مجلة الرسالة/العدد 971/اللغة الإنجليزية في مصر
مجلة الرسالة/العدد 971/اللغة الإنجليزية في مصر
للأستاذ محمد محمود زيتون
اللغة الإنجليزية في مصر - أو على حد تعبير وزارة المعارف - (اللغة الأوروبية الأولى) - قد أصبحت غير ذات موضوع لأنها استنفدت جميع أغراضها، وفقدت صلاحياتها، فلا مناص من إلغائها، لأنها أول معقل للاستعمار في بلادنا سبق إلى الانهيار.
وإذا كانت الظروف اليوم قد أتاحت لقادة الرأي في مصر أن تعمل جاهدة على المطالبة بإلغاء وتحرير العقلية المصرية منها على أثر إلغاء معاهدة الذل والاحتلال، واتفاقيتي القهر والاستعمار، فإن لصاحب هذا القلم شرف السبق إلى الكتابة في هذا الموضوع في وقت كان الجهر فيه بهذا يعد ضربا من المجازفة.
وكان ذلك في 3يوليو سنة 1948 يوم كانت جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية ترفع لواء الحرية، في هذا المعترك الصاخب من الأفكار، قلت يومئذ بالحرف الواحد:
(إن هذه اللغة قد دخلت مصر وستخرج منها وكأن لم تكن، لأنها لم تهدف إلى التثقيف وتبادل روائع الأفكار وبدائع العرفان وإنما كان هدفها الحقيقي هو إشاعة الذعر والخوف والفزع والهلع والذل والانكسار إلى غير ذلك من مترادفات (تحطيم الأعصاب) في بلد لا يزال بخير وعافية كمصر.
ونظرا لما حق لدينا من دراسة العلوم الاجتماعية ومن بينها (علم اللغة) وما لكل من تطورات وانحرافات ولهجات تبنت قوانينها الصارمة، فإننا بالقياس إلى هذه القوانين نرى أن اللغة الإنجليزية قد أريد بها أن تشذ شذوذ أهلها عن قوانين اللغة فلبست مسوح العلماء وقفافيز الساسة، (إمعانا في إحكام القيود والأغلال على الشعوب المستضعفة جميعا وفي آن واحد، وتسويدا للهمجية في بعضها على المدنية في البعض الآخر، فقد ظلت هذه اللغة تدرس في مصر أكثر من نصف قرن منذ بدء الاحتلال وكانت لغة التدريس في جميع المواد ما عدا اللغة العربية وما يتصل بها)
ولقد فطنت الجمعية العمومية إلى أساليب الاستعمار الإنجليزي منذ فجر الحركة القومية، فطالبت الحكومة في مارس سنة 1907 بجعل التعليم في المدارس بالعربية، وعلى ذلك الرأي اجتمعت الأمة الناهضة؛ ولكن مما يؤسف له أن قام أحد أذناب الاستعمار فق قال:
(إن الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الأجنبية لمحض رغبتها أو اتباعا لشهوتها، ولكنها فعلت ذلك مراعاة لمصلحة الأمة. .)
واستطرد يقول - وهو سامحه الله ممن وكل إليه زعامة هذه الأمة - (وإذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية وشرعنا فيه فعلا فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا وإلى أنفسنا إساءة كبرى لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوسطة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة)
على أن الأمة الممثلة يومئذ في الجمعية العمومية قد خذلت هذا الاعتراض بإجماع رائع هز أركان التاريخ وتبوأ مكانة من الحركة القومية.
