مجلة الرسالة/العدد 977/واحة سيوة

مجلة الرسالة/العدد 977/واحة سيوة

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 03 - 1952



للأستاذ صبري حسن علوان

كانت الساعة السادسة صباحاً حين أخذنا عدتنا في (مرسى مطروح) مولين وجوهنا شطر سيوة؛ تلك الجنة المخصبة وسط الصحراء المجدبة، وكلنا أمل أن ندركها قبل أن نبيت ليلة أو أكثر في جوف الصحراء الغربية. ذلك إن الرمال قد جادها الغيث الهتون وقد احتفلت نواحيه، وأسفت أعجازه وهواديه، فشربت الصحراء بعد عطش، وامتلأت الآبار بعد خواء، وكونت التلاع الحادرة بحيرات كبيرة في المجتمع المنبسط الذي يصلح كطريق للسيارات!

وسرنا باسم الله، ونحن على وجل من أن يغوص أحد إطارات السيارة في الرمال الدقيقة المشبعة بماء المطر فتضطرنا الأحوال أن نبيت في العراء كما فعل قوم من قبلنا ظلوا في الطريق سبع عشرة ساعة. والمسافة بين (مرسى مطروح) وبين (واحة سيوة) ثلاثمائة كيلو متراً، وما يتبقى فليس له معالم متميزة فهو يختلط إلا على السائق الماهر الذي جاب الطريق اكثر من مرة، هذا عمداً يلاقيه المسافر من صعوبات جمة لكثرة المرتفعات والمنخفضات في عرض الصحراء التي تجعل المسافر بالسيارة لا يستقر على حال، مرة إلى أعلى وثانية يقع على جنبه الأيمن وأخرى يميل إلى يساره، وهو في ذلك يجد من الرهق مالا يحسه إلا المسافرون. إن السيارة تقطع المسافة الممهدة في ساعتين وتقطع الباقي في عشر ساعات. هنا يطيب أن نسأل لماذا لا تنشط الحكومة في تمهيد هذا الطريق الهام فتتمه في سنة أو سنتين أو ثلاث يدلاً من أن تمهد كل عام ثمانية كيلو مترات فقط، أي إنها تريد إن تتمه بعد اكثر من عشرين عاماً. . إن شاء الله!

إن واحة سيوة جزء من مصر؛ بل هي من الأجزاء المهمة من مصر كما سنرى، أم تريد اهل هذه الواحة أن يظلوا على اعتقادهم إنهم (سيوبون) قبل أن يكونوا (مصريين). أن رصف الطريق إلى سيوة هو من أول الواجبات التي يجب على الحكومة والتي يتحتم عليها الإسراع في أدائها.

وبعد ثلاثة عشر ساعة لاقينا فيها من المصاعب ما لاقينا وصلنا إلى سيوة، وبتنا ليلتنا أصبحنا فوجدناها جنة خضراء يرتفع في جوها النخيل نشوان، ويسكن في جنباته الزيتون، لا يشربان من ماء النيل وإنما من ماء العيون. وبالواحة ما يقرب من مائة عين، كل عين تسيل في قنوات يخضر من مائها الحجر، ويينع الزهر ويستوي الثمر؛ ماء عذب صاف لا تخرجه آلة ولا يجود به سحاب وإنما ينبعث من جوف الحصى. . ينضح وجه الصحراء العبوس فيبتسم، وجبهتها المتقطبة فتنبسط، وطبيعتها القاسية فتلين. . يرزقها الظل وهي بنت الهجير، ويمنحها النسيم وهي أخت العواصف، ويسمها الجمال وهي من سماتها التجهم.

وتنخفض سيوة عن مستوى سطح البحر بستة عشر متراً، ويقترب منسوب الماء من سطح الأرض؛ فقد حفرت حفرة صغيرة عمقها خمسون سنتيمتراً في الجهة البحرية من الاستراحة الحكومية فتجمع الماء في قاع الحفرة، على حين ظهر الماء في ارض المطار الحربي الجديد على بعد اكثر من مترين. ويمكن الاستفادة بقرب مستوى منسوب الماء في زراعة بعض الفواكه مثل البطيخ حيث لا يحتاج الأمر إلى كثير جهد. ويغطي التربة في كثير من الأماكن طبقة قشرية ترتفع فيها نسبة الأملاح مما قد يحتاج إلى بعض الجهد في استصلاحها، إلا لن وجود العيون ومائها المنساب ييسران إلى حد كبير هذه المهمة.

