مجلة الرسالة/العدد 975/المسلمون بين الشرق والغرب
مجلة الرسالة/العدد 975/المسلمون بين الشرق والغرب
عند ظهور الإسلام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
ظهر الإسلام والعالم منقسم إلى كتلتين كما ينقسم الآن، كتلة شرقية تقودها دولة الفرس من الأكاسرة، وكتلة غربية تقودها دولة الروم من القياصرة، والتاريخيعيد نفسه، وقد وقع العرب بين هاتين الكتلتين فيما يقع فيه الآن أهلالشرق الأدنى بينالكتلة الشرقية بقيادة روسيا الشيوعية، والكتلة الغربية بقيادة أمريكا وإنجلترا، وكان كل من الكتلتين يقود فريقا من العرب إلى ما بينهما من حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل كانوا هم الذين يغرمون دائماً من أنفسهم وبلادهم، وكان الغنم لصاحب النصر من الفرس أو الروم.
وكانت السياسة الخادعة المفرقة قد قسمت العرب إلى قسمين وأقلمت فيهم دولتين: تقوم إحداهما بجانب الفرس، وهي دولة المناذرة بالعراق، وتقوم الثانية بجانب الروم، وهي دولة الغساسنة بالشام، وكان الفرس هم الذين يوجهون سياسة الدولة الأولى، كما كان الروم يوجهون سياسة الدولة الثانية، فإذا قامت حرب بين الفرس والروم كان المناذرة بجانب الفرس، وكان الغساسنة بجانب الروم، وقام فريق من القبائل العربية بجانب المناذرة، وقام فريقآخر منها بجانب الغساسنة، وقد انقسم العرب بهذا على أنفسهم، وقامت به حروب كثيرة بين المناذرة والغساسنة، بين القبائل العربية بعضها وبعض، حتى ضعف شأن العرب بهذه الحروب، وكانت بلادهم تقع فريسة في أيدي الطامعين فيها بلدا بعد آخر.
وكانت ببلاد العرب دولة كبيرة يتلف العرب جميعا حولها، وهي الدولة الحميرية باليمن، وكان كل من دولتي الفرس والروم لا يرتاح إلى وجودها ببلاد العرب، لأنها كانت تأبى أن تقف منهما موقف دولتي المناذرة والغساسنة، فيعمل كل من الروم والفرس على إضعافها والاستيلاء على بلادها، وكان أن سلط الروم دولة الحبشة على هذه الدولة، فاستولت عليها قبيل ظهور الإسلام. وحكمتها نحوا من سبعين سنة، حاولت خلالها أن تستولي على بلاد الحجاز وغيرها من البلاد العرب، ولما رأت أن الكعبة هي الرمز الديني الذي يجمعهم، قصدت مكة لتخريبها في وقعة الفيل المعرفة، وقد انتهت هذه الوقعة بهزيمتها على ما هو معروف في التاريخ، ثم كان أن قام سيف بن ذي يزن من بقايا الحميريين يحاول استعادة دولتهم، ولم ير وسيلة إلى هذا إلا أن يستعين بالفرس أعداء الحبشة والروم، فأمدوه بجيش أمكنه أن يخرج الحبشة من اليمن، وأن يقيم سيف بن ذي يزن ملكا على دولة آبائه، وكان لذلك رنه فرح في الحجاز وغيره من بلاد العرب، فأتت الوفود من هنا وهناك لتهنئته باستعادة ملك الحميريين وكان منها وفد الحجاز على رأسه عبد المطلب بن هاشم جد النبي ﷺ، ومن بين رجاله أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر، فهنأه بقوله:
لا يطلب الثأر إلا كابن ذي يزن ... في البحر خيم للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شاِلت نعامته ... فلم يجد عنده النصر الذي سالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
إلى أن قال:
فالقط من المسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك أشبالا
وأشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ولكن كسرى الفرس لم يقدم هذه المساعدة لسيف بن ذي يزن خالصة لوجه الله تعالى، بل كانت في نظير خراج من اليمن يؤدي إليه كل سنة، فكان سيف بن ذي يزن يؤديه إليه، وكان جيش كسرى الذي أعاد إليه ملك اليمن يشاركه في حكمه، فلما توفي ضم الفرس إليهم ملك اليمن، وصار الذي يتولى أمره واحد منهم، ولم يستفد أهله من حركة سيف بن ذي يزن إلا أن استبدلوا ملك الفرس بملك الحبشة.
