مجلة الرسالة/العدد 967/الشعب المقلم

مجلة الرسالة/العدد 967/الشعب المقلم

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 01 - 1952



للأستاذ أحمد قاسم أحمد

لا أعتقد أن هناك شعبا وهب الحيوية الدافقة، والاستعداد الشره للتطور والرقي، والعقلية الساعية للتجديد والابتكار، ومسايرة ركب الحضارة والتمدن، مثل ما وهب ذلك المكروب. . . شعب مصر. . .!

ولا أعتقد إن هناك ظلما وقع على هذه القوى الحية الدافقة عند أي شعب من شعوب الأرض، مثل الظلم الذي وعق عليها عند هذه الشعب المنكوب. . . شعب مصر. . .!

ذهب قصار النظر في ميادين الاجتماع ودراسة نفسيات الشعوب، إلى اتهامه بما يشين ولا يشرف. قالوا إنه شعب ألف الخنوع والمذلة، واستنام إلى الضعة والمهانة، وآثر حلاوة اللقمة مع لاذعات السوط، على مرارة الكفاح مع عقبى الحرية. . . وهذه هي الفردية التي ظنها الاستعمار حقيقة، فراح يستهين به أي استهانة، ويلهو بإفراده أي لهو.

فهم القطيع العامل إن احتاج إلى العاملين. . .

وهم الطعام السائغ لرصاص أعدائه إن اشتدت به الكربة في الميادين، وهم الملهاة السائغة إن رغب في التفريج عن جنوده المكدودين. ومن هنا قال قائلهم: إن ثورة المصريين جذوة تطفئها بصقه. . .؟ ولكن الحقيقة الهائلة كانت تكمن وراء ذلك. كانت تستقر في أعماق كل فرد من أبناء هذا الشعب. . . كان الشعور بالحرية والسيادة ليس عنصرا دخيلا على نفسه، بل كان تراثا معجونا فيما ورثه عن أبنائه وأسلافه، وعن طريقه نهض يدفع ويدافع، ويبذل ويضحي في كل ثورة ثارها، حمل لواءها وأوقد نارها، واستدارت عينا الدخيل دهشة وعجبا، وتراءت له الحقيقة سافرة، تصرخ في وجهه في قوة وجبروت، أو تهزأ من ظنه في سخرية واحتقار. . . وبانت له الهوة العميقة التي عاش في قرارها ردحا من الزمن، يألف أن يحس الخماد، ولا ينفى أن يشتعل الرماد، ولكن لا يسمح لظنه وخياله أن يسبغا على الحملان الوديعة يوما صفة الثورة للكرامة، والعزيمة للسيادة.

وذهب يتحسس طريقه بعيون غاشية، وأبصار غائمة ونفوس هلعة، فأقبل بالحيلة والمكر، يقدم الاستقلال في طبق المعاهدة، فيحيله من غذاء نافع إلى سم ناقع، ومن حقيقة زاهية إلى أكذوبة واهية، ينخدع لها السذج الأغرار. . . وجازت الحيلة على الزعماء فأقبلوا على الوجبة المسمومة بشهية مفتوحة. . . وطفق الإنجليز يستعدون لملاقاة الشعب من جديد.

أشرفوا على الجيش فنكبوه وأماتوه. . . وساعدهم المتزعمون بالرضا والتشجيع، فتركوا قوانينهم الرزق توثق الشعب باليمين والشمال: فالإعفاء من الجندية للدافع والحافظ. . .

وحمل السلاح محظور. . . والاجتماعات لها عندهم نصوص وعقوبات. . .! وهكذا التفت الشعب فوجد أن يبذل من دم وعرق، عاد عليه قيد يغل، وسيفا يرهب، وتشريعا يجور. . .!

وهكذا نشأ الجيل الحاضر: جيلا لا يعرف كيف يمسك سكينا، ولا يصوب بندقية ولا يرمي قنبلة. . .

نشأ جيلا له الأصابع وليست له الأظافر، له الفم وليس له الناب، له القوة ولكن لها ما يحطمها، لها الحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين. تخدر الأعصاب فلا تحس بر واعد النذر تدوي كل يوم حول آذان لا تسمع، وتبرق كل آن أمام نواظر لا ترى. . . ورضى - هذا الجيل - لنفسه أن تسمح لغيرها - في الحرب الثانية - بالدفاع عن أرضه. . . ناسيا أنها سبة لا تغسلها إلا هبة، وعار لا تمحوه إلا نار. . .!

واستنام الإنجليز للمرة الثانية؛ فقد استطاعوا أن يمدوا أيديهم إلى مواطن القوة في الشعب فخنقوها، وإلى الغدة التي تنزو بالعزة والإباء في النفوس فجففوها. . . وباتوا وأصبحوا. . . فإذا قطيع يضرب فلا ثغاء، ويحلب فلا استعصاء، ويستحث فلا إبطاء. . . ورقصت الفرحة في عيونهم رقصة النصر. . .!

ولكن الجفاف الذي أصاب الغدة كان طارئا فزال، ومؤقتا فانقشع، وعادت تنزو من جديد. . .! وعربدت في الصدور نوازع الشمم، عنيفة كأقسى ما يكون العنف، قوية كأعنف ما تكون القوة، وآثر - القطيع - هذه المرة أن يكون حذرا واعيا، وأن يجتث الشر من أصوله، لقد رأى المعاهدة تفرض على كل يد قيدا، وعلى كل عين غطاء، وعلى كل كتف نيرا، فألغاها. ورأى الاحتلال يسميه خسفا، ويقتله جوعا، ويرفع على ظهره سوطا، وأيقن أنه لا يدافع بيد عارية، وأفواه خاوية، فهب يدفع كل هذا عنه، ثم بدأ وفي كفه المخلب، وفي فمه الناب، وفي قلبه العزم. بدأ وفي يده المدفع، وفي جيبه القنبلة، وفي منطقته الرصاص، وتحت إبطه اللغم. . .

وزحف إلى هناك. . إلى القنال. . . وفي هدوء وسكينة، راح يشعل اللغم تلو اللغم، ويستقبل الفزعين من أعدائه بالمدفع ويطارد فلولهم بالقنبلة. . .! يقتحم الشوك ويجتاز الترع، ويلاقيه وجهها لوجه، قوة لقوة، وسلاح لسلاح، وعنده فوق ذلك الإيمان بالحق. . . والإيمان بالنصر. . .

وعندهم دون ذلك الإحساس بالتطفل، والشعور بالحرج والحجة التي سقطت من بين أيديهم، والفزع الذي وقع في قلوبهم. . .!

لم يكن ما يأتيه هذا الشعب اليوم العجب أو ضريبة، قدر ما كان استجابة صادقة لتلك النوازع الأصيلة الموروثة في أعماقه. . . ألا فليشهد العالم وليسمع إن رغب عن أن يشهد، وليعلم إن رغب عن كلا الأمرين، أن كل مصري يقول اليوم: أنا مصر. . . ومصر أنا. . . لا ذله ولا هوان، ومرحبا بالقوة التي تحاول إرغامي على إنكار هذه الحقيقة. . . مرحبا بها. . . فالمدفع في يدي. . . والقنبلة في جيبي. . . والذخيرة في جعبتي، واللغم تحت إبطي. . . والله معي. . . أنا. . .!

أحمد قاسم أحمد.