مجلة الرسالة/العدد 967/دعوة محمد

مجلة الرسالة/العدد 967/دعوة محمد

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 01 - 1952



لتوماس كارليل

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

العرب:

كان العرب أمة جاهلية عزيزة الجانب تعيش في بلاد كريمة، وكأنما الله قد خلق البلاد وأهلها على وفاق بينهما، فهناك شبه غريب بين صلابة البلاد ووعورتها وبين صلابة البلاد ووعورة مسالكها، وبين إقفار البلاد وجفاء طباع أهلها. ولكن كان يخفف من حدة صلابة البلاد ووعورتها، قيعان ذات أمواه ورياض فيحاء، وكلأ أخضر نضير، كما كان يلطف من صلابة نفوس العرب وقسوة قلوبهم، مزاج من اللين والدماثة ورقة الطبع.

كان العرب يعيشون في بلاد خرساء، تحيط بهم صحراء قفراء، تمتد إلى مدى البصر، فتخالها بحراً من الرمل. يصطلي حره طول النهار العربي ويكافح قره طول الليل، وقد ترك فيه هذا الجو أثرا ظاهراً، فكنت تراه يؤثر الصمت فلا يتكلم إلا فيما له صلة به ومساس بقومه.

وإن قوماً هذا شأنهم ينفردون وسط البيد، ويتنقلون بين الرمال والجبال، يناجون الطبيعة أسرارها، ويشاركونها أعاصيرها وجمالها، لابد أنهم يكونون خفاف الحركة، ثاقبي النظر، حداد الخواطر، أذكياء القلوب. وفوق ذلك فهم أقوياء النفوس متينو الأخلاق، لهم من شدة حزمهم وقوة إرادتهم، حصن منيع وحاجز يقيهم تقلبات الأخلاق عند غيرهم من الأمم، وهذا ولا شك منتهى الشرف وذروة الفضائل، وما بالك بقوم يضيف أحدهم ألد أعدائه، فيكرم مثواه، وينحر له ويقدم له أطايب الطعام، ويؤثره بأفضل ما عنده، فإذا أزمع الضيف الرحيل، شيعة وخلع عليه مما تملك يداه، وحملة ما يستطيع أن يجود به. فإذا لقيه في مكان بعيد عن داره وقومه، لا يحجم عن مقاتلته أخذا بثأره، رغم ما قضيناه من صحبة.

يزعم البعض أن العرب من عنصر اليهود، ولكن هذا زعم باطل، لا يقيمه دليل ولا ينهضه برهان، والحقيقة أنهم شاركوا اليهود في بعض الصفات، وامتازوا عليهم ببعضها. فقد شاركوهم مرارة الحد، وامتازوا عليهم، برقة الطبع وحلاوة الشمائل والوفاء بالعه ونصرة الضعيف، وأريحية القلب وألمعية القريحة، فإن العربي رغم أنه طول وقته يظل صامتاً كما قلت، إلا أنه إذا تكلم تدفق فصاحة وقوة، وكان ذلك يظهر جلياً في منافساتهم الشعرية التي كانوا يعقدونها في جنوب البلاد، حيث تقام أسواق التجارة، فإذا انقضت الأسواق اجتمع العرب بسوق عكاظ وتناشدوا الشعر طالباً للجوائز التي كانت تعطي لمن جاد قوله وحسن قريضة. وكان هؤلاء الأعراب غلاظ الأكباد جفاة الطباع، ينصتون للمنشد فيجدون لرناته أثراً قوياً في نفوسهم، ويرتاحون لنغماته التي تأخذ طريقها إلى شغاف قلوبهم.

وأرى لهؤلاء العرب فضيلة تفوق كل الفضائل، وتجمع المحامد كلها، ألا وهي فضيلة التدين، فالعرب شديدو التمسك بدينهم، مهما كان لا يقبلون فيه طعناً ولا يسكتون على تجريحه، ولأنهم كانوا يعيشون في الصحراء يشاهدون مظاهر الكون، فكان أكثرهم يعبدون الكواكب وغيرها من كائنات الكون ويرون فيها مظاهر الخالق ودلائل عظمته.

