مجلة الرسالة/العدد 975/التعليم في مصر

مجلة الرسالة/العدد 975/التعليم في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 03 - 1952


2 - التعليم في مصر

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

من المسلم به أن المجتمع لا يستقيم أمره ولا يحيا الحياة الهادئة المطمئنة ولا يرقى الرقي المنشود إلا إذا سادت بين أفراده فضائل معينة؛ حددتها الأديان السماوية واجتمع عليها علماء الأخلاق. . كفضائل الصدق والأمانة والشجاعة والاستقامة ورعاية حقوق الغير والإيثار والتضحية الخ. وفي مثل هذا المجتمع الفاضل يقدر الأشخاص بأعمالهم، فيعرف لكل ذي فضل فضله وينال المعتدي جزاء عدوانه، وتتجلى فيه الرحمة فيعطف القوى على الضعيف ويبر الغني الفقير ويرحم الكبير الصغير ويوقر الصغير الكبير. وكلما ازداد الناس إيماناً بهذه النواحي ازدادت المودة بينهم وازداد التعاون وقلت البغضاء وزال التشاحن، وبذا تشيع المحبة والأخوة العامة بين الناس وتسود بينهم الطمأنينة وينتشر الأمن والسلام وهو أشرف ما تصبو إليه البشرية جميعها.

ولقد أصبح هذا المجتمع الفاضل حلماً من الأحلام في هذه الأيام؛ إذ لم يعد الناس في مجتمعنا الحالي يقدرون تلك الفضائل بعد أن غمرتهم موجة المادية الجائحة المصحوبة بالأثرة وحب الذات والمتعة التي رمتنا بها المدنية الغريبة، فاستوى في الأنانية والحرص على المادة ومجافاة الخير الكبير والصغير والغني والفقير، وأصبحنا نسمع أموراً كثيرة مستهجنة عن متعلمينا وخريجي جامعاتنا ومدارسنا لم يكن لنا بها عهد في الماضي، ولم يعرفها آباؤنا ولا أجدادنا منذ نصف قرن من الزمان. فلكم سمعنا في السنين الأخيرة عن طبيب يعمل جاداً لاستنزاف أموال مرضاه فقراء أو أغنياء قبل أن يعمل على استئصال أمراضهم، والمريض المسكين الذي يرتمي في أحضان طبيبه لينقذه مما يعانيه لابد له أن يثق بهذا الطبيب وأن يصدق كل ما يقرره له؛ باذلاً كل ما في وسعه لإرضائه عله ينال الشفاء على يديه، وكم تكون الصدمة قوية مدمرة إذا عرف أن طبيبه يطب لجيبه قبل أن يطب لإراحة هذا المسكين من علته! وكم سمعنا عن محام احتال للحصول على المال بمختلف الحيل الشيطانية التي لا تقع طائلة عقوبات قوانيننا الوضعية الناقصة. ناهيك بما يعمله لإغراء المتقاضين بعضهم ببعض، وبث الفتنة خصوصاً بين المتشاحنين من أفراد الأسرة الواحدة للدخول بهم في قضايا يبتز فيها أموالهم. وكم سمعنا عن مهندس أو موظ كبير يأخذ الرشوة جهاراً نهاراً ليغلب عطاء شركة على أخرى أو ليعمل عملاً في تغليب باطل على حق. وكم قرأنا في الصحف والمجلات عن نكبات نزلت بالناس أو خسارات فادحة أصابت موارد الحكومة بسبب التزوير والاختلاسات! ثم إن هذه النكبات الكثيرة التي تقع على رأس الشعب والحكومة نفسها لم تعد تقع من أفراد معدودين غير متعلمين كما كان الحال منذ نصف قرن من الزمان قبل تغلغل روح الفساد الغربي في صفوفنا. . ولكنها مع الأسف تعددت وتكررت من كثيرين من متعلمي مدارسنا وجامعاتنا حتى أصبحت لا نطاق ولا تحتمل وأصبح العلاج عسيراً. ثم هو يزداد كل يوم عسراً على عسر كلما تراخينا في وضع الخطة السلمية لإيقاف هذا التيار المزعج المدمر لحياة الأمة وكيانها. فبالله عليك كيف يطمئن الشعب على حقوقه وهذه حال متعلميه أو حاكميه! وبالله عليك هل تجدي القوانين التي تقننها الدولة وتنشرها حبراً على ورق كل يوم لحفظ الحقوق بين الناس وصون العهود واحترام العقود ما دام الكثيرون من المشرفين على تنفيذ تلك القوانين لا يأبهون بها.