وهناك عين جديدة يوجد حولها اكثر من مائتي فدان لا ينقصها إلا اليد العاملة والبذرة التي توضع في الأرض، ولكنك لو سألت، أتاك الخبر المحزن: كسل الأهالي وقلة الأيدي العاملة. إن الأهالي هناك تراهم بنية لا تستقيم. . ويداً لا تشتد، وهمة لا تطمح، فهم يعتمدون على ما يدره النخيل والزيتون. . أما النخيل فيبيعون ثمره على أنواعه ويصنعون من بعضه (العجوة). وأما الزيتون فهم يخللونه أو يعصرونه في معمل الوزارة الموجود هناك ليستخرجوا منه زيت الزيتون، أما بقية العام فهم يقعدون. . اللهم إلا قلة قليلة تزرع الشعير وهو يجود. وانك لتلاحظ الكسل من غير صعوبة لو انك طفت مرة واحدة بالكميات الضخمة من النخيل في الحدائق المختلفة، فلا نجد نخلة مشذبة منظمة، بل يتكاثف سعفها من عام إلى عام، ويحيط بها سنة بعد سنة، وهم يحجمون عن ان ينموا النجل بحجة تستند إلى خرافة.

ما السبب إذن في ذلك الكسل المخيم؟ إن لأسبابه جذوراً عميقة تمتد إلى اكثر من التواكل. يقولون إن الشذوذ الجنسي في الرجال شائع إلى درجة كبيرة جداً. . . ونحن لا يهمنا أن نصدق ما يقولون أو نكذبه. . وإن كان ما يقولون ينافي الفطرة، وخاصة وإنه - كما يزعمون اصبح من (المألوفات) فانه أيضا لا يهمنا أن نصدق هذا الزعم أو نكذبه، إنما الذي يهمنا هو هاتان الظاهرتان المخيفتان: انقراض النسل في خطوات ليست بالبطيئة، وانتشار الأمراض السرية إلى حوالي سبعين في المائة كما صرح بذلك بعض المسؤولين. إن عدد السكان كان منذ عشرين عاماً خمسة آلاف نسمةوهو اليوم دون ذلك بكثير! قد يكون التزاوج المحلي هو السبب، وقد يكون ما (يقولون) وما (يزعمون) هو السبب. . وقد يكون انتشار الأمراض السرية هو السبب، وقد يكون - أخيراً - هجرة الأهالي - على قلتها - هي السبب، إلا إن الذي لا شك فيه إن عدد السكان في تناقص مستمر. . وهذا شيء كفيل بان يتداركه المسؤولون، أن يتتبعوا الوشائج، وان يتعلقوا بالأسباب، وأن يعرفوا مركز الدائرة ثم أن يطبوا للداء! وعندي رأي لا أشك في فائدته: لماذا لا تعمل الحكومة - أياً كانت هذه الحكومة - على ترحيل عدد كبير من المعدمين والعاطلين إلى هذه الواحة، وهي لن تمدهم إلا بالضئيل من المعونة، حتى تندى الكف الجافة، وتشتغل اليد العاطلة، ولعل أن يكون في نشاط الوافدين إذكاء لهمة الأهالي القاعدين. وانك لتعجب إذا علمت أن المستشفى الذي يريد أن يعالج قوماً نسبة المرض بهم ما رأيت ليس به دواء ولا طبيب! ذلك إن أنوار القاهرة تغري. . وتغني. . وان الحكومة المصرية لم تستطع إلى الآن أن تجند الأطباء - وهم أساة البشرية - تجنيداً دورياً في الممتلكات المصرية التي لها في عنق مصر حق الرعاية. إنه يجب على كل طبيب موظف بحكومة أن يقضي عاماً أو نصف عام في الواحات وما شابهها حتى لا يحرم الناس اليد التي تأسو جراح المصابين.

