مجلة الرسالة/العدد 973/الحسن البصري

مجلة الرسالة/العدد 973/الحسن البصري

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 02 - 1952



رئيس المدرسة الفلسفية الأولى في الإسلام

للأستاذ حسين علي الداقوقي

لم تمض على تأسيس مدينة البصرة حقبة طويلة من الزمن حتى تسنى لها مناهضة مدينة الأبلة القديمة والتغلب عليها من جميع النواحي المدينة حين نسى الكتاب ذكر ما في تلك المدينة من أحوال الحضارة ومعالم العمران. كما حدث على تلك الشاكلة تغلب الكوفة على تلك الحضارة طيسفون والسيطرة عليها.

غدت البصرة ثغر العراق المزدهر، وميناءه المتطور الزاخر بصناعتها وزراعتها ونشاط تجارتها. وبضروب فعالياتها الفكرية. فقد أنجبت المشاهير من مشاهير الفكر الإسلامي، وقامت فيها المدارس العلمية والأدبية التي ضمت إليها هؤلاء المشاهير. نشأت فيها مدرسة النحو يوجهها الخليل بن أحمد، وظهرت فيها ألوان من الأدب تمثلت في كتابات أبن المقفع والجاحظ. وفي بيئة البصرة تثقف أبن الهيثم، وبشر واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظام بمذهب الاعتزال. وألف إخوان الصفا جمعيتهم الفلسفية وفي هذه البيئة أيضاً وضع أسس الصوفية كبار أعلامها مثل رابعة العدوية والحسن البصري وغيرهما من نبغوا في مجالات الفكر. ليست لدينا - ويا للأسف - وثائق تاريخية وصفية جمعها أنصار الحسن البصري وطلابه لنبين منها تفاصيل سيرة الرجل، سوى نتف من ملاحظات، أو شتيت من المذكرات دونها عنه أعوانه أمثال قتادة وأبن عون ويونس وأيوب، ومنتثرات من المعلومات تلقاها في كتب المحدثين مثل أبن سعد، وفي مصنفات المؤرخين والمفسرين كابن قتيبة والطبري، وفي كتابات المتكلمين كأبي عمرو الجاحظ وفي كتب المترجمين كأبي نعيم وغيرهما من المصنفات.

نشأته

ولد أبو سعيد الحسن بن يسار البصري بالمدينة عام 521 وكان أبوه يسار في الأصل من سكان مدينة ميسان قرب البصرة. وقد سبي خلال عام 12هـ إبان حملة خالد على العراق فنقل مع من نقل من ميسان إلى المدينة حاضرة العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وغدا هناك مولي لزيد بن ثابت الصحابي وكانت أمة خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي (ص) نشا الحسن بوادي القرى وشب في كنف علي بن أبي طالب وعمر وتتلمذ على أنس بن مالك، ولقي سبعين من البدريين، كما أخذ عن حذيفة بن اليمان وعمر بن أبي حصين الخزاعي وعاصر عددا كبيرا من الصحابة فأرسل الحديث عن بعضهم وسمع من بعضهم، وكان قد أظهر ذكاء لامعا منذ صغره، فقد حفظ حفظ القرآن وهو دون سن الأربع عشرة سنة ثم كبر ولازم الجهاد ولازم العلم والعمل.

أستقر الحسن في الأبلة، فالبصرة حيث كان المركز الثقافي الإسلامي خلال العهد الأموي. وفي عام 35هـ شد إلى رجال المدينة، وعند ما عاد إلى البصرة في غضون سني 37 - 41 هـ تعقب المناقشات التي احتدمت بين أصحاب الرسول وأحتكم فيها. وأشترك في الجهاد فحارب في جبهة كابل، وبعد ما رجع من الجهاد عارض خلافة يزيد، وأجتلب نحوه الأنظار بما أوتي من حدة الذكاء وحسن البيان، ومهابة وجمال في خلقه وخلقه، فوقع من أنفسهم أسنى مقام وأجل موقع.