ولا يرعونها إلا بقدر ما يملأون به بطونهم ويحشون به جيوبهم؟ وكيف يستطيع والحالة هذه معلم مهما كان قديرا أن يؤدي واجبه في هذا المجتمع الفاسد؟ سيضطره مثل هذا المجتمع إلى أن يجاريه ليعيش فيصبح مثلاً سيئاً لتلاميذه مخالفة أعماله لأقواله، ومهما ألقى على تلاميذه من تعاليم ونصائح ومهما ذكر لهم من عظات وأمثال ومهما ذكرهم بقول العرب (تجوع الحرة ولا تأكل بثديها) فإنهم سيتشككون في تلك الأقوال والأمثال ولا يؤمنون بها ويستحلون لأنفسهم ما ينافيها، وسيضطر مثل هذا المجتمع المعلم إلى أن ينسى أو يتناسى كل ما حفظه في كتبه وتلقاه على أساتذته عن نبذ الرذائل والتحلي بالفضائل، وسيعمل كما يعمل غيره مكرها أو راضياً وسط زوابع الغلاء المرير للحصول على المال الذي يقوم بأوده هو وأسرته من غير وجهه المشروع. وستكون تعاليمه لتلاميذه تعاليم فارغة تافهة لا روح فيها ولا جدية لأنها تصدر منه عن قلب غير مؤمن بها؛ فإذا طالبهم بالصدق في القول والأمانة في العمل شعر في صميم قلبه بالرياء الذي قد يحز في قلبه بادئ ذي بدء؛ ثم يصيره التكرار مع الأسف عادة فيه. وإذا طالبهم بالصراحة والشجاعة والمثابرة على العمل وإتقانه في سبيل النجاح ناقص نفسه لأنه لم يعد يؤمن بأن هذه الفضائل توصل إلى النجاح، لأنه يرى بعيني رأسه ويسمع بأذنه كل يوم أن للنجاح في الحياة سبيلا آخر غير السبيل التحلي بهذه الفضائل، ويحس التلاميذ الأبناء وهم مرهفو الحس أن أستاذهم رجل متناقض ويملأ الشك فيه نفوسهم، وهم إذ يحسون بذلك لا يفيدونمنه ولا يجدون جدوى في الاستماع إليه. ثم هم بعد ذلك يدخلون إلى الامتحان جهلاء خاوي الوفاض من كل شيء إلا من سلاح واحد مرن عليه الكثيرون وهو سلاح الغش الذي استشرى الآن بعد أن بدأ منذ سنين همساً في الامتحانات العامة والخاصة فلم يعد يقاومه الآن من الممتحنين إلا القليلون الذين يعرضون أنفسهم من جراء ذلك للنكبات. وكيف يبقى للأساتذة في نفوس تلاميذهم بعد ذلك أية مكانه عرفوا أنهم من جهة لا يفيدون منهم في تلقي العلم إلا قليلا، وأن لديهم من جهة أخرى طرقا غير مشروعة تقودهم إلى النجاح المطلوب في الامتحانات وسائر أمور الحياة! إنهم بعد هذا كله لا يستشعرون احتراما لمعاهدهم ولا لأساتذتهم! أليس هذا هو الحال في معظم مدارسنا؟ أليس هذا هو الحال الذي يشكوه كل أستاذ وكل ناظر وكل عميد! يالها من غمرة ترتجف له الأبدان وتنفطر لها القلوب؟ إنها غمرة الصلف والأنانية والمادية التي رمانا بها الغرب فكسحت أمامها كل فضيلة وأماتت الضمائر وأبادت كل خير! ثم ماذا يجدي تغيير نظم الامتحانات وجعل نقل التلاميذ من فرقة أخرى في ذمة المعلم بعد أن وضح أمامنا ما آل إليه المجتمع من فساد في الذمم حتى كاد يكون من المستحيل على العلم أن يجعل الذمة أساسا لحكمة على هؤلاء الأبناء المساكين! لقد دعونا إلى هذا التغبير في نظم الامتحانات من زمن بعيد وفي مؤلفنا (التعليم والمتعطلون في مصر) الذي صدر منذ ثلاثة عشر عاما؛ ولكن الحال الخلقية وقتذاك لم تكن تدهورت هذا التدهور، وكان هناك نوع من الحياء ومحاسبة الضمير. أما اليوم والحال أصبح كما وصفنا فإن الأمر لا يصبح أن يقتصر على قوانين فقط تكتب على الورق ليكون تنفيذها هباء بل ليكون ضارا. . ولكن الأمر يتطلب علاجا حاسماً ذا وجهين: وجه سريع يتعلق بالتلاميذ فيحال بينهم وبين الحزبية والمخربين وموظفي الدولة والرجال العاملين فيها فتنظف أداة الحكم ويحاسب كل منهم حسابا دقيقا على ما ارتكبوا وعلى ما جنوا على الأخلاق وبخاصة أولئك الذين مصوا دم الشعب وأثروا طفرة على حسابه. وفي تطبيق قانون الكسب غير المشروع الجزاء الأوفى إذا طبق تطبيقا عادلا نزيها - أما الوجه الثاني من العلاج فهو الذي تعتمد عليه الأمم في تكوينها لأبنائها وناشئتها، وهو علاوة على ما يتطلبه من خطة حازمة وطيدة يتطلب كذلك أن يؤمن به الجميع وأن يتعاون عليه الجميع خصوصاً بعد أن رأينا بأعيننا وسمعنا بآذاننا ما حل بنا. . وأن تتذرع به الحكومة وجميع الأحزاب والجماعات في الإصلاح، وأن يراعي فيه وجه الله والوطن والمصلحة الآجلة قبل المصلحة العاجلة. ذلك هو تربية الناشئة تربية يجعلها تؤمن بالله وتخافه وتراقبه في كل عمل من الأعمال، فيحاسب كل نفسه دائماً واضعا نصب عينيه إرضاء وجه الحق والعدل والقانون دون أن يكون عليه رقيب غير الضمير الحي. هذه الخطة تحتاج إلى اقتناع وإيمان وإلى فترة طويلة من الزمن وإلى انتحاء القادة والزعماء ناحية جديدة مستمدة من علوم الأخلاق؛ بل من وحي السماء بل من رب السموات والأرض الذي يعلم ما يصلح المجتمع وما يفسده (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) هذه الخطة التي تربى القلوب تربية تؤمن بربها وتخشاه كفيلة بأن تكون من ناشئتنا الأخلاق الفاضلة التي تسمو بنا عن كل الصغائر، وتدفع بنا سريعاً نحو السمو ونحو المجد ونحو العزة؛ وهي لا شك ترضي ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا - ألا هل بلغت اللهم فاشهد.

عبد الحميد فهمي مطر