وعلى الرغم من هذا فإن هذه اللغة الاستعمارية قد مضت في طريقها في غفلة من سدنة القومية فاعتبروها (اللغة الأجنبية الأساسية) حتى كانت سنة 1935 حيث ابتدع (ميخائيل وست) طريقته الأمريكية اليهودية التي بها وحد النطق على أسس خاصة. وذلك لتتحقق المساواة في الاستعمار والاستذلال والاستغلال ولتكون العدالة شاملة في الظلم عملا بالقاعدة المشهورة (إذا عم الظلم كان عدلا)
وما لبث الإنجليز - بفضل هذه البدعة الأمريكية - أن قذفوا بملايين الكتب المدرسية الإنجليزية إلى مصر والسودان وفلسطين والحبشة وجنوب أفريقية وأوغندة وكينيا وأستراليا والهند، وبذلك ألغيت كل الحواجز الجمركية أمام هذه البضاعة الإنجليزية الموحدة في هذه الأقطار، فإذا نحن منذ ذلك التاريخ أمام تيار جارف من خرافات وأساطير وخزعبلات فرضوا علينا أن نحشرها حشرا في أدمغة الناشئين الأبرياء.
يسأل التلميذ أستاذه: هل من المعقول أن (جاك) إذا قتل الدب وأخذ قلبه ورمى به في النار تخرج حبيبته منها!. . وهل صحيح أن (كاليبان) و (أريل) عفريتان من عفاريت (الجزيرة المسحورة) كما جاء في رواية (العاصفة) التي دبجتها براعة (شكسبير)؟. .
يا بني. . هذا كلام إنجليز؛ وليس عليك إلا أن تتعلم اللغة ودعك من خرافاتهم. وهنا يريد المدرس الفيلسوف أن يشرح لتلميذ السنة الأولى (فلسفة التناسخ والحلول) الشائعة في عقائد البرهمانيين والبوذيين. ولكن كيف يستطيع مدرس أن يشرح هذا اللغز الغامض لذلك الناشئ البريء!. . وهنا يغضي كلاهما على حسرة ملحة، وألم صارخ، والأمر بينهما لله وحده.
وهكذا أراد الإنجليز أن يغلفوا قلوبنا بطبقة من القطران الأسود المصنوع من خرافات الهمجية الأولى، وبذلك تموت الروح الدينية. وعقيدة التوحيد في جوانح أبناء الأمة فيشب الواحد منهم كافرا بالله والرسل والأنبياء والملائكة واليوم الآخر، كافرا بالمروءات والمثل العليا ومكارم الأخلاق متأثرا بدروس الكفر البواح التي يتلقاها في مدارس الدولة.
وليت هذا الناشئ المسكين يتعلم هذا الكفر في كتاب واحد أو اثنين، ولكن الدولة القيمة على العقل والروح والبدن تأبى إلا أن تغمر تلميذ السنة الأولى الابتدائية بفيض من الكتب الإنجليزية بعضها رئيسي والبعض الآخر إضافي.
وأذكر أن الوزارة كانت توزع على تلاميذ السنة الثانية سبعة كتب إنجليزية منها ثلاثة للعمل بها في المدرسة، والباقي للاطلاع الخارجي بالمنزل، ويعلم الله أن هذا الاطلاع المزعوم ما كان له من وجود إلا في خيال (ميخائيل وست) ومن يدورون في فلكه من صنائع الاستعمار الثقافي.
والنتيجة الطبيعية أن التلميذ لم يفتح كتب (العفاريت) إلى آخر العام حتى إذا بدأت العطلة صفى حسابه مع هذه الكتب وباعها مقابل عدة أقراص من النعناع والحلوى. وأما الدولة فهي التي دفعت لتجار الكفر وسماسرة الاستعمار دماء الفلاحين ثمنا لبضاعة كلها غش وزيف.
وأساليب الاستعمار - على العهد - بها أعقد من حيل الثعالب وأضيق من شراك الصيد على فريستها، فهي تصيد العقول والقلوب؛ وتمتص الدماء وتستنزف الأموال، وتقتل الأرواح وتشل النشاط وتخدر الأعصاب، وتستأصل الحمية من الأنوف إلى غير ذلك من ضروب النصب والاحتيال.
وليس أدل على ذلك من طريقة الامتحانات المتبعة في مراحل التعليم: ففي المرحلة الابتدائية يسهل على التلميذ اجتياز الامتحان لأن طرق وضع الأسئلة مرسومة محدودة، ويكفي أن يحفظ التلميذ مفرداته المقررة عليه، وأن يعرف كلمات الاستفهام وقواعد الزمن ليكون من الناجحين.