فلما أتى الإسلام لم يرض أن يقف كما وقف العرب ذلك الموقف المعيب من تينك الكتلتين، لأنه لا يليق أولاً بالعرب كأمه يجب أن ترعى كرامتها ومصلحتها قبل غيرها، ولا يصح أن تجعل فريقاً منها ذيلاً لدولة الروم، وفريقاً آخر ذيلاً لدولة الفرس فينقسم بعضهم على بعض في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ثم لا يليق ثانياً بدين أتى للسلام والتعارف وهداية الناس كافة أن يشترك في هذه الحروب المفرقة الآثمة، لأنها لم تكن قائمة لغرض شريف، وإنما كان يقصد منها توسيع السلطان، وبسط سيادة الأقوياء على الضعفاء، ليعظم الخراج الذي يجبونه منهم، ويتوسعوا في الترف الذي ينفق فيه ذلك الخراج، فيزداد الأقوياء غنى وطغياناً، ويزداد الفقراء فقرا ومذلة.
فآثر الإسلام أن يقف موقف الحياد من تينك الكتلتين، لا يهمه إلا غايته الشريفة التي يسعى إليها، ولا ينظر إليهما إلا في حدود هذه الغاية، وفي حدودها كان حياده فيه شيء من العطف نحو دولة الروم، لأنها لم تكن حينئذ تملك إلا قليلاً من بلاد العرب، وكانت بلاد الشام التي تقوم فيها دولة الغساسنة لا تعد من بلاد العرب في ذلك الوقت إلا على نحو التجوز، أما دولة الفرس فإنها كانت متسلطة على كثير من بلاد العرب، ولم يكن خالصاً من سلطتها إلا بلاد الحجاز ونجد، وكان الإسلام يرى أنه سيقوم أولاً على أكتاف العرب، لنشأته بينهم، فلم يرتح لاستيلاء الفرس على هذه البلاد التي يعدها وطنه الأول، وهذا إلى أن الروم كانوا أهل كتاب، فكانوا أقرب في العقيدة إلى الإسلام من الفرس.
وكان من مظاهر عطف الإسلام على دولة الروم أن حزن المسلمون وهم بمكة قبل الهجرة على غلبة الفرس لهم، حتى نزل في هذا قرآن يعدهم بنصر الروم على الفرس، وذلك قوله تعالى في أول سورة الروم.
(ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، بنصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
وقد مكن ذلك موقف الإسلام من تينك الكتلتين إلى أن صار له شيء من القوة بالمدينة، ورأى أن يدعو رؤساء تينك الكتلتين إلى أمر تجتمع عليه كلمتهم، وتبطل به هذه الحروب بينهم، فيسود السلام بين الشعوب البشرية، وتقوم بينهم علائق الصفاء والمودة، ولا يكون هناك أقوياء يتحكمون في الضعفاء ولا أغنياء مترفون، وفقراء مدقعون، بل يعيش الضعفاء بجانب الأقوياء ولهم مثل حقوقهم، ويعيش الفقراء بجانب الأغنياء قريباً من عيشهم، حتى لا يكون هناك فارق كبير بين هذه الطبقات، ولا يعيش الأقوياء والأغنياء في نعيم وترف، والضعفاء والفقراء في حرمان وبؤس.
وقد وقف الإسلام بهذا موقفاً كريماً بين تينك الكتلتين، ولكنه لم ينل منهما ما يليق به من التقدير، فأغضبت كسرى الدعوة التي وجهت إليه، وبعث إلى عامله باليمن بأمره بقتل النبي ﷺ، وكذلك كان شأن الدعوة التي أرسلت إلى رؤساء الكتلة الرومية، ثم كان أن جر كل من الكتلتين الإسلام إلى حروب لم يكن يريدها مع أن الظفر كان فيها له؛ وكان من خير الإنسانية أن يجيباه إلى إبطال هذه الحروب، ولو أنهما أجاباه إلى هذا لكان للعالم اليوم شأن عظيم غير هذا الشأن.
للكلام صلة
عبد المتعال الصعيدي