مجلة الرسالة/العدد 976/الطريق إلى الكتلة الثالثة

مجلة الرسالة/العدد 976/الطريق إلى الكتلة الثالثة

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 03 - 1952


للأستاذ سيد قطب

يسألني الكثيرون منذ دعوت إلى قيام الكتلة الثالثة: ما الطريق إلى قيام الكتلة الثالثة؟ وحينما كنت أحاضر عن هذا الموضوع في دار اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني منذ أسبوعين، استوقفني بعض الشباب بعد نهاية المحاضرة ليبدي لي مخاوفه أن تكون العقبات التي في الطريق أكبر من الإمكانيات. . ثم أرسل إلى بعضهم يسألني تفصيل ما أجملت في هذه المحاضرة.

من بين هذه الرسائل رسالة للشاب الأديب (أحمد محمد أبو بكر الطالب السوداني بمعهد القاهرة) وقد جاء فيها:

(. . . إنه لمن حسن الطالع أن نستمع إلى محاضرتك القيمة بنادي اللجنة العليا للحزب الوطني وقد استطعنا أن نقف على أسباب تفرقة العالم الإسلامي، وأن نقف كذلك على حقيقة ما تضمره لنا كل من الكتلتين الشرقية والغربية من سوء. ولكننا مع ذلك كله لا نزال نطلب منك أن تبين لنا على صفحات الرسالة الغراء ما يستطيع المسلمون على ضوئه أن يوحدوا صفوفهم ويجمعوا كلمتهم لكي يكونوا كتلة ثالثة. . . الخ).

هذه الرسالة وأمثالها كثير تدل على استعداد معين عند الكثيرين من الشبان للاستماع إلى مثل هذه الفكرة والاقتناع بها، بل تدل على أكثر م هذا. . تدل على اللهفة الحقيقية لتحقيق هذا التكتل الإسلامي الذي آن له الأوان.

ولقد كنت أعرف عندما دعوة هذه الدعوة أن العقبات في طريقها شتى. ولكني كنت أومن كذلك أنها دعوة طبيعية، تنبع قوتها من تلبيتها لطبائع الأشياء، ولحاجة العصر، ولاتجاه المستقبل. وأن دوافعها أكبر من معوقاتها، مهما بدت هذه المعوقات من الضخامة والمناعة. . إن كل دعوة تتفق مع طبائع الأشياء، وتنبع من حاجة العصر، وتسير مع اتجاه المستقبل، هي دعوة ناجحة غالبة مهما يقم في طريقها من عقبات.

هذا المعنى أحب أن أؤكد أولا لشبابنا المتلهف على تحقيق هذه الفكرة، المشفق في الوقت ذاته من ضخامة العقبات، ومن موحيات اليأس، ومن عقابيل الماضي. . ومتى ثبت في الضمائر إيمان معين بالفكرة، فكل شيء بعد ذلك هين، وكل عقدة حلها ميسور.

والذين عاشوا مثلي في ربع القرن الأخير، قد تلوح لهم بشائر الأمل أقوى وأضخم من الشباب اليافع الذي لم يشهد ذلك الماضي. . إن هذا الشباب بطبيعته عجول لأنالطاقة الكامنة في كيانه تريد لها متصرفا سريعا. وهو ينظر فيرى عقبات جمة، ولكنه لا يعرف أن العقبات في الماضي كانت أضعاف ما هي اليوم، فتذاوبت شيئاً فشيئاً، بحيث لا تقاس اليوم إلى ما كانت عليه منذ ربع قرن فقط. أما الذين عاصروا تلك الفترة الماضية مثلي، فيعلمون أننا قطعنا شوطا بعيدا جداً في ذلك الزمن الوجيز.

