مجلة الرسالة/العدد 977/عمر الخيام بين الحقيقة والأسطورة
مجلة الرسالة/العدد 977/عمر الخيام بين الحقيقة والأسطورة
للأستاذ السيد احمد مصطفى الخطيب
(بيقة ما نشر في العدد الماضي)
الأسطورة الثالثة
لو قال لنا أحد الذين يؤثرون جانب الجدل العقيم واللجاجة الممقوتة، ما بالكم قد ملأتم الدنيا ضجيجاً بتحدثكم عن الخيام ورباعياته؛ أنى لأتحداكم جميعاً. هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. إنني أنكر أن تكون للخيام رباعية واحدة لا رباعيات تبلغ الألف والمائتين عدداً، وارى كل ما تدعونه في هذا الخصوص ليس إلا محض وهم باطل لا يجاوز نطاق الحدس والتخمين، فالخيام لم يترك وراءه ديواناً بخط يده، ولم يشر إلى شعره في تآليفه العديدة، ولم يمل على أحد من تلامذته ما يسمى اليوم بالرباعيات، كما إن (جهار مقالة) اقدم سفر تاريخيي عثر عليه لمصنفه (نظامي عروضي سمر قندي) تلميذ الخيام المخلص لم يذكر ولا كلمة واحدة عن رباعيات أستاذه، برغم إنه زار قبره بعد وفاته ببضع سنوات فقط، وذكر أموراً في مؤلفه أقل أهمية وأضل شاناً بكثير من الرباعيات. .
إن جميع ما يدعى ويقال بهذا الصدد إن هو إلا أسطورة جيله وتفكير شعره بديع نسجها الوهم وزينها الخيال، فمنزلتها منزلة غيرها من الأساطير المصطنعة التي لم تقم لها قائمة إلا بعد إن مرت على موت الشاعر عدة قرون.
أجل! ماذا يكون جوابنا أن جابهنا هذا الجلي اللجوج يمثل هذا المنطق الساخر العابث، ثم ألح علينا في عناد وإصرار أن تثبت له إثباتاً لا يتطرق إليه أي شك ان للخيام رباعيات حقيقية ترضى عن نسبتها إليه أساليب التحقيق العلمي الدقيق في عصرنا الحديث هذا. .
في الحق إننا عاجزون تمام العجز عن أن نكيل لهذا المكابر الخبيث الصاع صاعين وعن توفيته حقه الكيل كيلين، وان نسخر منه بنفس الطريقة التي سخر بها هو منا، وان كنا نملك في الوقت نفسه ادله وبراهين لا تقبل الدحض، ونستطيع بعرضنا إياها عليه أن تجعله يخفف من غلوائه ويقلل من خيلائه ويرتد شيئاً فشيئاً إلى هدوء العقل واتزانه. .
فالثابت المؤكد حتى الآن - كما يدعي صاحبنا الجدلي - إن الخيام أهمل في حياته يكتب سيرة نفسه بقلمه، أو إنه كتبها ولم تصل إلينا لامتداد يد الضياع اليها، أو إنها لم تضع ولكنها في جهة مجهولة لم تتناولها يد المحققين بعد، غير إنه ثابت ثبوتاً قاطعاً أيضا إن الخيام لم يكتب في الفارسية من الشعر سوى الرباعيات وحدها؛ أما هل جمع كل ما كتبه من هذه الرباعيات وضمنها بين دفتي كتاب خاص بنفسه، أو أملاها على أحد من طلابه؛ فذلك ما نحن منه في ظلام دامس حتى الآن، وأظن إن الأمر سيبقى كذلك إلى الأبد إلا إذا عثر على دليل مادي يقلب المسألة رأساً على عقب ويغير مجرى البحث تغييراً تاماً في يوم من الأيام. .
إن اقدم نسخة للرباعيات بين أيدينا اليوم وهي الموسومة بـ (رسالة الرباعيات) يرجع تاريخ كتابها إلى نحو ثلاثمائة عام تقريباً بعد موت الشاعر، وقد عثر عليها في مكتبة بولدين باكسفورد وتسمى بنسخة السر أوسلي، وهي نسخة منقولة عن غيرها من النسخ وليست أصلاً. أما من هو النساخ الذي نقلها؟ وعن آية نسخة نقلها؟ وهل أن الرباعيات الواردة فيها والبالغ عددها 158 رباعية؛ كلها للخيام ذاته أم أن هناك بنها الدخيلات؟ والمنحولات؟ ثم كم عدد أولئك في حالة افتراضنا اندساسها بين الرباعيات الأصيلة. . كل هذه أسئلة وعلامات تدور في أذهان الباحثين والمدققين منذ أن عرف الغرب شاعر الشرق ولكن بدون جدوى، وبغير أن يعثر لها على جواب شاف يقطع الشك باليقين والحيرة بالاطمئنان. .