ورسالة التعليم من أهم ما يرتقي بهذه الواحة الجميلة البائسة. إن هناك مدرسة ابتدائية واحدة بها ثلاثة فصول وثلاثة مدرسين، والصعوبة التي تواجه التعليم هناك هي اللغة، إذ إن للأهالي لغة محلية خاصة غريبة لا تتصل بالعربية من قريب أو بعيد، وهناك مدرسان خاصان بالمدرسة الأولية من أهالي الواحة ويعرفان العربية يتوليان هذه المهمة. . وهي جليلة، إلا انهما يشكوان من معاملة الوزارة لهما لأنهما ليسا من حاملي (الشهادات). . فتعطي أحدهما منذ سبعة عشر عاماً ثلاثة جنيهات في الشهر! ما هكذا يكون التعليم ولا تشجيعه! والذي لاحظته عندما زرت المدرسة هو فصاحة اللسان العربي بعدما يتعلمونه.

ولكسل الأهالي ولعدم طموحهم، تقل الجرائم، وان طائرة خاصة تطير بالقاضي مرة كل شهر أو شهرين ليجلس في منصة القضاء ساعة أو ساعتين يفصل فيها بين الناس في قضايا معظمها جنح وغرامات مالية ضئيلة، وعلى ما يكلف القاضي الحكومة من الناحية المالية فإن هذه الزيارات المتباعدة قد تقلل من هيبة المفصل القضائي في نفوس الأهلين. أحد أمرين: أما إن يعين وكيل للنيابة في سيوة يشعر الناس بهيبة القضاء، وأما أن يترك تصريف هذه الجنح والغرامات إلى مأمور القسم وهو رجل عسكري من رجال الجيش، يتصرف فيها محلياً حتى يشعر الناس بسطوة القانون.

ولسيوة، فضلاً عن الناحية الاقتصادية التي يجب أن تستغل وتستثمر، والناحية الاجتماعية التي يجب أن يهتم بها وتستصلح، ناحية ثالثة لا تقل أهمية عن الناحيتين السابقتين: تلك هي الناحية (الاستراتيجية). . فهي بمائها العذب وتمرها الوافر تعد مركزاً عسكرياً تموينياً هاماً للجيوش مدافعة كانت أو مهاجمة، أن قربها من الحدود المصرية الغربية يحتم على المسؤولين أما أن يدربوا رجالها تدريباً عسكرياً حياً، أن يزيدوا حاميتها زيادة تليق بموقعها الهام لا أن تظل على ما هي عليه: ستة عشر جندياً ورئيسهم. ولن أكون كناقل التمر إلى هجر، فإنما يحدثك عن استراتيجيتها رجل عسكري له في الجهاد سابقات، ذلكم هو اللواء محمد صالح حرب باشا، فقد زرنا معه منطقة قريبة من سيوة اسمها (جربه) وقد استحضر الرجل العسكري ذكريات عزيزة كريمة عن المناوشات والمعارك الحربية التي قام بها الثوار الوطنيون في سنة 1914 وكان معه في ثورة الحرية السيد الشريف السنوسي (صاحب الجلالة ملك ليبيا الآن) وكيف إنه لما نفذ ماؤه وزادهم وقلة ناقلاتهم وركائبهم لم ينقذهم إلا الجمال والبلح والماء من واحة سيوة فانتصروا على الإنكليز يومها انتصاراً ستراتيجياً.

وأضننا لا ننسى إنها كانت هدفاً للألمان والطليان في الحرب الأخيرة أثناء زحفهم في الصحراء الغربية. نعم! إن الصحراء الغربية بجفافها واتساعها تعتبر حاجزاً طبيعياً ضد إغارة المغيرين على الوطن العزيز، ولكن هذا لا يكفي مطلقاً فانه يجب أن تحصن حدودنا الغربية تحصيناً كاملاً قوياً، وخاصة وان عدونا يعسكر في (كابتزو) بالقرب من حدودنا في دولة ليبيا الجديدة من هذه تتضح أهمية (واحة سيوة) كمنطقة هامة يحب ألا تنسى أو تهمل، وانه لو صحت العزائم لأمكن أن نستثمر الكثير وان نستصلح الكثير ولعلني أكون قد وفقت ان انقل ما إثارته في نفسي زيارة هذه الواحة التي لاح لي في صفحة جمالها إثارات من الأسى، وفي صفاء سماءها ألوان من السحاب. . وفي عيونها الجميلة، فنون من العتاب!

صبري حسن علوان