وهذا التسهيل المفتعل ليس إلا خطة موضوعة تتبعها في المرحلة الثانوية أسلاك شائكة وألغام فاتكة: ففي بدئها يرغم التلميذ على كتابة موضوعات إنشائية - ولم يتعلم قبلا تكوين جملة - ويرغم أيضاً على الإجابة على أسئلة الأجرومية المعقدة - وكان محظورا عليه أن يعلم شيئا مطلقا من المصطلحات. فهو يتجرعها في مدى أشهر معدودات وتكثر ضحايا الامتحان في بداية هذه المعركة، وتعود أساليب الاستعمار إلى قواعدها سالمة حسب الخطة المرسومة.
وإذا جاز هذه المرحلة والتحق بالجامعة، فإن صدمة عنيفة تجبهه عندما يحاول متابعة أستاذه في شرحه بهذه اللغة فيسقط في يده ولا يجد ما يستعين به على الدراسة التي تخصص لها إلا بعد مشقة وعناء.
مراحل كلها صخور وأشواك ملقاة في الطريق وعلى الجانبين لتوهم الناشئ بالضعف والغباء، وتقذف في نفسه الرعب والذل والانكسار فتتحطم أعصابه، ويتبلد ذهنه.
وتعمد الوزارة كل سنة إلى تغيير الكتب الإنجليزية التي تدرس فيها طلبة الثقافة والتوجيهية. فما الحكمة من ذلك؟ اللهم أنه ابتزاز أموال الدولة سنويا باسم العلم. وإلا فأي ضرر عقلي أو تربوي إذا استمر تدريس كتاب واحد بعينه لعدة سنوات؟ وهل كتب المطالعة العربية المقررة أساءت إلى عقلية التلميذ لمجرد استمرار تدريسها لسنوات عديدة؟
أراد المستعمرون أن يؤخروا مصر إلى عصر ما قبل التاريخ حيث الهمجية الروحية والفكرية، وهذا هو الوضع الذي جاز على مصر ولم تتنبه إلى خطورته، ولولا بقية من إيمان، وشعاع من عقل (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)
وفي إبان الحرب الماضية كان الأساتذة الإنجليز أنفسهم رسل دعاية للاستعمار في مصر، فهذا مستر سكيف رئيس قسم الأدب الإنجليزي يبشر تلامذته من طلبة الآداب بأحسن وأروع ما كتب في هذا الأدب قديمه وحديثه، ذلك هو (خطاب من طيار لأمه) وقد تطوع بترجمته إلى العربية سعادة هيكل باشا ونشره الاتحاد الإنجليزي المصري.
وكان مقررا على طلبة التوجيهية منذ سنوات مقالات عن (مشروع بيفردج) و (التأمين الاجتماعي) و (الخدمات العامة) ولم يتكلف أحد من قادة الفكر وسادة الرأي عناء الاطلاع على ما يدرس للشباب وتبيان مدى ما ترمي إليه هذه الأفكار الوافدة، ولم يعن أحدهم يوما بنقد ما يراد منه فتنتنا عما لدينا من تراث اجتماعي نستطيع به أن نجابه هذه الأفكار السطحية وندفعها بالحق. وهل الزكاة التي افترضها الإسلام عاجزة - إذا أحسن أداؤها - عن تعديل الأوضاع الاقتصادية وكفالة الأمن والسلام.
وليس غلوا منا إذ نقول إن اللغة الإنجليزية وآدابها لا تصلح لأن تكون عاملا من عوامل التثقيف أو التهذيب في مصر لأنها تقوم على مبادئ هدامة نذكر منها: فرق تسد - تمسكنت فتمكنت - المصلحة أولا - اعمل بما أقول لا كما أفعل - حتى أنت يا بروتس. -
كل ذلك وما إليه إنما ينطوي على الدس والخبث والنفاق والمادية والأنانية واللولبية الأفعوانية، وقد سبق لي أن قلت في مقال (عصابة روتشيلد) بأن الإنجليز هم الورثة الذين تبنوا اليهودية التي فككت أوصال أوربا في القرن الثامن عشر كما سبق أن قلت إن هذه اليهودية تتمثل في النزعة المادية وهي خاصية من خصائص لغة الإنجليز كما وضحنا ذلك في مقالنا عن (اللغة والفكر) حيث يقول الإنجليز: أي ادفع انتباها ويقولون: أي ادفع زيارة، كأن الانتباه والزيارة نقود تدفع.
