مجلة الرسالة/العدد 976/عمر الخيام بين الحقيقة والأسطورة
مجلة الرسالة/العدد 976/عمر الخيام بين الحقيقة والأسطورة
للأستاذ السيد أحمد مصطفى الخطيب
صحبتي للخيام طويلة مديدة، وقد عرفته ضمن من عرفتهم من الشعراء الفرس الكبار وأدبائهم العظام منذ عشرين سنة تقريباً. . . أما هو فقد كان على الدوام أقرب إلى نفسي وأحب إلى قلبي. . . أما هم فقد كانوا أشغل لفكري وأدنى إلى إثارة اهتمامي بشعرهم منه. والخيام عاطفة وروح، وللعاطفة والروح سحرهما الذي لا يدفع، وسلطانهما الذي لا يقهر على العواطف والأرواح، فلهذا إن كنت قد عرفت الفردوسي عن طريق الشاه نامة، والسعدي عن طريق كلستان وبوستان، وحافظاً الشيرازي عن طريق ديوانه الرائع، ومولانا جلال الدين الرومي عن طريق المثنوى، والنظامي عن طريق هفت بيكر، وعرفت غير هؤلاء أيضاً عن طريق بعض ما كتبوا أو بعض ما كتب عنهم، فقد عرفت الخيام عن طريق رباعياته نفسها ثم عن طريق وديع البستاني، وحسين دانش، وعبد الله جودت، وحسين رفعت، ومحمد السباعي، وأحمد حامد الصراف، وأحمد الصافي النجفي، والزهاوي، وفيتز جرالد وغير فيتز جرالد من الغربيين، وأخيراً الفيلسوف رضا توفيق.
لهذا، عندما استقر رأيي على إعداد هذه الكلمة تملكتني الحيرة في بادئ الأمر أي الجوانب أفصح عنها؟ وأي النواحي أهملها؟ وكل جانب من جوانب حياة الخيام لذيذ شائق، وكل ناحية من نواحي أدبه الرفيع فاتنة مغرية، تستمرئها النفوس وتشتاقها الأرواح، حتى انتهيت بعد لأي إلى أن يقتصر كلامي على ناحية واحدة فقط من حياته، وهي ناحية عدد من الأساطير والخرافات التي تحيط بسيرة هذا الشاعر الإنساني العظيم. . .
الأسطورة الأولى
أعتقد أنه ليس بين الذين لفتت مكانة الخيام العلمية أنظارهم، أو أثارت رباعياته اهتمامهم؛ من لم يسمع شيئاً قليلا أو كثيرا عن تلك القصة الشائقة التي ذاعت وشاعت وتناقلها الألسن في كل مكان عن نشأة الخيام، وعن حياة تلمذته الأولى في نيسابور المدينة التي فتح فيها شاعرنا عينيه للحياة لأول مرة في هذا الوجود، وهي قصة شيقة لذيذة يغلب عليها عنصر الخيال الجامح، فيجعلها ضوء للروايات السينمائية التي تمثل أدوارها على الشاشة اليوم
نحن في مدرسة نيسابور الشهيرة. . . الزمن القرن الخامس الهجري؛. . نستمع إلى العلامة الجليل الأستاذ الإمام الشيخ موفق النيسابورى رحمة الله عليه وهو يلقي درسه على طلابه الذين أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، وهناك في ركن قصي من الأركان جلس ثلاثة من هؤلاء التلاميذ واتجهوا بكليتهم نحو أستاذهم الأكبر، يشع في عيونهم بريق الذكاء الحاد، وتبدو على سيماهم علائم الجد والعزم، هؤلاء هم الأصدقاء الثلاثة الأوفياء: عمر الخيام، نظام الملك، حسن الصباح زعيم الحشاشين فيما بعد. . .
قال حسن الصباح ذات يوم لصديقيه إنه لأمر مستحيل أن نخيب نحن الثلاثة تلاميذه الإمام المبارك في الحياة، قد يلاحق أحدنا، أو حتى كلينا الإخفاق، أما أن يلاحقنا هو كلنا. . فلا! فلنعاهد أنفسنا منذ الآن أمام الله على أن يهرع أي منا لنجدة زميليه إن قدر له الفوز ولم يكتب لهم النجاح فيوافقه الآخران على رأيه فتوقع بذلك الوثيقة التاريخية بين الثلاثة جميعاً.
تدور عجلة الزمان، وإذا بنظام الملك وزير لألب أرسلان السلجوقي، ورجل الدولة الأوحد لابنه ملك شاه من بعده، ثم إذا به أيضاً لا ينسى ما قطعه على نفسه من وعد في صباه فيبعث في طلب كل من حسن الصباح والخيام ويعرض عليهما أن يشاركاه فيما غاز به من نعمة وحصل عليه من سلطان. أما الخيام فيختار إيراداً سنوياً ثابتاً والتدريس في مدرسة نيسابور والانصراف إلى رياضياته وفلكياته، أما حسن الصباح فيؤثر منصباً مهماً في البلاط.
