مجلة الرسالة/العدد 962/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 962/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1951



(ديوان رسالة المشرق) لمحمد إقبال

تعريب الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وديوان (اللمعات) للدكتور المعرب

للأستاذ عبد النعم خلاف

منذ أن عرفنا كفايات (الدكتور عبد الوهاب عزام) الأستاذ بكلية الآداب بجامعة فؤاد والعالم الباحث الأديب، ومن بينها كفايته الممتازة في حذق الفارسية والتركية والأوربية، وأنا أسائل نفسي والناس: لماذا لا تنتفع الدولة والهيئات الإسلامية والجهات الأدبية بجهد هذا الرجل وفضله في توثيق عرى الأخوة والصداقة بين الشعوب هذه اللغات وبين مصر خاصة والعرب عامة! إن ما يفعله مثل هذا العالم الأديب المدرك في توطد العلاقات بين هذه الأمر والشعوب أعظم وأفعل بكثير مما تفعله تلك العلاقات التقليدية الرسمية المحدودة القائمة على الدبلوماسية المصرية التي لا تجد مثل هذه الكفاية في أغلب المجالات، وإن وجدتها فأخلق بها أن نضيعها فيما تضيع من مواهب ومصالح ومعان. . .

حقاً كان السؤال يشغلني منذ عشرين سنة، وما كنت أظن أن ما أرجوه وأسأل عنه سيتحقق؛ لما كنت أراه من انصراف مصر الرسمية، إلى ما قبيل هذا العهد، عن التوجه للشرق الإسلامي وشعوبه وعلاقاته، واتجاها صوب الغرب لتكون منه ولو في موضع الذيل. . وكان يشرفها في نظر تلك الطبقة الممسوخة التي ضيعت كل شئ حتى نفسها.

ثم تداركنا الله بلطفه فأظلنا ذلك العهد الذي ابتدأنا نتحرر منه من نظرات الممسوخين المصروفين عن الخير الكامن في الشرق الإسلامي، وتدرك بعض الحقائق عن أنفسنا وعلاقاتها الأصلية بالأمم الإسلامية والسرقية، وكان الانتفاخ بمواهب الدكتور عبد الوهاب عزام بك في توطيد تلك العلاقات من مفاتح هذا الاتجاه، وأي انتفاع في السفارة بين الأمم أعظم من القيام بجانب السفارة الدبلوماسية الفكرية وتعريف كل من الطرفين بعقل الآخر وروحه ومزج العقلين والروحين عن طريق الترجمة والنقل للآثار الأدبية الموجهة للحياة؟!

لقد عرب الدكتور عبد الوهاب ديوان (نيام مشرق) أو رسالة المشرق للشاعر الفيلسوف محمد إقبال، الذي كان قيام دولة الباكستان لمحة من لمحات خاطره وشاعريته، أوحى بها إلى مسلمي الهند في خفقا من خفاقات الإلهام الذي يخلق الأحداث الجسام وبغير وجه التاريخ، فما لبثت أن تلقفها منه (رابطة مسلمي الهند) على يد البطل الحديدي رجل الكفاح والصبر (محمد علي جنه) الذي نفخ في عزم بني دينه حتى خلقت باكستان في لحظة من لحظات التاريخ الحاسمة المسعدة. .

ولقد عرفت روح الدكتور المترجم روح الشاعر الملهم من قبل أن نتعرف إلى أرضه ودياره ودولة أحلامه التي تحققت بعد وفاته بوقت قليل.

ولست بصدد تقديم الدكتور عزام بك بوصفه مترجماً أديباً عالماً أصيل اليباجة العربية عميق الإدراك مشرق الروح أمين الآراء فذلك مني جرأة لا تحمد، بعد أن عرفته العربية علما من أعلام الفكر والقلم واللسان. . ولست كذلك بصدد عرض ديواني رسالة المشرق واللمعات ونقدهما النقد اللائق بهما. . وإنما أنا الآن بصدد التنويه بظهور هذين الأثرين الفكرين في ثوب من الشعر العربي المبين.

في (رسالة المشرق) تحليق فكر ورفرفة روح؛ فإن إقبالاً من الشعراء الفلاسفة الصوفيين الذين تزدوج في نتاجهم العشق الصوفي بالعلم ازدواجاً ينتج تلك (الحلقة المفقودة) من الآداب الرفيعة التي يتمثل فيها جلال الإنسانية وسمتها ووفوفها في نصابها الأعلى. . وفيه كثير من الومضات التي يمتاز بها الشعر الصوفي، قد تظهر صوراً واضحة أو رموزاً مبهمة أو ضباباً

وفيه توجيهات عقلية ودينية في صور من الأمثال المضروبة على ألسنة الحيوان والنبات والجماد. وفيه تلك الخواطر الوجدانية المشتعلة ذات الجذوة الحمراء والمبتردة ذات الجذوة البيضاء. . .

