مجلة الرسالة/العدد 967/الضمير البريطاني

مجلة الرسالة/العدد 967/الضمير البريطاني

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 01 - 1952



للأستاذ قدري حافظ طوقان

أعلنت مصر في 8 تشرين الأول سنة 1951 إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتي 1899 على لسان رئيس وزرائها في بيانه الحاسم الجامع في مجلس النواب المصري. ولقد أستقبل الناس هذا النبأ بالدهشة والوجوم في إنكلترا. وبالسرور والتقدير في الأقطار الشرقية وبعض الأقطار الأوربية والأمريكية المحبة للسلام والديمقراطية، ففي هذا الإلغاء معنى رائع من معاني الوعي واليقظة، كما إن لهذا الإلغاء نتائج خطيرة ذات أثربعيد في حياة الشعوب التي لا تزال تقاسي من المستعمرين والاستعمار ألونا من الضغط والإرهاق وأنواعا من الظلم والعذاب. في هذا الإلغاء دليل قاطع على رغبة الشعوب الشرقية في التحرر والانطلاق وعلى إنها لم تعد تصبر على الأساليب التي كانت تسير عليها دول الاستعمار في القرن التاسع عشر من ادعاء مسؤولية المحافظة على الأمن والنظام في البلاد المتأخرة ومن انتحال التبعات في تمدن الرق وترقيته، وعلى أساس هذه التعليلات كان المستعمرون (وفي مقدمتهم بريطانيا) يقاومون الحقوق الوطنية والنهضات القومية.

لقد أقدمت مصر على الإلغاء والتخلص من قيود الاستعمار بعد أن صبرت طويلا، وبعد أن قامت بمداولات واتصالات متعددة ومفاوضات متكررة، ولكن الجانب البريطاني - وقد سار بعقلية القرن التاسع عشر - أبى أن يخضع للحق الصراح والحجج الدامغة؛ كما أبى أن يدرك حق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة حق مقدس قامت على أساسه مبادئ هيئت الأمم المتحدة، أقول: لقد أبى الجانب البريطاني أن يخضع وأبى أن يدرك أن الشعوب في القرن العشرين لا تحكم بعقلية القرن التاسع عشر، ولا بالأساليب الرجعية، فكان هذا التمرد على الاستعمار وقيوده في الهند وإيران والملايو ومصر، وكانت هذه الثورات على الظلم والطغيان.

لقد استهترت بريطانيا بحقوق الشعوب واستهانت بكرامتهم ولم تقيد نفسها بما توجبه عليها المعاهدات من التزامات وواجبات بل راحت تسير في معاملة مصر على أساس الاستغلال والاستعباد والاستخفاف بالعقول والحقوق.

وقد يسأل أحد الناس: ألم يدرك العب البريطاني - وقد بلغ شأوا بعيدا في التقدم الماد والثقافي - أن الأساليب الاستعمارية لم يعد يحتملها أو يصبر عليها أحد؟ وما هو التعليل لعدم يقظة الضمير البريطاني ولوقفة جامدا أمام الأساليب التحكمية والاستعمارية التي سارت عليها الحكومات الإنكليزية؟ وهل ما يجري في المستعمرات وفي البلاد التي ابتليت بالانتداب يتماشى مع روح العصر وتقدم الأفكار ويقظة الضمائر؟

إن الشعب الذي يستسيغ مأساة فلسطين وأقامت دولة إسرائيل بعد أن مهدت حكومته لتشريد مليون عربي وسلب أموالهم وحقهم في الحياة في بلادهم، ويستسيغ المظالم التي صبها الاستعمار البريطاني في الهند وإيران والتي لا يزال يصبها في بلاد العرب والملايو - أقول إن الشعب الذي يستسيغ كل ذلك، ولا يوقف الأساليب الباغية التي تلجأ إليها حكوماته لهو شعب ناقص التربية جامد الضمير.

ذلك لأن التربية التي لا تنمي في الشعب روح العدل الشامل وروح الخير العام وروح النفور من الظلم والاعتداء لهي تربية ناقصة قد طغت عليها المادية والنفعية فأعمت (الشعب) عن الحق والحقائق فضاق أفقه وأصبح لا ينظر إلى القضايا والمشاكل إلا من زاوية مصالحه الخاصة.

ومن يدرس مذهب بعض الفلاسفة الإنكليز يتبين له السر في جمود الضمير البريطاني؛ فمذاهب الفلاسفة الأخلاقية توضح لنا المثل الأعلى كان لهذا الشعب أو ذاك، ويمكن اتخاذها مقياسا لتقدم الضمير الإنساني لقد برز في إنكلترا في القرن التاسع عشر الفيلسوف (جون ستيوارت مل) وهو صاحب مذهب خاص في الأخلاق يطلق عليه مهذب النفعية (بوتيليتريا نزم) ويقوم هذا المذهب (أو هذه النظرية الأخلاقية) على اعتبار المنفعة أساسا للأخلاق. وقد أتى (مل) في شرح ذلك على بيان تحليل غريزة حب المنفعة وإرجاع الفضائل إليها مستعينا في هذا بعلم النفس والاجتماع. وليس المجال الآن مجال تفصيل هذا البيان، ولكن يمكن القول أن مذهب (مل) في النفعية لم ينتهي إلى الغاية التي أرادها له بعض الفلاسفة، بل جنى على الأخلاق ونزل بها عن مستواها العالي بجعله (المنفعة) أساس كل عمل وإرجاعه الأعمال الأخلاقية إلى بعض الغرائز والقوى النفسية. وعلى هذا تسير الأخلاق على ضوء الغرائز والميول بدلا من أن تضبط الأخلاق وما في الإنسان من غرائز جامحة وميول عنيفة.

لقد تأثر الإنكليز بهذا المذهب فساروا في أخلاقهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم على أساس (النفعية) وسايروا ميولهم وغرائزهم وكيفوا أخلاقهم عليها، فكان هذا الطابع الذي تميز به الإنكليز على سواهم وهو (مصلحة بريطانيا فوق كل المصالح) حتى ولو كان في ذلك الأضرار بالناس والاستهتار بحقوق الشعوب والاستهانة بالمكرمات.

ولهذا لم يعد مجال للدهشة أو العجب من الخلق الإنكليزي ومن تسييره في الطرق المؤدية إلى المصلحة الذاتية أو الخاصة، ولا من عدم تقدم الضمير البريطاني على الرغم من التقدم الكبير الذي أصابه الإنكليز في سائر ميادين الحياة. فسياسة الإنكليز الخارجية واتجاهاتهم الخلقية تتحرك كلها في دائرة النفعية والاستغلال. وهم ينظرون إلى حقوق الشعوب الأخرى ومصالحها وإلى الإنسانية من زوايا مصالحهم ومنافعهم. وقد نجحت هذه السياسة وهذا السلوك بعض الوقت في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ولكن بعد أن تقدم العلم هذا التقدم العجيب وبعد أن استيقظت الشعوب فهبت من غفلتها أصبح من المستحيل على بريطانيا أن تنجح في أساليبها وخططها الاستغلالية.

وهذا ما يجب أن يدركه الإنكليز حكومة وشعبا.

ويقولون أن العقلية البريطانية تمتاز (بالمرونة)، ولكنها (كما يبدو لي) مرونة بطيئة جامدة لا تساير روح العصر ولا تتحرك في إطار التقدمية. وعلى ذلك فقد فشلت السياسة البريطانية في الشرق في هذه الأيام، فتتابعت عليها النكسات مما يهدد مصالحها ويؤدي إلى القضاء على نفوذها وهيبتها.

قدري حافظ طوقان