مجلة الرسالة/العدد 973/بين شاكر وقطب:

مجلة الرسالة/العدد 973/بين شاكر وقطب:

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 02 - 1952



لا تسبوا أصحابي

للأستاذ محمد رجب البيومي

للأستاذ محمود محمد شاكر منزلة كبيرة لدي، فأنا أعهده كاتبا قوي الأسلوب، رصين العبارة، وأعرفه أبيا مخلصا يتدفق غيرة على الإسلام، وتعصبا لأفذاذه الأبطال، لذلك أقبل على قراءة ما يدبجه يراعه المؤمن في شوق واهتمام. وقد طالعت أخيرا ما كتبته مجلة (المسلمون - العدد الثالث ص 38 جمادي الأولى سنة1371) تحت عنوان لا تسبوا أصحابي، فوجدت المجال واسعا للخلاف بيني وبينه، ولم أشأ أن أطوي ما دار بخلدي عن القراء، فرأيت أن أناقش الكاتب الكبير فيما سطره راجيا أن يحق الله الحق بكلمته، فالحق وحده هدف الكرام الكاتبين، وفي طليعتهم الأستاذ الجليل.

ولعل من الأوفق أن أبدأ بتلخيص الفكرة التي يدور حولها مقال الأستاذ شاكر، فأعلن أن الكاتب الفاضل ينحي باللائمة على المجاهد الداعية الأستاذ سيد قطب - وإن لم يصرح باسمه - إذ تعرض في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) إلى أناس عدهم الأستاذ شاكر من أفاضل الصحابة، وقد خصهم صاحب الكتاب بما لا يليق في مذهب الأستاذ شاكر من النقد والتجريح، وهو بذلك يخالف ما اجتمع عليه الرأي السائد من تقديس أصحاب الرسول (إذ لا سبيل لأحد من أهل الأرض ماضيهم وحاضرهم أن يلحق أقل أصحاب محمد، مهما جهد في عبادته ومهما تورع في دينه، ومهما أخلص قلبه من خواطر السوء في سره وعلانيته، كما قال الأستاذ الجليل.

وقد بدأ الأستاذ شاكر مقاله بحديث الرسول (لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) واندفع في سياق منبري يسرد الأدلة الخطابية، ويستثير النوازع العاطفية، ويستشهد بقول الرسول (خير الناس قرني ثم الذين بلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، و يمينه شهادته) كما ذكر حديثا يدور حول هذا المعنى، محاولا أن يؤيد بذلك كله دعواه الخطيرة إلى تقديس أناس بعدوا عن الحق فيما سجله التاريخ عليهم من أعمال. ومما نحمد الله عليه أن الحق - في هذه الناحية - واضح أبلج لا يحتاج إلى برهان.

وقبل أن نعرض ما ذكره الأستاذ قطب في شأن معاوية وأصحابه، نذكر أن الأستاذ شاكر قد أثار هذه العاصفة وحجته الوحيدة، أن كل صحابي رأى الرسول وسمع عنه قد أكتسب مكانة تحرم على كل إنسان أن ينتقد أخطاءه أو أن يظهر أغلاطه، (فإذا أخطأ أحدهم فليس يحل لهم ولا لأحد ممن بعدهم أن يجعل الخطأ ذريعة إلى الطعن عليهم) كما ذكر الكاتب.

وحسماً للنزاع من أقرب طرقه، نبدأ بتحديد معنى الصحابي، وهو - في أبسط حدوده - يطلق على كل إنسان حصلت له رؤية الرسول أو مجالسته، فجميع من سعدوا بمشاهدته في حياته بعد الإسلام صحابة يشرفون بهذه الصفة المباركة، حتى عبد الله بن أبي رأس النفاق بالمدينة، فقد قال الرسول لمن هم بقتله: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)، فعبد الله من أصحاب محمد كما ينطق الحديث، فليت شعري أينطبق الحديث القائل لا تسبوا أصحابي على جميع من سعد بالصحبة، أم يخص من باعوا أرواحهم وأموالهم لله من المؤمنين الصادقين؟ لابد أن تكون الطائفة الأخيرة هي المقصودة دون أدنى تردد أو نزاع، فكل من تمسك بأخلاق الإسلام من أصحاب الرسول وشهد تاريخه بمروءته وصدقه فهو موضع التجلة والتبجيل، ولا يجوز لمسلم بدين الإسلام أن ينتقصه في شيء، وكل من حامت به الشبهات فوق تاريخه فهو موضع الملامة والنقد لأن الناس سواسية أمام الإسلام، ولا فضل لعربي على أعجمي بغير بتقواه، والإسلام لا يقدس غير البررة المخلصين.

ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا من الدين والجهاد بمنزلة واحدة، ففيهم من أسلم في فجر الدعوة منذ أعلنها الرسول وقطعت السنوات المتتابعة في الجهاد والجلاد، وفيهم من أسلم قبيل الفتح أو بعده والسيف مصلت على رأسه، وفيهم من بذل الكثير من الدم والمال وادخر القليل، وفيهم من تقاعس ولم يبذل شيئا من دمه وماله، ومن الظلم البين أن نرتفع بهؤلاء جميعا إلى منزلة واحدة، بل على التاريخ أن يهيئ لكل إنسان منزلته وفق ما أسلف من أعمال (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) 95 النساء.

وإذا كان الأستاذ شاكر يرى أنه لا يجوز لأحد من الناس أو من الصحابة أن يجعل الخطأ ذريعة إلى الطعن في المخطئين، فماذا يفعل في الصحابة إذ أحلوا لأنفسهم ما حرمه عليهم الآن، فخطأ بعضهم بعضا، وطعن فريق منهم على فريق آخر يناوئه، أفيكونون بذلك قد خالفوا الحديث النبوي كما فهمه الأستاذ شاكر. . . أم عرفوا أن الصحبة وحدها لا تعصم من النقد والملام؟

لقد اتضح بجلاء أن الحديث الذي عنون به الأستاذ مقاله لا يندرج على جميع من سعد بالصحبة، بل يختص الطائفة المناضلة التي لم تترك أخلاق القرآن في موقف، أو تنبذ روح النبوة في صنيع، وجميع من سار على النهج القويم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود موضع القدرة والاحتذاء من المسلمين، وحرام على كل مؤمن أن يحوم على أحد منهم بطعن أو تجريح، أما الذين تأخر بهم الركب عن اللحاق بالإسلام في مشرق شمسه، فيجب أن ننظر إلى صحف أعمالهم ومواقفهم في الحياة ثم نحكم عليها في ضوء القرآن والنبوة، وهذا ما فعله الأستاذ سيد قطب، فقد نظر إلى أعمال معاوية وطائفة من بني أمية نظرة إسلامية صادقة، فوجد خليفة المسلمين قد بعد عن روح الإسلام في أكثر أعماله، وساعده في هذا السبيل فريق باع آخرته بدنياه، فرأى أن يقول كلمة الحق في أناس تجاوزوا حدود الله في أعمالهم، والأستاذ قطب لم يرد بكتابته أن يكون مؤرخا راويا، فالرسالة التي يضطلع بها الآن أعظم من أن تنحصر في حدود التاريخ، ولكنه ينادي بالرجوع إلى أحكام القرآن، وهدى النبوة، وتعاليم الإسلام، وقد عرف أن الخلافة الإسلامية قد فقدت معناها الديني بعد مصرع علي، وجاء من الخلفاء من أحالها إلى ملك عضوض، تبعد عنه روح الإسلام في أكثر نواحيه، وقد ظن كثير من الناس أن هؤلاء الخلفاء الرسميين من لدن معاوية يمثلون الخلافة الدينية التي تتقيد بالقرآن وتهتدي بالسماء، ورأوا من جرائرهم الخلقية، وترفهم المقيت، ولهوهم الماجن ما يبغضهم في الخلافة والإسلام، فقام الأستاذ السيد قطب يدافع عن دينه ، و يبين أن الإسلام لا يعترف بخلافة بعد علي، وقد نطق بالحق المؤيد بالتاريخ حين أعلن أن معاوية أول خليفة تحلل من قيود الإسلام، أفنقول له بعد ذلك لقد تهجمت على أصحاب الرسول وخالفت هدى النبوة، أم يريد الأستاذ شاكر أن يفهم الناس أن معاوية وأشياعه يمثلون الإسلام بما ارتكبوه من رشوة وخداع وممالأة؟ لو أن الأمر كذلك لبعد الناس عن الإسلام، ولبرئ المسلمون من دين يبيح لخلفائه الخديعة والمكر والإرهاب وإقامة القصور واحتكار الأموال والضياع؟