وحسبي أن أذكر المذهب الذي سلكه إقبال وهو يتضح في تلك المحاورة التي أجراها بين العشق والعلم.

العلم:

أنا سر الكواكب والجهات ... وفي قيدي ثوى ماض وآت

وعيني حدقت فيما أمامي ... وما نظري وراء السابحات؟ وكم نغمت في عودي وبوقي ... وأسراري عرضت بكل سوق

العشق:

بسحرك سجرت هذي البحار ... وملء الجو سمك والشرار

وكنت لي الصديق فكنت نورا ... ونورك مذ هجرت حماي نار

ولدت الأمس في حرم الرحيم ... وصرت اليوم في قيد الرجيم

هلم فرد روضا ذا اليبابا ... ورد مشيب دنيانا شبابا

حلم بذرة من نار قلبي ... أقم في الأرض فردوسا عجابا

كلانا الدهر خل لا يجور ... للحن واحد بم وزير. . .

ألست ترى في هذه الأبيات أمل الإنسانية المفقود الذي ما فتئت نفوس المخلصين نتطلع إليه وهو قيام حياة يعرف فيها للعلم مكانه؛ ولمنطق القلب وشفافيته ورحمته وعشقه للمجهول فكأنه؟ وألست ترى مشكلة العلم تتخلص في انه لا يزال يولد في نبضة من نبضات رحمة الله الرحيم بالإنسانية فما يلبث أن يتلقفه الشيطان الرجيم فيدمر به العامر، ويعدب به من يتطلع إلى الرحمات المرسلة؟

ثم ألست نراه يضع العلم والعشق حيث يجب أن يوضعا معاً في خلة صادقة لا تجوز ولا تطغى، كأنهما وتران في قيثارة يجب أن يتوازن التوقيع عليهما حتى ينغما نغماً فيه ذلك (الهرموني) والانسجام الموسيقي الذي يثير في النفس إطرابها وأشواقها؟!

وإقبال بهذا الاتجاه الصحيح المزدوج رائد من رواد الفكر الإسلامي الحديث، أنقذ به مسلمي الهند من آثار السلبية والانطلاق الشعري الصوفي اللذين يغلبان علي قلسلات الهنود، ويشل قوى العقل والعمل ويحرم الإنسان من الانتفاع بالقوى المادية، وأنقذ بذلك عدداً كبيراً من المسلمين الهنود الماديين المحدثين الذين لا يؤمنون بغير العقل المادي على الأسلوب الغربي الحديث الذي لا يؤمن بما وراء المادة فردهم إلى حظيرة الإسلام بعد أن علموا نظرته المزدوجة إلى الوجود.

وهو كغيره من الصوفية لا يعول على العقل وحده وإنما يكبره حينما يصحب العشق ويفنى فيه. والعقل عند الصوفية عاجز جبان لا يدرك الحقائق الكبرى ولكن يتصرف في الجزئيات.

يقول إقبال:

العقل يحرق عالما ... في جلوا منه تغير

لكنه بالعشق يعرف ... كيف في الدنيا يسير

العشق في الأرواح يخلق ... كل لون أو يثير

بالعشق ترتاح القلوب ... وإنه فيها سمير

أنصت لقلبك ساعة ... فلعلما يدنو العسير

لقد قدم المترجم للديوان للديوان ولمؤلفه مقدمة وافية بالتعريف بالشاعر وفلسفته وعرانس شعره ومصادر ثقافته؛ وبين طريقة في الترجمة بما جعل هذه المقدمة من نماذج الدراسة الأدبية التي تدور حول الشاعر وعصره وعناصر تكوينه.

ألحق بديوان (بيام مشرق) (اللمعات) وهو خلاصة فلسفة الدكتور واتجاهاته وتوجيهاته وصدى لالتقاء هذين الروحيين الكبيرين اللذين جمعت بينهما الأذواق الصوفية والدراسات العميقة لآثار شعراء التصوف من الفرس والترك. والاتصال الوثيق بالدراسات الأوربية. والحضارة الغربية والفهم العميق للإسلام وروحه وعقائده

وقد أهدى المترجم هذه اللمعات إلى اعترافاً بفضله إذ شرع في نظمها عقب قراءته لمنظومتي إقبال (أسرار خودى) أي أسرار الذاتية و (رموز خودي)

و (اللمعات) لطيف الحجم ولكنه ملئ بالتأمل والهيام الصوفي وقضايا من العقل الواعي، وخلوص النفس من الشوائب والقيود، استنهاض القوى الذاتية ودفعها نحو الكمال والقوة والحرية وأشراف الأمور، والأحكام الصادقة على الأخلاق والأعمال، والتوجيهات الموفقة للشباب.

