية المسلمين الأوائل؛ فيرتدي ثيابا بسيطة، أو يرتدي دارعة صوف بيضاء ويتعمم بفوطة وفي رجله حذاء عربي ساذج، وقد يركب فرسا بلا زينة أو حمارا، وفي أحيان قليلة يركب محفة يحملها الرجال، وعشارية تشق به النيل؛ وكان اغلب طوافه بالقاهرة على الحمير دون موكب ولا ضجة، لا يصحبه من الحشم سوى بضعة من الركابية؛ وكان كثير الاتصال بالشعب فكان القصر مفتح الأبواب للمتظلمين وذوي الحاجات؛ وكان يستمع إليهم أثناء طوافه وينظر في مطالبهم كما قدمنا

وأما عن حياة الحاكم الخاصة فلم تصلنا سوى لمحات ضئيلة؛ ولكن لا ريب أنه كان يعيش بنفس البساطة التي كان يبدو بها في مظاهره الرسمية؛ وقد رأينا كيف اضطلع الحاكم بأعباء الحكم صبيا دون السادسة عشرة، وكيف أن انهماكه بالشؤون العامة منذ حداثته لم يترك له فرصة للانغماس في مجال اللهو والعبث التي يغرق فيها من كان في سنه وفي ظروفه؛ وقد كان الحاكم تحمله بلا ريب نزعة صوفية فلسفية؛ ذلك أنه كان يرى في التقشف مثله، ويحتقر متاع هذه الدنيا الدنيئة؛ ويرتفع عن مفاسد هذا المجتمع وعن غرائزه وشهواته النفسية الوضيعة. ولم يقل لنا أحد ممن كتبوا عن الحاكم، معاصرين أو متأخرين أنه كان يتصف بشيء من الرذائل الاجتماعية، بل تدل أقوالهم جميعا على أن هذا الطاغية الفيلسوف، كان نقيا في حياته الخاصة، بعيدا عن هذا الترف الناعم الذي يفت في الأجسام والأرواح القوية، متقشفا في مأكله وملبسه، حتى قيل أنه لبث أعواما يرتدي الصوف، وأنه امتنع عن دخول الحمام. والخلاصة إن هذه الشخصية العجيبة التي تقدم إلينا من نواحيها العامة في صورة مثيرة مروعة، تحملنا من نواحيها الخاصة على الإعجاب والاحترام بما تشف عنه من سمو ونقاه واحتقار للشهوات الإنسانية

للبحث بقية

محمد عبد الله عنان المحامي