مجلة الرسالة/العدد 974/دعوة محمد

مجلة الرسالة/العدد 974/دعوة محمد

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1952


2 - دعوة محمد

لتوماسي كارليل

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

إعجاز القرآن:

إن الذي حبب القرآن إلى قلب العربي، وجعله يترك دينه وما وجد عليه آباءه، وما ورثه من قديم الزمان من تقاليد وعادات، هي فضائله وأولاها فضيلة الإخلاص المحض الصراح، فهذه الفضيلة تعتبر منشأ كثير غيرها من الفضائل، لأن الإخلاص هو أساس النجاح في كل شيء. كما أن فيه نظرات نافذات إلى شؤون الحياة. وإنني أرى في القرآن ميزة خاصة وهي قدرته العظيمة على أن يوقع في أذهاننا كل ما جاء فيه ويجعلنا نؤخذ به، وهذا لا شك مرجعه إلى أن ما جاء به لا يقصد منه إلا إصلاح أمورنا والأخذ بأيدينا إلى الصراط السوي.

أنا لا أهتم كثيرا بما جاء به القرآن من الصلوات والتمجيد والتحميد، لأني أرى ما يقاربها في الإنجيل، ولكني لا أملك نفسي من شدة الإعجاب بما جاء به من نظر ينفذ إلى أسرار الكون ويواطن الأمور التي تهمنا جميعا، وخاصة فيما يحيط بنا من أسرار الكون العجيب الذي لا نهاية له. ذلك الكون الذي كان محمد إذا سئل أن يأتي بمعجزة قال. حسبكم بالكون معجزة عظمى (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) انظروا إلى السماوات وكيف بناها وزينها بالنجوم والكواكب وما لها من فروج. . وإلى الأرض التي خلقها لكم وبسطها وجعل لكم فيها سبلا تسلكون في مناكبها وتأكلون من نباتها وتتمتعون بخيراتها (والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا)، (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)، (أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي)، (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج)، (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد.

رزقا للعباد. وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج)، (أن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).

وهذا السحاب المسخر بين السماء والأرض يسير في الآفاق ثم ينزل مطرا فيحيي الأرض بعد موتها ويخرج منها أعنابا ونخيلا ونباتا مختلفا أكله. . أليس كل هذا آية دالة على وجود الله وقدرته. وأن القرآن من الله لا من صنع البشر. (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)، (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كثفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون)، (وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها).

وهذه السفن وكثيرا ما يذكر السفن كأنها الجبال العظيمة المتحركة تمخر عباب البخار وتسير في موج كالجبال تنشر أجنحتها وتنتقل من مكان إلى مكان بما ينفع الناس (والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس)، (والفلك تجري في البحر بأمره)، (وسخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)، (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه) وهذه الأنعام المختلفة الأصناف خلقها لكم ترعى الكلأ، ثم تخرج لكم من بيبن الفرث والدم لبنا خالصا سائغا للشاربين. (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين)، (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين)، (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون).

وأنتم يا أبناء آدم يا من تدلون بقوتكم وتفاخرون بقدرتكم ماذا كنتم؟ إنكم لم تكونوا شيئا مذكورا، ثم خلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، ثم جعل لكم جمالا وقوة وعقلا، ثم تهرمون وتضعفونوتهن عظامكم وتموتون، فإذا جاء يوم القيامة عدتم إلى حياة أخرى، أعادكم الرحمن الذي وهبكم الحياة الأولى. (. . . فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى. ثم تخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا)، (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) أليست كل هذه وغيرها آيات ناصعات دالة على قدرة الله وعلى أن هذا الكتاب من عند إله قوي قدير مدبر للكون، يعلم السر والظاهر ويدبر شؤون المخلوقات؟ إنه لا ينكر هذا إلا جاهل متعصب.

الجنة والنار في القرآن:

الجنة والنار من الموضوعات التي كثر ذكرها في القرآن وهما رمز لحقيقة أبدية، لم تصادف من حسن الذكر والعناية بالشأن كما صادفت في القرآن. لقد ذكر القرآن الجنة وملاذها ونعيمها، ومن هم الذين سيدخلونها (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا)، (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا)، (إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم. كلوا وأشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين. . . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون. يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم. ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون)، (في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين)، (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم).

وذكر النار وشدة بأسها وعذابها تنكيلا بأهلها، ثم ذكر من هم الذين سيدخلونها. جهنم المتغطية التي لا تشبع أبدا التي وقودها الناس والحجارة. (إذا القوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ)، (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا)، (إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى)، (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد).

وأما أصحابها فهم الأخسرون أعمالا) الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا).

وأنت ترى في أماكن كثيرة مقارنة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار وما يلقاه كل منها جزاء ما عمل (هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع). (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية. لا تسمع فيها لاغية. فيها عين جارية. فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة)، (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم. خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم. إن هذا ما كنت به تمترون)، (إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين، كذلك وزوجناهم بحور عين، يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم).

ثم يصور قيام الساعة ويوم الحشر إذ يجتمع الناس ليأخذ كل منهم كتابه الذي أحصيت فيه أعماله (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول - فرحا مغتبطا بما نال من حسن الجزاء على ما قدمت يداه في الدنيا - هاؤم أقرءوا كتابيه)، (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول - حزينا مهموما قد فقد أمله في النجاة وعلم أنه حقت عليه كلمة العذاب - يا ليتني لم أوت كتابيه).