وقد كان لهؤلاء العرب أنبياء سابقون جاءهم من عند الله، كما كان لهم أساتذة ومرشدون في كل قبيلة، يلتف حوله أهلها يقدرونه حسبما يبلغ من العلم والدراية وحصافة الرأي.

وكان مما اتصف به العرب المفكرون، الحكمة البليغة والرأي السديد، فقد اتفق النقاد على أن (سفر أيوب) أحد أجزاء التوراة، كتب في بلادهم، والدليل على هذا ما يمتاز به من فضل وشرف وحكمة. فهو أبرع ما سطر وأبلغ ما كتب، وبما فيه من عمومية الأفكار التي تخالف التعصب البغيض الذي يمتاز به العبرانيون. وسموها وشرف مقاصدها، ويكفي أنك تجد بهذا الكتاب اتصالا بكل نفس وأنه يمت إلى كل قلب، وأنه كالبيت العريق والمجد الأثيل، يفضي إليه منتهى السبل، ويتجمع فيه الأرج الضائع، وتحاول الانتساب إليه جميع الأنوق، فيه من الحزن الشريف آيات بينات، ومن التوكل الحسن الجميل دلائل ناصعة على قدرة الله وتدبيره الكون. وما بالك بكتاب يكون أول ما جاءنا عن مسألة المسائل. حياة الإنسان وما يكون له من نصيب في هذه الدار وفي الدار الآخرة، وما يكافئ الله به الإنسان على عمله، كل ذلك في يسر وسهولة ونصاعة بيان، إنه الحق من حيث أتيته، والنظر الثاقب والعلم الراسب في قرارة كل شيء وصميم كل أمر، مادي روحاني. وإن دل كل هذا على شيء فإنما يدل على فهم غزير وبصيرة نافذة.

ما قرأت فيه يوماً إلا امتلأت نفسي سموا ورفعة، وأحس كأن قلب الإنسانية يترنم شجي ووجداً، ودمعها يفيض حرقة وكمداً. إنها الرقة في شدة والرأفة في قوة، وما أشبهها إلا بسحر الليلة الصائفة، نسيم عليل والوجود في جلال مشهد جليل عظيم. بل أشبهه بالكون وكل ما فيه من ليل ونهار وأنجم وبحار وحيوان وأطيار، ولن أكون مغالياً إذا قلت: إنه ليس في جميع أجزاء التوراة جزء يعادله قيمة وفضلا وقوة وبلاغة.

محمد النبي:

في هذه البلاد وبين هؤلاء العرب الذين ذكرت لك بعض صفاتهم، ولد محمد () سنة 571 ميلادية من قبيلة قريش، أعز القبائل جانباً وأرفعها شأناً، ومن أعرق أسرها نسباً وهي أسرة بني هاشم. وأشتهر محمد بالجمال والعقل والفضل على صغر سنه، وقد أبصرت عين جده الهرمة ابنه عبد الله الذي كان حبيباً إلى قلبه في صورة حفيده محمد فأحبه بملء قلبه، وكان يقول: يحسن العناية بهذا الصبي فإني أرى أنه سيفوق كل أفراد الأسرة والقبيلة فضلا وحسنا؛ وعندما أحس الشيخ بدنو أجله عهد إلى ابنه أبي طالب الذي يعتبر أكبر الأسرة، والذي سيتولى مكان عبد المطلب، وكان رجلا عاقلا، بالعناية بمحمد، والقيام على تربيته أحسن القيام، فكان أبو طالب عند حسن ظن أبيه، فقد أولى الغلام عناية فائقة.

فلما اشتد عود محمد وترعرع، صار يرافق عمه في أسفاره في التجارة، وكان لهذه الأسفار أثر كبير في نفسه وفي حياته، فقد حدث في إحدى رحلاته إلى بلاد الشام، عندما بلغ حوال الخامسة عشر، أن وجد نفسه في عالم ذاخر، إزاء مسألة عظيمة الأهمية جليلة الخطر في نظره، وهي المسيحية التي تحدث عنها أمامه الراهب سرجاس (بحيرا) يوم سكن معه محمد هو وعمه

