مجلة الرسالة/العدد 974/التعليم في مصر

مجلة الرسالة/العدد 974/التعليم في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 03 - 1952



للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

لا بد للباحث في حالة الإصلاح في بلدنا هذا من أن يقف بين يديه آن وآن برهة من الزمن ليراجع فيها الماضي وليدقق النظر في الحاضر تعرفا لما كان، وتلمسا لما يكون، لعله يتمكن بذكريات الماضي وعبر الحاضر من رسم خطة سليمة للمستقبل. والتعليم في مصر وهو من أهم أسباب نهضتها وأعظم عوامل الإصلاح فيها من الأمور التي يجب على المسئولين أن يراجعوا أنفسهم فيه بين فترة وأخرى حتى يتبينوا عيوبه في الماضي ليتخلصوا منها في الحاضر وفي المستقبل في سبيل تنشئة جيل جديد يستطيع النهوض بالبلاد النهوض المأمول.

إن السياسة العامة التي عليها الحكومات المتعاقبة من زمن بعيد تعنى عنايتها الكبرى بنشر التعليم والإكثار من المدارس والمعاهد أكثر من عنايتها بأي شيء آخر، حتى لقد تضاعف في السنوات العشر الأخيرة عدد المدارس، كما أصبحت لنا فعلا ثلاث جامعات تضم الآلاف من الطلاب. وهناك جامعة رابعة ينتظر أن تنهض بالعمل في العام القادم بعد أن كانت لدينا جامعة واحدة. ولا شك أن نشر العلم بين الناس عمل جليل مشكور بشرط أن يكون ذلك على أساس سليم مثمر، في نظام يؤدي إلى التكوين الصحيح الذي يعرف به كل متعلم واجبه نحو نفسه ونحو معهده ونحو مواطنيه ونحو بلاده. فهل عرف متعلمونا اليوم واجبهم الحق وأدوه بعض الأداء؟ الرد على ذلك فيما أذاعه وزير المعارف السابق في بيانه عن حالة المدارس الراهنة مما ملأ قلبه وقلب المصريين حسرة على ما أصاب معاهد التعليم من انتكاس وتدهور وفوضى يؤسف لها كل الأسف. وعندي أن الأمر في ذلك راجع إلى شيء واحد طالما نبهنا إليه في مقالاتنا في مجلة الرسالة الغراء التي لا تدخر وسعا في العمل للنهوض بأبناء هذه الأمة. . وفي تقاريرنا التي شرفنا برفعها إلى وزير المعارف منذ أكثر من ربع قرن من الزمان من سنة 1923 إلى اليوم. . بل وفي مؤلفنا (التعليم والمتطلعون في مصر) الذي سبق أن أصدرناه منذ ثلاثة عشر عاما والذي ذكرنا فيه في صراحة وجلاء في صفحات متعددة منه أن المدرسة المصرية أهملت وأجبها في تربية تلاميذها وتكوينهم تكوينا خلقيا صحيحا. . وأن واجبها يقتضيها أن توجه عنايتها الخاصة إلى ذلك، لأن التكوين الخلقي هو الدعامة الحقيقية للتنشئة، وهو الذي ترعاه رعاية تامة كل الأمم في تكوين أبنائها، وهو الذي وجهنا إليه الله تبارك وتعالى في وصف نبيه الكريم بقوله (وإنك لعلى خلق عظيم) وهو الذي عنى به رسول الله في قوله (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

نبهت مرارا وتكررا في أكثر من ربع قرن من الزمان إلى ضرورة العناية بالتكوين الخلقي في المدارس، ورفعت التقرير تلو التقرير إلى المسئولين ناصحا ومنبها ومنذرا، ولكن الجميع كانوا يبحثون مندفعين وراء المناهج ووراء العلم فقد دون الأخلاق. ولقد جاء في تقريري المرفوع سنة 28 إلى وزير المعارف لما بعث يسأل كبار رجال التعليم عن المناهج ما يأتي:

يا صاحب المعالي: مشكلة التعليم في مصر مشكلة معقدة يهتم لها الشعب وتهتم لها الحكومة اهتمامها بأهم أمور الدولة؛ لأنها أساس من الأسس العامة في بناء النهضة، وفي نظري أن مسألة المناهج ليست أهم شعب تلك المشكلة؛ فهناك نظم التعليم وما فيها من عيوب، وهناك المدرسون وكفايتهم، وهناك التعليم في مجالس المديريات، وهناك الارتباط بين التعليميين الأولى والابتدائي، وهناك مسألة تشجيع الكفاءات الخ الخ). وجاء في هذا التقرير (لا أراني مغاليا إذا قلت إن روح المنهج الجديد هي هي بعينها روح المنهج القديم، فالمدرسة الابتدائية وكذا الثانوية لا زالت منفصلة تماما عن البيئة المحيطة بها. . ونظرية حشد الأدمغة بالمعلومات البعيدة عن الحياة لا زالت متجسمة في منهجها الجديد، ولا زال كثير من التلاميذ يبغضون المدرسة وذكرها وكل ما له مساس بها، ولم يعمل المنهج الجديد شيئا في سبيل تحويل وجهة نظر التلاميذ والأهلين عن الوظائف والتوظف الخ الخ)

وجاء في مؤلفي سابق الذكر صفحة 193تحت عنوان عيوب التعليم الحاضر ما يأتي:

(هذا والمعلم القديم الذي باشر العمل في المدارس المصرية منذ عشرين سنة ولا يزال يباشره إلى اليوم يشعر بالأسف العميق أيضا؛ إذ يحس أن روح الجد والعمل من ناحية التلاميذ قد انقلبت إلى روح استهتار وقلة اكتراث وكسل يصحبها ميل شديد إلى الأخذ بأكبر نصيب من المتعة واللذة وحياة الطراوة والهزل، حتى حار فيهم المربون وضاقوا بهم ذرعا واستولى اليأس من إصلاحهم على قلوب الكثيرين، وأصبحت الحالة لا تطاق بين جدران المدارس بسبب ما يوجد من الاستهتار والرعونة والخروج على المبادئ الأساسية المرعية بين التلميذ ومعلمه - وأن الفوضى التي تنتاب المدارس أحيانا من خروج على النظام والآداب وإتلاف لبعض أثاث المدرسة مما يتناول كرامتها وكرامة أساتذتها لما تحزن له النفس ويهلع له القلب، وهذه حالة ستؤدي حتما إلى تدهور خلقي أشنع مما تقاسيه البلاد الآن إذا لم تجد اليد القوية الحازمة الرادعة التي تضع الأمور في نصابها فتعيد إلى المدرسة كرامتها وتجعل أساس المعاملة بين التلميذ وأستاذه ومدرسته الاحترام الحقيقي المشوب بالعطف الأبوي. . يقابله في الوقت نفسه حب بنوي) هذا إنذار قدمته منذ ثلاثة عشر عاما للمسئولين فلم يستمع له أحد، وقد تحقق اليوم مع الأسف الشديد ما تنبأت به. وعلاوة على ذلك فقد أفردت الباب الرابع كله في مؤلفي السابق الذكر لموضوع تكوين الأخلاق بالذات، وأبنت فيه كثيرا ما لتربية الأخلاق من قيم ونتائج، كما رسمت فيه خطة للإصلاح الخلقي.

وإني لا زلت أقرر - والحزن الذي ملأ قلب معالي وزير المعارف السابق وقلوبنا اليوم يملأ قلبي من سنين عديدة - أن الحالة المحزنة التي وصلت إليها المدرسة المصرية اليوم ترجع إلى إهمال العوامل النفسية والخلقية التي تؤثر أعظم التأثير في تكوين الناشئين. تلك العوامل التي نبهت إليها من زمن بعيد فلم يأبه لنصيحتي أحد فأصبحنا نقاسي اليوم نتائجها السيئة المريرة حائرين منزعجين مستفسرين متسائلين.

أمرتهمو أمري بمنعرج اللوا ... فلم يستبينوا الشد إلا ضحى الغد

لقد أصبحنا اليوم على أبواب بحث جديد في حالة التعليم تجربة معالي حسونه باشا وزير المعارف وهو الرجل الذي يقدر الأخلاق الفاضلة حق قدرها، ويشرف عليه ذلك الرجل النابغة الذي كرس حياته لبناء مجد الوطن رفعة علي ماهر باشا الذي تفخر به مصر كلها والذي أفخر شخصيا بأنه من بين مئات الكبراء المفكرين الذي أهديت إليهم مؤلفي سابق الذكر (التعليم والمتعطلون في مصر) كان الرجل الوحيد الذي تكرم فقرأه بعناية وأثنى عليه الثناء الجميل فكان ذلك مما شجعني على أن أعاود الكرة في الكتابة اليوم في هذا الموضوع الجليل. وفقه الله ووفق جميع العاملين لما فيه خير هذه الأمة إنه سميع مجيب.

للبحث صلة عبد الحميد فهمي مطر