وحسبي أن أسرد عليك أبياتاً من بعض قصائده لترى الآفاق التي رادها: لقد افتتح الديوان بمطولة بدون عنوان سار فيها على درب الصوفية وحشد فيها كثيراً من الخواطر والصور والتوجيهات منها:

كثت سطراً لم يفسره أحد ... خطه في غيبه الله العمد

في ضميري كل معنى مبهم ... حرت في الإعراب عنه بالكلم

قد ثوى العالم في قلبي وما ... خط شئ فيه إلا الحرف ما فهو هنا صوفي رمزي أصيل تدفعه قوى العشق والاستغراق في التأمل

ثم يسير على درب القوم وكأنك تسمع إلى الشهرزوري في قصيدته الرائعة:

لمعت نارهم وقد عسمس الليل ومل الحادي وحار الدليل إذ يقول:

يا لبيني أوقدي، طال المدى ... أوقدي على النار هدى

أوقدي يا لبن قد حار الدليل ... أوقدي النار لأبناء السبيل

ارفعي النار وأذكى جمرها ... عل هذا الركب يعشو شطرها

شردي هذا الظلام الجاثما ... أرشدي هذا الفراش الحائمة

ثم يأخذه الهيام بنشوته فيصور انطلاقه من انطلاقات نفسه

رن في آفاقنا هذا النداء ... فأممنا البيت يحدونا الرجاء

قد غنينا عن مبيت ومقيل ... وعن الأمواء والظل الظليل

وعن الرغبة والخوف سوى ... خلع النعلان في وادي طوى

كل حر ضاق عنه الموطن ... وانطوى دون مناء الزمن

كل طيار على متن الفكر ... وعلى متن هيام لا يقر

ثم يعود بعد هيامه في عالم الرموز إلى عالم الصور الكبيرة للذاتية الإنسانية الكاملة في الإسلام

حبذا الصوت فمن هذا البشير ... ومن الهاتف بالقلب المبير

ومن المسعد في هذي الهموم ... ومن الباروق في هذي الغيوم

ومن الهابط في نور السما ... هاويا في الأرض جيلاً مظلماً

ومن الهادي إلى أرض الحبيب ... يعرف النهج وقد حار اللبيب

ومن السائق شطر الحرم ... وإلى الأصنام سير الأمم

ومن القارئ في بيت الصنم ... سورة الإخلاص في هذا النغم

ومن الحر الذي قد حطما ... من قيود الأسر هذا الأدهما

ومن الباعث في ميت الأمم ... ثورة العزة من هذي الهمم

ثم يمضي الدكتور الشاعر على هذا النهج الواضح المشرق في قصائد الديوان التوجيهية تحت أمثال العنوانات الآتية: (صغار الهمم) (العالم معبد) (لا رهبانية في الإسلام) (معنى التوكل) (الأمل) وفي هذه القصيدة الأخيرة معان ووصايا يجدر أن توضع دائماً أمام عيون قادة البعث الإسلامي لتجدد من عزمهم وتشحذ من هممهم ليواصلوا كفاحهم في ظل من روح الله الذي يطرد اليأس آفة الآفات لجهاد حياة الظلام

لا ترانا في جهاد نيأس ... ليس من أمتنا من يئسوا

أشعل الإيمان في كل دجي ... وأقدح العزم إذا الهول دجا

وصل القلب بخلاق الرجاء ... واخلقن في كل حين ما تشاء

إنما الإنسان فكر وعمل ... يصدع الظلماء في نور الأمل

أمل الإنسان في القلب ضياء ... وهو في الكف جهاد ومضاء

وقضاء الله عون الآملين ... وهو في عون الأباة العاملين

هذه عجلة من الدواوين، أخالصين للحق والقوة والجمال، الزاخرين بجواهر المعاني الإسلامية يقدمها الشاعران نماذج لما في القلب الإسلامي من مدخرات للإنسانية الضالة الخابطة المعذبة.

يجدر بوزارات المعارف في ديار الإسلام أن تضعها أمام عيون النشء كما تكثر من وضع آداب (الترف) العقلي وتمليق الغرائز، والتصوير المكشوف للآفاق المنحطة من حياة القطيع.

وقد نشر الديوانين (جماعة إقبال) في (كراتشي) بالباكستان في مجلد أنيق على ورق فاخر كأنه ورق الورد رونقاً وبهاء.

عبد النعم خلاف