كان محمد لا يعرف إلا لغته، فلم يكن يراه من أحوال الشام ومشاهدها إلا مزيجاً من أمور لا يفهم لها معنى، غير أنه كان يرى بعينه الثاقبة النافذة، ومكس نظرة على لوح فؤاده أموراً وأشياء كثيرة، رسبت في أعماق ضميره، وإن يكن لم يفهم منها شيئاً، ولكنها بقيت ريثما يفسرها له الزمن وتجلوها الأيام، لتخرج آراء ونظرات نافذة وعقائد راسخة، فكانت هذه الرحلة لمحمد بمثابة فاتحة خير كثير وفوائد عظيمة في عالم الرسالة التي أمر بتبليغها لم يكن حظ بلاد العرب من العلم في ذلك العصر موفورا فقد كانوا حديثي عهد بصناعة الخط، فنشأ محمد كغيره من أبناء البلاد لا يعرف القراء ولا الكتابة وبالتالي لم يتلق دروسا عن أستاذ أو معلم، بل تلتقي علومه من الصحراء وأحوالها ووديانها وهضابها، واستطاع بقلبه أن يتلقى من هذا الكون اللانهائي درساً من أعظم الدروس فائدة وأكثرها عمقاً، دفعة إلى تدقيق النظر في معبودات قومه، فوجدها أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تدفع شراً ولا تجلب خيراً

لا ضير على محمد أنه لم يكن يعرف علوم الأرض كلها وما يضطرب فيه العالم. فقد كان في غنى عن ذلك كله بنفسه ونظره الثاقب وقلبه الكبير. إنه لم يقتبس من نور أي إنسان غيره، ولم ينهل من منهل أحد، فلم يكن كغيره من الأنبياء والعظماء الذين سبقوه، والذين استعانوا بغيرهم يتلقون عنهم ويتعلمون منهم، وإنما نشأ وعاش في كبد الصحراء بين الوهاد والجبال والأعاصير والرياح، بعيدا عن كل شيء إلا عن الطبيعة الفياضة وأفكاره الدافقة. والدي يعرف تاريخ محمد منذ نشأته يرى أنه منذ صباه كان دائم التفكير، يتجه ببصره نحو الكون العجيب، فلما بلغ الشباب أحذ يعتزل الناس شهرا كل سنة - وهو شهر رمضان الذي يصومه المسلمون الآن - فينقطع عن الناس مؤتنساً بالوحدة والسكون. متأملا في هذا العالم الواسع الذي لانهاية له، كان يخلو إلى نفسه يناجي ضميره بين الجبال الصماء، متجها بقلبه وعقله لأصوات الكون الغامضة الخفية يستطلعها أسرار الكون، ويستجليها ما غمض عليه. حتى إذا بلغ الأربعين من عمره وأقبل شهر رمضان، خلا إلى نفسه بجبل حراء قرب مكة، وقد استصحب معه هذه المرة زوجته خديجة وأنزلها في مكان قريب من الغار.

وبينما هو يتعبد ذات يوم، نزل عليه الملك الأعظم وأخبره بما كان يحير فكره وجلا له غامض الأسرار، وأرشده إلى ما يبحث عنه، فحرج إلى خديجة يخبرها أن الله تفضل عليه فأنار له الشبهة وجلا الشك، ثم أخبرها أن جميع هذه الأصنام التي يعبدها قومه ليست إلا أخشابا وأحجارا حقيرة لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، وأن الحقيقة بالعبادة هو الله الذي لا الله إلا هو، وأن سائر الكائنات ليست إلاضلا له ودليلا على عظمته وقدرته، إنه النور الأبدي والسر السرمدي. الله أكبر ولله الحق.

أصغيت إليه زوجته في دهشة واستغراب، ولكنها ما لبثت أن أمنت به وصدقته (أي وربي إنه الحق) وقد رأى محمد في إيمانها بكلمته، جميلا يفوق كل جميل، فشكرها على هذا الصنيع وعرف لها هذا الجميل طوال حياتها، فكان يذكرها دائما بالخير والثناء، حتى أن زوجته عائشة التي اشتهرت بالفضائل بين المسلمين طول حياتها، وبما لها عند محمد من مكانه، سألته مرة: (ألست الآن أفضل من خديجة؟ هل كانت إلا أرملة قد ذهب جمالها، وأرى إنك تخصها بالحب أكثر) فرد عليها محمد في شيء من الغضب (لا! والله لست أفضل منها وكيف تكونين آثر منها عندي وهي التي آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء).