هذا اليوم الذي فيه تذهل الأم عن رضيعها والأب عن ابنه والزوج عن زوجته، بل يتمنى الإنسان الذي أخذ كتابه بشماله أن يفتدي نفسه بأمه وأبيه وصاحبته وأخيه وكل من له صلة به (يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)، (يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن. ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم يوم المجرد لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه)، (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه).

ماذا نرى من هذه الصور الواضحة والتصويرات القوية؟ وما المقصود من هذا الإسهاب في ذكر هذه الأشياء؟ إن شيئا واحدا هو المقصود بكل هذا التصوير العظيم للحقيقة الروحانية الكبرى أم الحقائق التي بنى عليها نظام المجتمع وحياة العالم. أعنى بها الواجب وجسامة أمره، لأنه أمر خطير جسيم والحياة بغير واجب شيء لا قيمة له ولا شأن إن كل هذه الأشياء التي ذكرت تبين لنا قيمة الإنسان في هذه الحياة وأنه لم يخلق هملا حقيرا - وهذه القيمة نأخذها من جسامة ما القي على عاتقه من واجبات هو مطالب بها محاسب عليها - بل إن لكل مهما حقر، عمل إنساني له خطره وقيمته، وله على هذا الجزاء والأجر (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما)، (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) ويتجلى لنا هذا القول ظاهرا قويا في بعض أقوال محمد التي منها (إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى). فمن كان عمله سيئا فله من السوء نتيجة أبدية - ألا وهي جهنم التي وصفت - ومن كان عمله صالحا فله ثمرة صلاحه السرمدية - وهي الجنة التي وعد المتقون. .

إن الإنسان قد يصل بأعماله إلى أعلى عليين فيصبح رفيقا للملائكة والصديقين والشهداء والصالحين. وقد يهبط بأعماله إلى الدرك الأسفل من الحياة، فيصير ممن طردهم الله من رحمته وحرم عليه نعيم جنته التي وعد بها أصحاب الأعمال الصالحة.

لقد كانت روح محمد ذلك الرجل الذي عاش في الصحراء، تلتهب بكل هذه الخواطر التي أوحى بها إليه ربه، بل إنها نقشت على قلبه هي وبقية أجزاء القرآن الأخرى بأحرف من نور فصهرت نفسه الآدمية وأحالتها إلى روحانية صافية سمت إلى درجات العلى. . . لم يكن محمد بالأناني ولا بالمستأثر بالخير دون سواه، فقد حاول أن يجعل من أصحابه صورة منه، ومن تابعيه قوما صالحين ليضمن لهم التلذذ في الدنيا والآخرة. فحاول مخلصا كل الإخلاص جادا كل الجد أن يصور ما يجول في نفسه من خير للناس ويوضح لهم حقائقه، فقدمه لهم في تلكم الصور الباهرة التي منها صورة الجنة والنار، بل واستطاع أن يبين لهم أي ثوب لبسته تلك الصور من الحقيقة، وأي قالب صبت فيه حتى جعل هذه الصور كلها مقدسة عند المسلمين مصدقة عند عامتهم وخاصتهم لا يقبلون فيها جدلا ولا يرغبون في غيرها بديلا.

يأخذ البعض على الصورة التي رسمها القرآن للجنة والنار، تغلب الحسية والمادية ويقولون إن هذه الحسية قد أفقدت هذه الصور بهجتها وحدت من خيال السامع لأوصافها. ولكن فات هؤلاء أن الصور التي رسمها القرآن ليست حسية مادية - كما يقولون - ولكن القرآن روحاني سماوي فقد أقل جدا من إسناد الماديات والحسيات إلى ما صوره من صور وأن كل ما جاء فيه خاصا بهذه الصور وخاصة الجنة والنار إنما هو إيحاء وتلميح.

لكن العيب على هذا كله يقع على الشراح والمفسرين الذين قاموا بتفسير ما جاء في الكتاب المبين , فهم الذين لم يتركوا متعة شهوية ولا لذة حسية إلا حاولوا أن يلحقوها بالجنة ظنا منهم أن هذا يجذب الناس إلى الأعمال الصالحة التي تؤدي إليها. كما لم يتركوا عذابا بدنيا ولا ألما حسيا إلا حاولوا إسناده إلى النار ظنا منهم أن هذا هو أشد رادع عن إتيان المنكرات.

إن القرآن جعل أكبر متع الجنة روحانية إذ قال: (وسيق الذين أتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) فأي شيء أحب إلى نفس الإنسان من الأمن والسلام، إنهما في نظر كل عاقل غاية ما يتمنى وأقصى ما يسعى إليه، ثم يقول في مكان آخر (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) فأي رذيلة وأي عمل أشد خبثا من الغل والحسد اللذين هما مصدر المصائب والمحن والآفات والنقم. إنهما أساس ما يصيب العالم من الكوارث والمهلكات والحروب الطاحنة فإذا نزع ما في الصدور من الغل والحسد، صارت الحياة أهنأ وألذ كأنما هي الجنة التي أرادها الله بل إن الجنة لا تفضلها في شيء.

إن السلام والأمن والتصافي كل هذه الأشياء حفل بها هذا الكتاب الذي جاء من لدن حكيم خبير.

عبد الموجود عبد الحافظ