أشتغل الحسن موظفا عند الأمويين؛ فكتب للربيع بن زياد والى خرا سان في عهد معاوية. وتقلد منصب القضاء في البصرة مدة من الزمن إبان خلافة عمر الثاني، ثم استقال منها ولم يأخذ على قضائه أجرا. وأعتكف في أحد مساجد البصرة يقوم بالوعظ والإرشاد والتدريس والتوجيه، ويشارك غيره في كثير من الفعاليات الأخرى كما سوف نرى.

حياته السياسية:

يبدو للإنسان إن القدرية كانت أول مدرسة فلسفية في الإسلام، وإنها كانت قد اقترنت (أكثر مما انطبعت) بفلسفة سياسة ذلك العصر. بحيث إنها بدأت تعدو عن كونها فلسفة مجردة، مطلقة، غاية لنفسها، وأخذت تهدف إلى ارتياد العقل، وتحرير الفكر وإعطاءه قيمته الحقة، وبالتالي مقاومة السلطة الحكومية آنذاك. فحمل ذلك الأمويين على التنكيل بأنصارها والفتك بمروجيها، فذهب عدد غير يسير من نوابغ ذلك العصر ضحايا هذا الاضطهاد السياسي. أذكر منهم عمر المقصوص أستاذ الخليفة معاوية الثاني حين وثب عليه بنو أمية وقالوا: أنت أفسدته وعلمته، فطمروه ودفنوه حيا) كذلك انصبت نقمة الاضطهاد على نابغة آخر من معاشري الحسن البصري وهو معبد الجهني، على أنه جاهر بالقدر في مدينة البصرة، فأذاقه الحجاج الوالي الأموي من العذاب ثم قتله بطلب من عبد الملك بن مروان. وكان معبد من السابقين في القول بالقدر، يذكر عنه الذهبي بأنه كان قدريا وتابعيا صدوقا قتله الحجاج عندما أشترك في ثورة عبد الرحمن بن الأشعث. وقد كان كذلك غيلان الدمشقي قدريا وخطيبا مصقعا وصلب على باب دمشق.

وهناك نصوص تاريخية كثيرة تثبت قدرية الحسن. فيقول المقربزي: إن معبد الجهني وعطاء بن يسار سألا الحسن البصري (إن هؤلاء - يريدان الأمويين - يسفكون الدماء ويقولون إنما نجري أعمالنا على قدر الله) فقال الحسن (كذب أعداء الله) فإنهم الحسن بهذا ومثله لم يكن الحسن يحمل العقيدة مجردة عن العمل، ولم يأل جهدا في الدفاع عن مبدأه والإفصاح عن آراءه بشجاعة، وقد أمضى حياته يصارع مشاكل شتى دون أن يكترث لها مع أنه كان بمقدوره، أن ينال العز والجاه والرغد والرفاه. فالمتصفح لكتاب أبي نعيم (حلية الأولياء 2ج) يجد أنه قد ترتفع عن هبات الأمويين، وأبدى شجاعة منقطعة النظير في رد المظالم، تارة بتبيان وخامة العاقبة وطورا بالتنديد بالروادع الدينية، ولم يستهدف من ذلك غير الإصلاح الاجتماعي العام، فرفعه ذلك إلى موضع التقدير والإجلال لدى أغلبية الجماهير.