لقد عرف محمد لخديجة صنيعها، فليس أروح لنفس المرء وأثلج لصدره من أن يجد له شريكا ينظم إليه في اعتقاده ويقف بجانبه وقت المحنة والشدة، ولقد قال نوفاليس: (ما رأيت شيئا قط أوثق لاعتقادي وآكد ليقيني من أن ينظم إلى إنسان آخر يوافقني رأيي ويعتقد عقيدتي).

جهاد محمد:

خرج محمد إلى قومه يذكر لهم رسالته ويدعوهم إلى عبادة الله ونبذ عبادة الأصنام، فكان يصادف جمودا من قومه وسخرية لاذعة، كفيلة بأن ترد أي إنسان عن أعز شيء عنده وأن تحطم أقوى الأعصاب صلابة وقوة، فقد قضى أعواما ثلاثة في جهاد متواصل فلم يؤمن بدعوته إلا ثلاثة عشر رجلا، فهل هذا يعد تشجيعا؟ إن كان يعتبر هذا تشجيعا، فبئس هذا التشجيع، ولكنه المنتظر في كل دعوة كدعوة محمد، في قوم لهم عقائد وعبادات يعتزون بها ويتمسكون.

وبعد هذه الأعوام الثلاثة جمع أربعين رجلا من ذوي قرابته، وقام فيهم خطيبا، ذكر لهم دعوته، وما أوحى الله به إليه وأنه يريد أن ينشرها بين الناس وفي أنحاء الكون، فمن منهم على استعداد لأن يمد له يده ويأخذ بناصره وهم أهله وعشيرته. فدهش القوم وتملكهم العجب وسادهم صمت رهيب، وبينما هم في صمتهم، هب من بينهم شاب في السادسة عشرة من عمره وقد غاظه سكوتهم، فصاح بصوت كأنه الرعد، إنه ذاك النصير والظهير، هذا الشاب هو علي ابن أبي طالب. فسخر القوم منه وانفضوا ضوا ضاحكين، ولكن الأمر لم يكن مما يسخر منه بل كان في غابة الجد والخطر.

لقد كان في عمل محمد، إساءة لقريش، سدنة الكعبة وخدمة الأصنام، فسرى أمره ببطيء شديد لا يشجع أحد ولكنه كان سريان على كل حال.

ودأب محمد يؤدي رسالته إلى كل من يصغي إليه فكان ينتهز مواسم الحج فيذكر دعوته بين الحجيج مدة إقامتهم بمكة ويستميل الاتباع هنا وهناك، وهو في أثناء ذلك يلقى مجاهرة بالشر ومناسبة بالعداء ومنابذة ومناوئة في كل مكان، فاستقر رأيه هو وأصحابه على الهجرة إلى الحبشة. فلما علمت قريش بذلك ساءها الأمر وتضاعف غيظها من محمد وحنقها عليه فأقسمت بآلهتها لتقتلنه بأيديها. وشددوا عليه النكير فلم يستطع تنفيذ خطته، وصار حرجاً في غاية الحرج وخصوصاً بعد زوجته خديجة وعمه أبو طالب اللذان كانا له المعين ونعم النصير، فجعل يختبئ في الكهوف وقومه يطاردونه من مكان إلى مكان، تتوعد المهالك وتتهدده الخلوف، وتغفر له المنايا أفواهها، ويقف محمد يتلفت فلا يجد ناصراً ولا مجيراً، ولكن الأمر الذي جاوبه ذلك الأمر العظيم، لم يكن لينتهي على مثل تلك الحال، ومحمد ذلك الصابر القوي الإرادة الثابت العزيمة، لم يكن ليوهن من عزمه كل ذلك الاضطهاد والمطاردة، ليتوقف عن أداء رسالته.

فلما اشتد أذى الكفار له وحنقهم عليه وكان قد انقضى ثلاث عشرة سنة على دعوته لقومه ووجد أعداءه يتربصون به جميعاً، وقد تجمع منهم أربعون رجلاً يمثلون جميع القبائل، ليقتلوه، عرف أن مقامه بمكة أصبح مستحيلاً، لا يستطيع معه أداء مهمته، هاجر إلى يثرب حيث استجاب لدعوته أهلها الذين سموا بالأنصار وسميت البلدة بالمدينة. أي مدينة محمد.