ولقد كان الأحرى بالأستاذ شاكر أن ينقد ما ذكره الأستاذ قطب عن معاوية نقدا تاريخيا فيبين أن الوقائع التي ذكرها في كتابه الخالد غير صحيحة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك، إذ أن الأستاذ قطب قد نقل وقائعه عن كتب التاريخ ولم يخترعها من عنده اختراعا، وهي - رغم ثورة الأستاذ شاكر - معروفة لدى الكبير والصغير.

فمن ذا الذي ينكر أن معاوية حين صير الخلافة ملكا عضوضا في بني أمية لم يكن ذلك من وحي الإسلام إنما كان من وحي الجاهلية.

ومن الذي ينكر أن أمية بصفة عامة لم يعمر الإيمان قلوبها! وما كان الإسلام لها إلا رداء تلبسه وتخلعه حسب المصالح والملابسات!! وهذا باستثناء عمر بن عبد العزيز الذي أحاطه الأستاذ قطب في كتابه بسياج من المحبة والإجلال، وجعل عهده بقية من عهود الخلافة الراشدة، وإشاعة مضيئة تنير الطريق، وقد بسط الكلام عن هذا الخليفة العظيم في أربع صفحات طوال!!

ومن الذي ينكر أن يزيد بن معاوية قد فرضه أبوه على المسلمين مدفوعا إلى ذلك بدافع لا يعرفه الإسلام؟

ومن الذي ينكر أن معاوية قد أقصى العنصر الأخلاقي في صراعه مع علي ، وفي سيرته في الحكم بعد ذلك أقصاه كاملا لأول مرة في تاريخ الإسلام، وقد سار في سياسة المال سيرة غير عادلة، فجعله للرشوة واللهو وشراء الضمائر في البيعة ليزيد بجانب مطالب الدولة والفتوح بطبيعة الحال.

هذه وأمثالها أمور مسلمة في التاريخ لا يستطيع الأستاذ شاكر أن ينكرها بحال. ونحن نعجب كثيرا في حين نجده في مقاله يلبس مسوح الوعظ والإرشاد فيقول: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم. يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا. ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا. أفبهذه الآيات وأمثالها يستطيع الأستاذ شاكر أن يسكت لسان التاريخ.

كنا ننتظر من الأستاذ أن ينتقد هذه الحوادث التاريخية نقدا موضوعيا يحدد على ضوئه موقف معاوية من تاريخ الإسلام! ولكن الأستاذ لا يستطيع أن يأتي لمعاوية بتأريخ جديد فذهب يدافع عنه من باب آخر، فنقل عدة روايات تدل على أنه حسن الصلاة!! وأنه أوتر بواحدة! فقال ابن عباس أنه فقيه!! وأن الرسول قد قال: اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب!! وسار في هذا المضمار خطوات أتعبته كثيرا. والعجب أنه يجعل ما ذكره الأستاذ قطب من تاريخ معاوية روايات متلقفة من أطراف الكتب! وهي جميع ما تنطق به كتب التاريخ، أما ما ذكره الآن من فضائل معاوية فليس من الروايات المصنوعة، وإن اصطيد من مجمع الزوائد وأمثاله من مراجع الأستاذ، أفهذا منطق يقنع الباحثين!