على إننا رغم كل هذا يجب أن نعلم في الوقت نفسه إن المعلومات السلبية الآنفة الذكر تمليها علينا طبيعة المنطق المجرد فحسب، وان ثمة أموراً كثيرة نعلمها عن حياة هذا الشاعر وشخصيته وأخلاقه وبيئته وآثاره ومؤلفاته، كما أن هناك مؤلفين معروفين، وعلماء مشهورين، وفقهاء ومتصوفين ذائعي الصيت مرموقي المقام تنالوا عدد غير قليل من رباعيات الخيام في كتبهم ومصنفاتهم وهم معاصروه بالتعليقات المتنوعة، وناقشوها مناقشة فيها اللين والهوادة تارة، والعنف والقسوة تارة أخرى، فإذا جاز لنا أن نشكك في صحة إسناد كل الرباعيات المتداولة إلى الخيام فانه لا يجوز لنا إطلاقا أن نتشكك في صحة نسبة بعضها إليه على الأقل. . ذلك البعض الذي يمثل آراء وأخلاق وشخصية وظروف بيئة الخيام التي نعرفه والتي يمكن اعتبارها في عداد الحقائق التاريخية التي لا تقبل أي جدل أو نقاش.
أذن يظهر أن الألف والمائتين رباعية التي تطارد الخيام اليوم هنا وهناك في الشرق والغرب وتثير حوله طوفاناً من الضجيج والصخب، وتجمع له الأنصار والاصدقاء، وتؤلب عليه الأعداء والناقمين؛ ليست سوى أسطورة ضخمة كغيرها من الاساطير، تقابلها حقيقة متواضعة تتمثل في عدد متواضع من الرباعيات معترف بها اعترافاً كاملاً ويبلغ الأربع والثمانين رباعية فقط، وذلك استناداً إلى اصدق واحدث البحوث العلمية في هذا الشأن حتى يومنا هذا. .
الأسطورة الرابعة
لم نسمع أن شاعراً أوذي في سمعته بعد موته كما أوذي الخيام أو أصابه من الاتهامات الكاذبة والافتراءات المدبرة ما أصاب هذا العبقري العظيم والأديب الفحل والنابغة الأوحد.
ولو سألنا أي واحد من هؤلاء الذين سمعوا عن الخيام ولم يحققوا، وقرءوا عنه ولم يتتبعوا، لن يصف لنا شاعر الرباعيات كما يتصوره أو كما يصوره له الوهم بالاحرى، لما تعدى تطاق وصفه إياه عن أن الخيام كان شاعراً عابثاً لاهياً، خليعاً فاجراً، يقضي وقته متنقلاً من حانة إلى أخرى، نديمه الكأس ليل نهار، لا يفيق من سكرة إلا ليستسلم إلى أخرى؛ ثم على ذلك هو ملحد جاحد أيعلن حرباً شعواء على الأديان كلها، وهاجم المتعبدين والزهاد، ورسالته في الحياة: لا نفارق الخمرة حتى نموت.
هذه هي الصورة الشوهاء المزيفة التي يتخيلها عدد كبير من الناس ويرسمونها على أنها صورة حقيقة للخيام.
لقد كان الخيام قبل كل شيء فيلسوفاً نزيهاً وأديباً عفيفاً، يزينه الوقار ويسم به جلال العلم على أقرانه من اهل زمانه. . وكان إلى ذلك ذكي الفؤاد متوقد القريحة، صاحب رأي؛ يجهر بالحق ويحارب الشعوذة أينما وجدت. . فلهذا جاهره بالخصومة فريق من دعاة الصوفية في زمانه، كانوا يتخذون الدين وسيلة لا غاية، فأطلقوا ألسنتهم عليه ودأبوا على نشر كل باطل عنه وإلصاق كل تهمة كاذبة به حتى لقد رموه بالكفر والإلحاد أيضاً، وكل ذلك كان يكشف عن ريائهم ونفاقهم، ويعان عن جهلهم وتعصبهم دون خوف ولا حذر.