وكان محمد إذ ذاك قد صار شيخأ كبيراً فقد باع الثالثة والخمسين من عمره، ولكن أهل مكة ما إن علموا بمكانته حتى أخذوا يلاحقونه برسائلهم وغاراتهم وكيدهم وعدائهم، فرأى أنه لا سبيل إلى الحياة ونشر الدعوة إلا إذا امتشق الحسام، الذي يزيل حدة كالحات المحن، فقد كان أمامه سبيل وعر وخطة نكراء وقوم يملأ العناد قلوبهم، فإذا لم يجد من نفسه قوة على مجالدتهم، كان مصير دعوته الزوال، وهكذا شأن كل إنسان في مثل هذه الأحوال. والحق أقول، لقد كان محمد يريد أن ينشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن مل حيلته إزاء هذه الصعاب، فعزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه وعن دينه دفاع رجل ثم دفاع عربي حر كريم. وكأني أسمعه يقول: أما وقد أبت قريش إلا الحرب، فلينتظروا أي فتيان هيجاء نحن.

وحقاً رأى وحسناً فعل فإن أولئك القوم الذين صموا آذانهم عن سماع كلمة الحق وغلفوا قلوبهم عن شريعة الصدق، وأبوا إلا الاستمرار في ضلالاتهم، يسلبون وينهبون ويقتلون النفس التي حرم الله، ويستبيحون المحرمات ويهتكون الحرمات، ويفاخرون بإتيان الإثم والمنكر، قد جاءهم نور من الله وكتاب مبين يدعوهم بالرفق والإثارة، فأبوا الاعتوا وطغيانا. فما على محمد إلا أن يجعل الفاصل بينه وبينهم المسند والوشيج والمقوم، وإلى كل سامجة جرداء ومسرودة حصداء، حتى تلين قناتها عزين.

وهكذا امتشق محمد وأصحابه الذين باعوا أنفسهم في سبيله وفي سبيل دعوته، سيوفهم عشر سنوات في حرب وجهاد لم يهدؤوا لحظة ولم يستريحوا غمضة عين وهو يقودهم من نصر إلى نصر كأعظم ما يكون القائد العبقري وكأشجع ما يكون المقاتل فقد كان يقف وسط المعركة لا يهاب ولا يخشى، بل كان أصحاب يلوذون به في كثير من الأحيان، وبذلك استطاع أن ينشر دينه بين أبناء الصحراء وأن يفتح مكة التي خرج منها خائفا يترقب.

الطبيعة تنصر الحق:

تحدث كثيرون عن نشر محمد دينه مجد السيف، واتخذوا هذا دليلا على كذبه وأنه واحد من أولئك الطغاة المتجبرين الذين يريدون المجد والحياة ونشر مبادئهم بالقوة سواءا كانت صالحة أم ضارة، ولكنهم مخطئون كل الخطأ وشد ما يتعسفوا في هذا القول. فهم يقولون: (إنه لولا السيف والحرب لما انتشر دين محمد ولما وجد أنصارا) ولكن فاتهم أن قوة هذا الدين التي أوجد السيف، هذا الدين الذي نشأ في رأس واحد فقط وهو محمد، الذي وقف ضد العالم أجمع، فإذا تناول هذا الإنسان سيفه وقام في وجه الدنيا ليسمع صوته القوي وحجته الدامغة ودعوته الصادقة، نعتناه بالكذب ووصفناه بالطغيان والجبروت وانتقصنا منه ومن دعوته، إنه وربكم أن المنكبون ما أنتصر هذا الدين إلا أنه الحق، فقلما يضيع إنسان يدعو دعوة الحق والصدق، إذ أن الحق ينشر نفسه بأنه طريق مهما كان نوعها.

لقد كانت النصرانية لا تتوانى في استخدام السيف في كثير من الأحيان، وحسب هؤلاء ما فعله شرلمان بقبائل السكسون، فلا ضير على الحق أن ينتشر سواء كان باللسان أم بالسيف أم بأي نوع من الأنواع، لأن الحقائق يجب أن تنتشر ويظلل سلطانها كل مكان سواء كان ذلك بالخطابة والكتابة أم بالحديد أو النار.