وهكذا تستمر القصة حتى تبلغ نهايتها المحتومة، بمؤامرة دنيئة ينسج خيوطها حسن الماكر لاغتيال صديقه الوفي الكريم نظام الملك ظلما وعدوانا لكي يستخلفه في جاهه وسلطانه، فيفتضح أمرها في اللحظة الأخيرة، ويضطر حسن الصباح إلى الهرب واللجوء إلى جبل قلعة الموت، وهنالك يؤسس لأول مرة في التاريخ المذهب الإسماعيلي المعروف حتى اليوم، وينظم فرقة الفدائيين الذين يبعث بهم من هناك لاغتيال عظماء الإسلام آنذاك. ويشاء الدر الساخر أن يكون بين هؤلاء الذين تمتد إليهم يد الغدر والخيانة نظام الملك نفسه! ذلك الشيخ الوقور والداهية العظيم الذي يذهب ضحية باردة لخنجر مسموم يغمده في صدره أحد هؤلاء المجانين وهو في طريقه إلى نهاوند بمعية الملك ملك شاه.
هذه هي الأسطورة الأولى الذائعة الشائعة المستقرة في الأذهان عن منشأ الخيام وعن أيام حداثته، وهي قصة أثبت المستشرقون استنادا إلى تحقيقاتهم الدقيقة التي لا مجال لذكرها هنا إثباتا قاطعا أنها مختلفة من أساسها؛ ملفقة في جملتها وتفصيلها، ولا ظل لها من الحقيقة أبداً، وأن مخترعها مؤرخ يدعى ميرخوند من مؤرخي القرن التاسع الهجري
الأسطورة الثانية
يوم مشرق جميل، جو عابق بأنفاس الرياحين والورود؛ هدوء شامل وصمت مطبق لا يتخللهما سوى خرير الماء وتغريد البلابل. . والخيام قرير العين جذلان، جالس في دعة وسكون وأمامه ديوان شعر مفتوح وبجانبه زجاجة وكؤوس تأتلق بين جنباتها الأضواء وتتراقص على حواشيها الظلال
ومقامي غصن مظل بقفر
ورغيفان مع زجاجة خمر
كل زادي والأهل ديوان شعر
وحبيب يهواه قلبي المعنى
بشجي يذيبني يتغنى
هكذا أسكن القفار نعيما
وأرى هذه القصور خرابا. . .
(السباعية للبستاني)
وعلى حين فجأة تنكشف الطبيعة الوادعة الهانئة عن ثورة جامحة، وغضب مكتوم، فتزمجر الرعود، وتنقض الصواعق، وتكتسح الرياح الهوج كل شيء أمامها فتتحطم الزجاجة وتتناثر قطع الكؤوس هنا وهناك وتصبغ الخمرة وجه الأديم بلونها اللازوردي، فتثور نفس الخيام، وتهيجه النازلة، ويلهبه اليأس فينشد وهو في شبه غيبوبة من أثر الصدمة الغير المرتقبة، ويقول:
ابرين مي مراشكستي ربي ... كسرت زجاجة خمري يا ربي
برمن ورعيش رايبستي ربي ... أوصدت في وجهي باب الطرب يا ربي
برخاك فكندى من كلكون مرا ... سكبت خمرتي الوردية على الثرى خاكه م بدهن مكر تومستى ربي ... التراب بفمي! فهل أنت سكران يا ربي
وهنا تحدث المعجزة التي لم يكن يتوقعها أحد حتى الشاعر نفسه، فيحمل غضب الباري سبحانه وتعالى وتنصب نقمته على هذا العبد المارق الملحد فيسود وجهه بغتة وكأنه فحمة الليل، وتتشنج عضلاته وتتقلص أطرافه حتى ليكاد الموت يخطفه من بين يدي الحياة.
فيدرك الشاعر عندئذ الإثم الكبير الذي ارتكبه فيسرع إلى التوبة ويعجل بالاستغفار فينشد ويقول:
ناكرده كناه درجهان كيست بكو ... بي جرم كناه جون توان زيست بكو
من يد كنم توبد مكافآت كتى ... بس فرق ميان من توجيست بكو
- الترجمة للزهاوي -
من الذي لم يجن قط ذنبا ... كيف عاش الذي زكا وتوقى
إن تكافئ سوئي بسوء فقل لي ... أي فرق بيني وبينك يبقى
وعلى أثر ذلك تدركه العناية الإلهية، وتقبل توبته، فيعود إلى وجهه إشراقه السابق والى سائر أعضائه حالتها الطبيعية، فسيجد الخيام آنذاك سجدة الشكر والامتنان.
هذه ثانية الأساطير التي تنسب إلى الخيام وعمر بن إبراهيم منها يراء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وإذا كانت التحقيقات العلمية لم تكشف لنا بعد عن اسم المختلق الكذاب واضع هذه القرية الشائنة، إلا أننا لا نحتاج كما أعتقد إلى كبير جهد لندرك أن الأفاك الأشر كان ولا بد على حظ موفور من الوقاحة وسعة الخيال
البقية في العدد القادم
السيد أحمد مصطفى الخطيب
مفتش معارف أربل بالعراق