ذكر الشهرستاني وكثير غيره بأن الحسن إنهم بالقول في القدر، والحقيقة أنه كان كذلك، بل أنه كان رئيس القدرية، ورأس حرية الإدارة، والأكثر من ذلك أنه جهر بمخالفة استخلاف يزيد بن معاوية من دون أن يتخوف عاقبة الأمر، على حين أن الشعبي وأبن سيرين لم يجرموا على إبداء رأيهما بصراحة. وكان من أهم أسس عقيدته السياسية إتباع الأصول الإسلامية الأولى، ومعارضته الخلافة الأموية الوراثية، والاعتقاد بمبدأ الانتخاب للخلافة، بيد أنه لأسباب لم نتحقق منها تماما، رفض الاشتراك بثورة أبن الأشعث عام 81 - 82هـ، بالرغم من المظالم التي كان يقترفها الحجاج، وبالرغم من اشتراك زملائه بها كعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، ولعل ذلك كان بسبب اعتقاده الجازم بعدم نجاح الثورة، أو أنه ما كان يسوغ الحرب وسفك الدماء بين الإسلام مهما كانت أسبابها الموجبة، وذلك للصلة الوثيقة بين تصوفه وآراءه السياسية، إذ لم تكن أي حركة من حركاته أو فعالية من فعالياته من قبيل الصدفة والعرض. ومع العلم أنه كان ضد سياسة الحجاج إلا أنه لم يقم بأية حركة ثورية أو عصيان مسلح ضده؛ لأن الإسلام عند الحسن واحد ووحدة، وإن هذه الوحدة لتستند إلى وحدة الحق والإيمان، وإن كل حركة ينجم عنها التصدع في هذه الوحدة، وإن كان مبعثها الحق فهي ليست بأسلوب صحيح يركن إليه ويتوسل به.

والمعروف عن الحسن البصري أنه غدا بين86 - 95هـ موضع ريبة موظفي الحجاج الذين صاروا يتحرون دقائق أعماله ويترقبون تصرفاته؛ حتى أضطر إلى الاختفاء والتواري عن الأنظار. وفي عام 99هـ تقلد منصب القضاء في عهد عمر الثاني ثم استقال منه. وفي 101هـ أنتقد بلهجة لاذعة في إحدى مواعظه الشهيرة حركة أبن الملهب التي قامت ضد الأمويين غير أنه لم يسلم في سلوكه هذا من التهجم عليه خلال حيلته، فذكر عنه أنه كان يلقي الناس بما يهورع ويتصنع الرياسة. وروي عن تلميذه أبن أبي العرجاء أنه لما قيل له لم تركت صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ قال إن صاحبي كان مخلطا، كما يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر، وما أعله أعتقد مذهبا دام عليه ويقول عنه تلميذه أبوب السختيالي إن انفصال الحسن من القدرية كان خوفا من السلطة الحاكمة، وإن عدم اشتراكه مع ابن الأشعث في الثورة كان خوفا من أن تذهب عنه وظيفته الموجهة إليه. كذلك انتقده ابن سيرين لأنه يريد الكبيرة ولا يريد الخلود في النار أبدا.

هذا ولم يكن الحسن في عقيدته السياسية مكافحا من نوع صاحب الزنج في الثورة على النظام الاجتماعي، ولا مثل جان دارك في الدفاع عن استقلال الوطن، إنما كان أقرب مثيل إلى البابا بيوس التاسع في بعض جوانب تصرفاته، وبأبي العلاء المعري في جوانب أخرى. وكان في عصره من هذه الناحية نسيج وحدة. ويرجح أن كفاحه كان محددا بحدود صوفية معينة، وباعتبارات دينية واجتماعية أخرى تمسك بأهدابها، وجهد في السير على مقتضاها، وقد أوصى ابنه عبد الله أن يحرق كتبه ففعل ما أوصاه به والده، لذلك لم يرد لنا منه إلا النزر اليسير الذي ذكرناه فأشكل على الباحث تحقيق أمره، ولم يوف في التدقيق عن حقه، فنستميح القارئ الكريم عما يبدو من المقال من سطحية وضآلة مادة، فعسى أن نكون به حافزين. وداعين إلى دراسة طرف من أطراف التراث الإسلامي أو شخصية من شخصياته، لم تتكشف حقائقه مفصلة سافرة على ضوء المباحث القائمة على المنهج التاريخي العلمي الحديث.

للبحث صلة

حسين علي الداقوقي