ولو قدر لهذه اللغة البقاء في بلادنا أكثر من ذلك بهذا الوضع وبتلك المكانة فإنها تسيء إلى نفسها أكثر مما تحسن إليها، لأنها لغة أشاعت الذعر في النفوس، سدت مسالك التفكير، وضيقت من آفاق العقيدة، وزعزعت من أركان الآداب السامية والأخلاق الفاضلة، واستعبدت المدرسين حتى صاروا كالآلات الصماء حتى لقد استعاضت عنهم بالفوتوغراف.
وليس أمامنا الآن إلا خطوة عملية واحدة لرد اعتبارنا وحفظ كرامتنا كأمة ذات سيادة، وهذه الخطوة هي ألا نجعل لهذه اللغة في بلادنا أكثر من الوضع الذي صارت إليه بلادها، فقد أصبحت إنجلترا أفقر الدول بعد أن كانت أغناها، وأصبحت ذيلا بعد رأس، وصار لها في بلادنا (سفير) بعد أن كان لها (مندوب سام) وأصبحت في نظر العالم كله وباء، وبلاء، فلا أقل من أن تكون لغتها في بلادنا كذلك شر بلاء وأخبث وباء.
ومن العار أن يكون عدد حصص هذه اللغة أكثر من عدد حصص اللغة القومية. ومن العار أيضاً أن نطالب بجلاء الجيوش الاستعمارية بينما أكبر أصنام الاستعمار في مصر لا يزال حيا يعبد. ومن العار أن يتعطش شبابنا إلى معرفة مواطن البطولة في تاريخنا المجيد، فلا يجدون ما يرى غليلهم بينما نجرعهم غصص لغة لا يستسيغون لها طعما ولا لونا ولا رائحة.
ومن موجبات حمد الله وشكره أن هذه اللغة لم تتمكن من جوهر حياتنا ولم تنجح في أن تكون لغة تخاطب ولا لغة كتابة. .)
هذا ما قلناه بالحرف الواحد منذ شرعنا هذا القلم لهدم هذا الصنم الغليظ، ولعل الحكومة المجاهدة تستطيع اليوم أن ترفع معولها وتهوى به دفعة واحدة للقضاء على هذا الخبث بعد أن فتح الله علينا وهدانا إلى الصراط القويم بإلغائنا روابط الذل وحبائل الاحتلال. ولتكن بعد ذلك مادة اختيارية من بدئها إلى ختامها، فمن شاء دراستها فعليه أن يتخذ لنفسه الوسيلة، ومع ذلك فالدين النصيحة، فليعلم من لا يعلم أن هذه اللغة إنما هي لغة الأنانية بكل ما في هذه الصفة من أوضار. ألا يرى معي القارئ كيف يجعلون ضمير أنا هو الضمير الوحيد الذي يكتبونه بحرف كبير؟ فما هو السر في هذا إن لم تكن الأنانية.
ونقولها صريحة لأبناء العراق الشقيق: إننا كما يقول أمير الشعراء (كلنا في الهم شرق) ولكننا كما نحصي على أنفسنا أخطاءنا، لا نضن عليهم بالنصح لوجه الله والعروبة، فليعملوا فورا على تخلص لهجتهم ولافتاتهم ومكتوباتهم من الألفاظ الإنجليزية الدخيلة واستبدال الألفاظ العربية بها مثل (السائق) و (الكوب) و (القنينة) ولا داعي مطلقا لأن نقول التي شاعت في العراق وتسيء إلى القومية العربية التي نعمل على تدعيمها وأنف المستعمرين في الرغام.
محمد محمود زيتون