لندع الحق يكافح ويجاهد بالأظافر والأيدي والأرجل، وسنرى بعد ذلك أنه سيخرج من المعركة منتصرا مهما كانت شدتها ومها طال مداها. وأنه سيفنى كل ما هو أحط وأدنأ، إن الحرب بين الحق والباطل حرب لا حكم فيها إلا للطبيعة، ونعم الحكم ما أعدله وما أقسطه. ونحن لا نخشى على الحق الانهزام لأنه أعمق جذورا وأكثر أعراقا في الطبيعة، أو التهريج والجلبة والضوضاء فلا حياة لها ولا مقام أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

لقد قلت إن الحكم بين الحق والباطل للطبيعة وما أقسط وأعدل هذا الحكم بل ما أرأف وأرحم. ألستم ترون إننا نأخذ الحبوب فنجعلها في جوف الأرض وكثيرا ما تكون هذه الحبوب مختطة بالتبن والقمامة والتراب وغير ذلك من الأقذار، إننا نلقى الحبوب بجميع ما يخالطها من القذى والأوشاب في بطن الأرض العادلة الرحيمة، فلا تلبث أن تخرج لنا نباتا نقيا خالصا، أما القذى والأوشاب فإنها تفنيه في باطنها وتطوى كشحا عنه ولا تذكر عنه شيئا. وهذا هو عمل الطبيعة في جميع أحوالها وشئونها فهي حق لا باطل فيه، وهي عادلة رحيمة حنون عظيمة، وهي مع ذلك لا تتطلب من الشيء إلا أن تكون حر المعدن صادق اللباب، وهى كفيلة بحمايته وحراسته.

أما إذا كان دخيلا عليها رديء المعدن فإنها تلفظه وتلقي به إلى الأنواء والأعاصير فلا تلبث أن يندثر ويذهب هباء.

إننا نرى لكل شيء تحتضنه الطبيعة وتحميه روحا من الحق والصدق، فإن شأن الطبيعة مع كل حقيقة كبرى جاءت إلى هذا العالم أو يقدر لها المجيء إليه، شأنها شأن الأرض مع بذور الحبوب، فالحقائق خليط نور وظلام وحق وباطل وصدق وكذب، وهي تأتينا في صور قضايا منطقية ونظريات عملية، ثم لا تلبث أن تختفي وتتغلب النور على الظلام ويظهر الحق على الباطل، فتموت الحقيقة ويفنى جسمها لأنها كائن، ولكن روحها يبقى أبد الدهر، ويتخذ ثوبا أنقى وبدنا أطهر، ولا يزال يتنقل من جيد إلى أجود ومن حسن إلى أحسن، سنة الطبيعة التي لا تتبدل، ولن تجد لسنة الطبيعة تبديلا.

إن جوهر الحقيقة وروحها لا يدركه الفناء ولا يعدو عليه الزمن، ولكن الشيء العام والأمر الوحيد هو هل روح الحقيقة وجوهرها حق وصوت من أعماق الطبيعة؟

إن ما نسميه بنقاء الشيء أو عدم نقائه، ليس بذي أهمية عند الطبيعة، إنما الأمر المهم عندها، هو هل هذا الشيء فيه جوهر حق وروح صدق أم لا.

فإذا تقدمت أنت مثلا أيها الإنسان إلى الطبيعة لتصدر حكمها فيك فإنها لا تسألك أفك أكدار وشوائب أم فيك صفاء ونقاء، وإنما تسألك أفيك روح وجوهر، أفيك حق وصدق؟

فإن كان فيك حق وروح، فإنها تصدر الحكم لك، وأعلم أنك خالد أبد الدهر باق رغم تقلب الأعاصير والأنواء.

إن كثيرين من الناس يقولون لك إنك نقي نظيف، وربما تقول لك الطبيعة، نعم إنك نقي ولكنك قشر، وباطل وكذب وزور وجسم بلا جوهر ولا روح، وإنك مجرد اصطلاح وليس بينك وبين الحق صلة ولا سبب وإنها منك براء. وعند ذلك فقد كتبت عليك الفناء مهما امتد بك الزمن، لأن الطبيعة تقول إن البقاء للجوهر والروح.

(أسيوط)

عبد الحافظ عبد الموجود