وقد تعجبت كثيرا وأنا أقرأ قول الأستاذ شاكر عن قطب (إن كان يعلم أنه أحسن نظرا ومعرفة بقريش من أبي بكر حين ولي يزيد بن أبي سفيان وهو من بني أمية، وأنه أنفذ بصرا من عمر حين ولي معاوية فهو ما علم!) كأن تولية عمر لمعاوية كافية لأن تمحو أخطاءه فلا يأخذه مؤرخ بملام! ونحن نقرأ أن معاوية كان حسن السيرة على عهد عمر فولاه أعمال دمشق، ولكنه قلب المجن للتعاليم الإسلامية بعد مصرع عثمان فلم تنفعه تزكية الفاروق في شيء، وعمر رضي الله عنه لا يعلم الغيب حتى تكون تزكيته لإنسان ما في عهده ممتدة إلى جميع أعماله مدى الحياة!

هذا هو معاوية، أما أبو سفيان وهند زوجه وعمرو أبن العاص فلا أعلم أن الأستاذ قطب قد تجاوز الحق فيما كتب عنهم من تاريخ!! فجميع المسلمين يعرفون أن أبا سفيان حارب الإسلام حربا لا هوادة فيها، ولم يدخل في حظيرته إلا بعد أن تقررت غلبة الإسلام! وأن زوجه هند قد ولغت في الدم حين أخذت كبد حمزة بين فكيها، ولاكتها لتأكلها فلم تستطع، وإنها قالت عن زوجها حين أسلم: اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه، قبح من طليعة قوم، هلا قاتلتم ودافعتم عن أموالكم ثم أسلمت بعد ذلك أيضا!! وإن أبن العاص قد عاون معاوية في خصامه مع علي جريا وراء مآرب يدخرها لنفسه دون نظر إلى صالح الإسلام والمسلمين!! هذا كله ما ذكرته كتب التاريخ، أفيلام الأستاذ قطب إذا ذكره في معرض الدفاع عن الإسلام وتبرئته من آثام المذنبين أم يريد الأستاذ شاكر أن يؤخذ الإسلام بجرم أبنائه ومدعيه، حين يحتضن أناسا لم يتمسكوا بأهدابه وقواعده، ولا يكون لنا أن نتكلم في ذلك الشأن.

ولقد تعمدت أن أكون واضحا صريحا حين تكلمت عن المراد (بالصحابي) فتحدثت عما يفهم من مادة الكلمة دون نظر إلى ما دار حولها من اختلاف لدى الأصوليين، إذ هم يذكرون عدو تعاريف تتقارب وتتباعد دون أن تلتقي في ناحية واحدة، ولو تمسك كل إنسان بتعريف معين لتضارب القول، واتسعت شقة الخلاف! على أن الصحبة بمدلولها اللغوي تدل على الملازمة، فصاحبك هو الذي يطيل المكث معك أكثر من سواه، وصحابة الرسول بالمعنى الشرعي واللغوي معا هم أكثر الناس ملازمة له، وليس منهم معاوية وأبوه وأمه ونجله على أي حال، ولن أطيل هذا القول فيما ذكر المحدثون في قول الرسول خير الناس قرني ثم الذين يلونهم - وقد سبق في صدر هذا المقال - إذ أن مفسري الحديث قد أجمعوا على أن العبرة بالمجموع لا بالجميع، فقد يوجد في القرن العشرين من هم أفضل بكثير من بعض من عاصروا الرسول العظيم وإذن فليس للأستاذ شاكر أن يتمسك - بهذا وأمثاله - كدليل يستند إليه في دعواه وهو من البداهة بمكان لا يحتمل الترديد والإسهاب.

إن من القسوة العنيفة أن يقول قائل عن الأستاذ سيد قطب أنه قد بعد في كتابه عن منهج الإسلام، وهو الداعية البصير الذي تشرب روح الإسلام، وفهم دقائق التشريع، ورسم خطوطا واضحة يترسمها الشاب المتوثب للنهوض والعزة في ظلال الدين الحنيف، وكان بجهاده الميمون رائد جيل، ومنقذ نفوس، وداعية إصلاح.

أعلمت أشرف أو أجل من الذي ... يبني وينشئ أنفسا وعقولا

محمد رجب البيومي