إن أقصى ما تلاقيه فكرة التكتل الإسلامي اليوم من سوء استقبال، هو أن يتشكك بعض الناس في إمكان تحقيقها في فترة قصيرة، ويروا الكثير من العقبات في طريقها، ويشفقوا من ضخامة هذه العقبات. . أما قبل ربع قرن فقط فقد كان التفكير - لا في قيام كتلة إسلامية ضخمة بل في قيام كتلة عربية صغيرة - مدعاة للسخرية، بل مدعاة للتشكك في عقول من ينادون بها، واعتبارهم جماعة ممن في عقولهم مس، فهم يعيشون في الماضي، ولا أمل فيهم لأنهم مخرفون!.

لا بل إن قيام (رابطة شرقية) لا إسلامية كان يلقي مثل هذا الهزء ومثل هذه السخرية إلى عهد جد قريب. . فها هو ذا رجل واسع الأفق مثل الدكتور طه حسين باشا يؤلف كتابه: (مستقبل الثقافة) في سنة 1936 فيسخر فيه من تلك الفكرة سخرية مريرة، ولا يكاد عجبه ينقضي من تلك الجماعة التي كانت تسمى نفسها (الرابطة الشرقية) لأن مصر قطعة من حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا علاقة لها بذلك الشرق البعيد مسلما كان أو غير مسلم. . فالإسلام وغير الإسلام لا يملك أن يقيم رابطة بين مصر وهذه الشعوب!.

كان هذا منذ خمسة عشر عاماً فقط. . فإذا نحن قسنا تلك الوثبة الفكرية والشعورية الهائلة التي تملي علينا أن نتحدث عن الكتلة الإسلامية، أو عن الكتلة الشرقية، فلا يسخر بنا أحد، ولا يضحك منا أحد. بل تنبعث ملايين القلوب تخفق للفكرة، وتنبعث عشرات الأقلام تكتب عنها في كل مكان. وتنبعث مئات الأكف وألوفها تصفق للخطباء. ولا يتحدث متحدث إلا بالسؤال عن الطريق. . إذا تم هذا في خلال خمسة عشر عاماً فقط فهو النصر إذن وهو التوفيق.

ولماذا؟ إن هذا النصر لا ينبع من بلاغة الأقلام التي تكتب، ولا من فصاحة الألسنة التي تخطب. . إنما ينبع أولا وقبل كل شيء من تلبية الفكرة لطبائع الأشياء، ومن مسايرتها لحاجة العصر، ومن تمشيها مع إرادة المستقبل. . وذلك هو الضمان الأكيد.

ستسير الفكرة إذن في طريق التحقيق منذ اليوم، حتى ولو لم يدع إليها قلم متحمس أو لسان متدفق. ستسير لأن الشعوب الإسلامية مضطرة اضطراراً لأن تعمل على تحقيقها كوسيلة من وسائل الخلاص من الاستعمار، ولإنقاذ العالم من حرب ثالثة قريبة في ذات الأوان.

وستسير الفكرة لأنها تلبية للاتجاه العالمي للتكتل. لا باسم القوميات والجنسيات، بل باسم المبادئ والعقائد. والعالم كله يسير في هذا الاتجاه الآن شرقاً وغرباً. فاتجاه المسلمين إذن إلى التكتل تحت عنوان فكرة ومبدأ هو الاتجاه الطبيعي للعالم كله، ومن ثم فهو الاتجاه الطبيعي في هذه الظروف.

إنني أعرف: أن الاستعمار سيقف في الطريق. وأعرف أن الكتلة الشرقية ستقف لنا في الطريق. وأعرف أن الحكام في كثير من أمم العالم الإسلامي سيقفون في الطريق. ولكني أعلم كذلك أن هذه القوى كلها مصطنعة، فهي لا تملك أن تقف طويلا أمام فكرة طبيعية، تستمد قوتها من طبائع الأشياء، ومن حاجة العصر، ومن نداء المستقبل في العالم كله، لا في بقعة منه محدودة.

ومن الظواهر العجيبة أن الفكرة التي تنبع من حاجة العصر واتجاه المستقبل يضطر خصومها - بحكم مصالحهم القريبة وتحت ضغط الضرورات الذاتية - إلى مساعدتها وتقويتها كالذي بربى أسداً يعرف أنه سيفترسه في النهاية، ولكنه يضطر مع هذا إلى تربيته لأنه يتقي به نمرا فاغرا فاه!.