قال عنه شمس الدين محمد بن محمود الشهرزوري في كتابه الموسوم ب (نزهة الأرواح وروضة الأرواح في تواريخ الحكماء المتقدمين والمتأخرين) الذي ألفه في القرن السادس الهجري ما يلي بحروفه:
(كان الخيام عالماً بالفقه واللغة والتواريخ. . دخل ذات يوم على الوزير عبد الرازق وكان عنده أمام القراء أبو الحسن الغزالي وكانا يتكلمان في اختلاف القراء في آية. . فقال الوزير: على الخبير سقطنا. ثم سأل الخيام فذكر اختلاف القراء وعلل كل واحد منها وذكر الشواذ وعللها وفضل وجهاً واحداً. فقال الغزالي: كثر الله أمثالك في العلماء فإني ما ظننت أن أحداً يحفظ ذلك من القراء فضلاً عن واحد من الحكماء.
ودخل عليه حجة الإسلام الغزالي يوماً وسأله مسألة فلكية فأطال عمر الخيام الإيضاح حتى أذن الظهر. . انتهى كلام الشهرزوري).
ومن بين مصنفات الخيام العديدة كتابه (رسالة في الجبر والمقالة) كتبها في اللغة العربية وترجمت إلى الفرنسية وطبعت في باريس 1851.
2 - كان الخيام ينزل في المرتبة الأولى من اهل زمانه، يتسابق إلى خطب وده الوزراء؛ وكان الملك سينجر يجلسه على العرش بجانبه توقيراً له، وكان متعبداً زاهداً منصرفاً إلى العلوم والتدريس، نافضاً يده من الأمور الدنيوية التي تتكالب عليها الأطماع وتصطرع دونها الأحقاد، وكان يلقب بحجة الحق الإمام عمر.
3 - لم يثبت إطلاقا وعلى أي وجه أن الخيام قد ذاق الخمرة طوال حياته ولو مرة واحدة.
4 - كان الخيام طبيباً بارعاً معروفاً له المحل الأول بين أطباء عصره المشهورين.
5 - كان مدرساً جليل القدر في نيسابور التي أنجبت عدداً كبيراً من عظماء الإسلام في العلم والأدب.
6 - كان يكتب رباعياته من حين إلى اخرفي مجالس سمره وحديثه بين خاصته، وكانت هذه الرباعيات تنتقل من يد إلى يد كباقة من الزهر تفوح بالعطر وتعبق بالشذا، فيدونها هذا وذاك من أصدقائه وتلامذته كتذكار أو كهدية نادرة من العالم الاكبر، في حواشي كتبهم وفي بطون كراريسهم.
7 - كان وصف الخمرة والإغراق في التغني بمزاياها (عادة) ذلك العصر بالنسبة للأدباء الفرس كما كان التغني ب (ليلى) و (ديار ليلى) التقليد العصري السائد في العهد الأموي بالنسبة للشعراء العرب.
وكفى الخيام دليلاً على علو منزلته وسامي مقامه، وجليل قدره هذه الأبيات التي وجهها إليه في مستهل إحدى رسائله الإمام أبو النصر ممد بن عبد الرحيم النسوي قاضي الديار الفارسية آنذاك وتلميذ الشيخ الرئيس أبى علي ابن سينا.
قال الإمام أبو نصر:
إن كنت ترعين يا ريح الصبا ذميي ... فأقرئ السلام على العلامة الخيمي
بوسي لديه تراب الأرض خاضعة ... خضوع من يجتدي جدوى من الحكم
فهو الحكيم الذي تسقى سحائبه ... ماء الحياة رفات الأعظم الرمم
هذا هو الخيام الحقيقي لا الأسطوري، الخيام المجرد عن تزاويق الباطل وبهارجه، العاري من ثوب البهتان وأصباغه.
نماذج من شعر الخيام
ليس شعر الخيام كله مقصوراً على الرباعيات وحدها، بل الثابت إنه كان يقرض الشعر في اللغة العربية أيضاً، وله في هذا المجال أبيات فريدة وصلت إلينا تدل على علو كتبه، وسعة إطلاعه ورسوخ قدمه في العربية وفنون بلاغتها، حتى ليستحق أن يعد بحق قرناً لأعظم الشعراء العرب في جميع العصور.
فلنستمع إليه الآن في هذه القطعة التي نظمها في الفخر على طريقة أبي العلا المعري في قصيدته المشهورة (ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل).