لقد كان الخلفاء هم الذين هزموا ألمانيا في الحرب العظمى الأولى. وكانوا هم الذين ساعدوا على النهوض، وساعدوا معها إيطاليا، وساعدوا معها اليابان أيضاً. . لم يكن شيء من هذا حبا في عيون أحد من هؤلاء. . ولكنها كانت ضرورات المصلحة العاجلة لوقف التيار الشيوعي في العالم.

ثم حطموا هذه الدول الثلاث في الحرب العظمى الثانية. وفي سبيل تحطيمها اضطروا اضطراراً لتقوية روسيا ومساعدتها على الصمود في وجه الغول الجرماني. . وهم على يقين أن عدوهم الأول هو روسيا. ولكنهم ما كادوا يملكون أن يفعلوا غير هذا. . ثم ها هم أولاء مرة أخرى. وبعد التجربة العالمية الأولى. يمدون أيدهم مرغمين لإنهاض ألمانيا واليابان. وهم على يقين أن الطاقة الكامنة في هذين الشعبين لن تتركهم في راحة، ولكنهم لا يملكون أن يفعلوا غير هذا. . إن خط سير الحياة ليس في يد أحد من البشر مهما تكن قوته. فالحياة تسير، وطبائع الأشياء تملى خط سيرها. والقوى الكامنة الناهضة لا سبيل للقضاء عليها. لأنها قوة من قوى الحياة، وقوة الحياة من الله. (والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

إن فكرة الكتلة الإسلامية تسير في طريقها. وإني لأكاد أراها رأى العين حقيقة واقعة. فليؤمن من شباب العالم الإسلامي بهذا. . والزمن كفيل باكتساح العقبات التي تبدو لهم ضخمة في الطريق.

ليؤمن من شباب العالم الإسلامي كله أن الاتجاه إلى راية الإسلام هو العمل الوحيد الذي يخلصهم من برائن الاستعمار، ويخلصهم من كيد الشيوعية التي لا تكاد تطيق مسلما يدب على الأرض.

فإذا آمن الشباب بهذه الفكرة اندفع يضغط على ساسة بلاده، الذين يسيرهم الاستعمار في ركابه، ويملى عليهم رغبته في التكتل الإسلامي. ولتكن كلمته الشباب دائماً: لا ارتباط بكتلة شرقية أو كتلة غريبة. فهذه الأرض أرضنا. ونحن نريد أن نقف تحت راية الإسلام وحدها، محايدين، نجاهد فقط من يعتدي علينا، ونمد بدينا حينئذ إلى الكتلة التي تنصرنا على المعتدين.

وواجب على كل شاب واع أن ينشر هذه الفكرة حيثما وجد. الطال في معهده، والموظف في مكتبه. والسياسي في محيطه. والعامل في مصنعه. والرجل في بيته وأولاده. . وعندما تصبح هذه الفكرة هي فكرة الشعب. فإن قوة على ظهر هذه الأرض لن تقف له في الطريق. .

لن أقول لهذا الشاب الأديب صاحب تلك الرسالة، ولا لأحد من إخوانه الذين كتبوا إلى كثيرا في موضوع شيئا عن الوسائل السياسية أو الدبلوماسية أو العسكرية. . إنني لا أومن بشيء من هذا كله. لست أومن إلا بالقلب الإنساني والعزيمة البشرية. إنني أومن بالعقيدة التي تزلزل الجبال، وتجرف الصخور. أو بالوعي الشعبي الذي يفرض إرادته. وأومن بالغد وإشارته. وأومن بعقرب الساعة الذي يشير إلى هذا الاتجاه وحده. وأومن قبل كل شيء بالله الذي نفخ الروح مرة أخرى في هذا العالم الإسلامي الذي حسب الكثيرون أنه قد مات. فإذا هو يتمطى وينبعث، ليؤدي دوره في الأرض من جديد.

سيد قطب