قال الخيام:
إذا قنعت نفسي بميسور بلغة ... يحصلها بالكد كفي وساعدي
أمنت تصاريف الحوادث كلها ... فكن يا زماني موعدي أو مواعدي
ولي فوق هام النيرين منازل ... وفوق مناط الفرقدين مصاعدي
أليس قضي الأفلاك في دورها بأن ... تعيد إلى نحس جميع المساعد
متى ما دنت دنياك كانت مصيبة ... فوا عجباً من ذا القريب المباعد
إذا كان محصول الحياة منية ... فسيان حالا كل ساع وقاعد
ويقول في قطعة أخرى: سبقت العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة وعلو همه
فلاح بحكمتي نور الهدى في ... ليال في الضلالة مدلهمه
يريد الجاحدون ليطفئوها ... ويأبى الله إلا أن يتمه
نكتفي بهذا القدر الآن من شعره العربي وننقل إلى رباعياته نفسها لنضع أمامك بعضاً منها تمثل الخيام أصدق تمثيل كما نعتقد في تفكيره وآرائه، وتعبر أدق تعبير عن نظراته التي كان ينظر بها إلى الحياة.
فها هو ذا الآن يتحسر على فوات الشباب وذهاب ربيع العمر في رباعيته هي الدرة اللامعة والجوهرة الثمينة في تاج الرباعيات الخيامية:
أفسوس كه نامه: جواني طي شد ... وبن تازة بهار شادماني طي شد
أن مرغ طرب كه نام أو بود شباب ... فرياد ندانم كه كي أمد كي شد
الترجمة للمازني عن الإنكليزية:
طوت يد الأقدار سفر الشباب ... وصوحت تلك الغصون الرطاب
وقد شدا طير الصبا وأختفي ... متى أتى؟ يا لهفي! أين غاب؟
وهنا نراه يطالب الباري وتعالى بحقه في دخول الجنة:
من بنده عاصم رضاي تو كجاست ... قاريك دلم نور صفاي تو كجاست
مارا توبهشت أكرا بطاءت بخشي ... آن بيع بود لطف عطاي تو كجاست
الترجمة للزهاوي عن الفارسية:
أنا عاص فأين منك الرضاء ... أنا داج فأين منك الضياء
إنما وقفك الجنان على الطاعة ... بيع فأين منك العطاء
وهنا يقف حائراً مشدوهاً أمام لغز الحياة وأسرارها السرمدية:
قومي متفكر ند در مذهب دين ... جمعي متحيرند درشك يقين
ناكآه منادى درآيد زكمين ... كي بيخبرمه داه نه آنت نه أين
الترجمة للزهاوي:
فئة في اليقين والشك هاموا ... وفريق بالدين راموا لواذاً
وإذا صائح يقول مشيراً ... ليس ذاكم هو الطريق ولاذا الترجمة للبستاني عن الفرنسية والإنكليزية:
وهنا تقلقه فكرة العذاب في يوم القيامة فيقول:
حين يا رب كنت تجبل طين ... عالماً كنت أنت علم اليقين
كل امرئ وكنه سري الدفين
كل ما جئته فمنك بحكم ... منك روحي ومنك لحمي وعظمي
فلماذا يوم القيامة في النار ... أعاني الآلام والأهوال
وهنا تتمثل ثورته على الظلم واحتقاره للمادة:
وأجبني ووافني لاعتزال ... وابتعاد عن محض قيل وقال
رب قفر من المظالم خال ... ليس فيه عبد ولا سلطان
هو عندي المكان نعم المكان
رب كهف تأويه نفس أبي ... فاق قصراً طالت ذراه السحابا
وهنا: نحن من التراب والى التراب:
وتغور الأزهار يا ذا الحبيب ... من ثغور سناؤها محجوب
لك قلب وفي الأديم قلوب
ضجة اللطف فوق هذا النبات ... فهو نام من أكبد النائمات
في مهود فيها السبات عميق ... لا مفيق منه بها أهابا
وهنا يخاطب جاره الخزاف:
أمس أبصرت جارنا الخزافا ... يجبل الطين كيف شاء أعتسافا
ويكيل المقدار منه جزافا
وكأني أسمعت بين يديه ... صوت ذات مظلومة تشتكيه
آه رفقا فأنت طين وماء ... أيها المرء لا تسمني العذابا
وهنا يودع الحياة بقلب دام ونفس تذوب حسرات:
يا نديمي قد آن موت النديم
فاذكرني ذكرى الصديق القديم
وابكيني بدمع بنت الكروم وبكأس الرحيق قف فوق قبري ... وأسكب الخمر فوق عشب وزهر
فرقاني إذ ذاك زهر وعشب ... وأنا الشيء كان كوناً وحالا
وأخيراً تراه لربه ويستغفر ويقول:
رب رحماك ما كسبت ثوابا ... لا ولا كنت مستحقاً عقابا
إنما قلت ما رأيت صوابا ... لم أعد في ديني الربابا
وكفاني التوحيد ذخراً فإني ... لم أعدد في ديني الأرباب
السيد أحمد مصطفى الخطيب