مجلة الرسالة/العدد 977/مع أبن سينا في عيده الألفي

مجلة الرسالة/العدد 977/مع أبن سينا في عيده الألفي

مجلة الرسالة - العدد 977
مع أبن سينا في عيده الألفي
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 03 - 1952



ملوك وأمراء في حياة الرئيس أبن سينا

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

لعل أوثق المصادر عن ابن سينا وحياته هو الشيخ الرئيس ابن نفسه في الترجمة التي كتبها مجيباً بها عن سؤال أحد تلاميذه إياه. وقد اكمل هذه الترجمة تلميذه وتابعه وصاحبه منذ أن اتصل به في إقليم جورجان إلى حين وفاته. وهذه الترجمة محفوظة بالمتحف البريطاني في نسخة لا تزال خطية. وقد استفاد منها ابن أبي أصيبعة فنقلها في كتابه (عيون الأنباء) كما نقل أكثرها المؤرخ القفطي المصري في كتابه (أخبار العلماء بأخبار الحكماء).

ولقد عاش ابن سينا في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والثلث الأول من القرن الخامس، لأنه توفي في سنة 428هـ وهو عصر كثر فيه تقسيم الدولة العباسيةإلى دويلات صغيرة، فهناك الدولة البويهية التي وقع تحت سلطانها خلفاء بغداد، وخاصة الطائع والقادر والقائم الذين عاش ابن سينا في مدة خلافتهم. وهناك الدولة السامانية ببخارى في إقليم خراسان وما وراء النهر. وكان الأمير نوح بن منصور بن سامان هو الأمير الثامن من ملوك هذه الدولة، وهو الأمير الذي دعي ابن سينا لمداواته كما سيأتي بعد. وكان هناك دولة المأمونيين ولاة خوارزم الذين سميت دولتهم بالدولة الخوارز مشاهية. وهي دولة لا يعرف على وجه التحقيق اسم مؤسسها. ولكن اسمها يبدأ في الظهور منذ سنة 380هـ - أي بعد ميلاد ابن سينا بعشر سنين - وفي عهد أميرها الثاني على بن مأمون بن محمد بن خوارزم مشاه جاء بن سينا من بخاري إلى جرجانية وكان ملكها الأمير قابوس بن وشمكير الكاتب المترسل الأمير الذي قصده ابن سينا بعد خروجه من خراسان، ولكن اتفق في تلك الأثناء إن قبض على الأمير قابوس وحبس في بعض القلاع ومات هناك. وكان هناك من ملوك الديلم مجد الدولة بن فخر الدولة الديلمي. ومجد الدولة هذا هو أخو شمس الدولة من ملوك همذان. وكانت الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة الديلمي هي المرجع في تدبير الملك، وعن رأيها يصدر الأمراء والولاة في مباشرة الأعمال: وكان هناك دولة أصفهان وأميرها علاء الدولة بن كاكويه، وكان ملكاً على أصفهان وملحقاتها، وحكم من سنة 398هـ إلى سنة 433هـ. وكان أبوه خال الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة بن بوية الديلمي، ولهذا سمي (كاكويه) لأن الخال في لغة الديلم يسمى (كاكو) أو (كاكويه) وعلاء الدولة هذا هو الذي اتصل به الشيخ الرئيس ابن سينا، وصار من أصحاب الحظوة عنده، وبقي في خدمته إلى آخر عمره، ولكنه لم يكن له وزيراً في يوم من الأيام. أما الوزارة فكانت من ابن سينا لشمس الدولة أخي مجد الدولة؛ فقد وزر له مرتين ما بين سنتي 405 هـ، 412 هـ.

وكان هناك - فوق ذلك - في عصر ابن سينا الدولة الغزنوية التي كان أول ملوكها (سبكتكين) سنة366 هـ. كما كان محمود الغزنوي - المعروف بيمين الدولة محمود بن سبكتكين - هو ثلث ملوكها. وهذا الفاتح العظيم قد أثار حروباً كثيرة في حياته وفي عصر ابن سينا بالذات. فهو فوق غزوه لبلاد الهند وفتحه لها قد حارب دولة خوارزم وملك خوارزم سنة407 هـ. وهي دولة اتصل ابن سينا بها وبأميرها علي بن المأمون كما أسلفنا. ولم يكتف محمود الغزنوي بهذا، بل استغل ما بين الأمراء والملوك حوله من خصومات ونزاع، فدخل جميعهم لمصلحة دولته الناشئة القوية. كما فعل في الحرب التي قامت بين سلطان الدولة البويهي وأخيه أبي الفوارس بن بهاء الدولة. وكأن محمود الغزنوي كان يستعد لافتراس هذه الدويلات المتقطعة المتناحرة دولة بعد دولة. وكان همه بالذات متجهاً إلى إمارات بني بويه، ففي سنة 420 هـ اتجه إلى إقليم الري، وكان عليه الأمير مجد الدولة بن فخر الدولة بن بوية فملكه محمود الغزنوي. كما ملك إقليم الجبل. وفي سنة421 هـ وجه مسعود ابن يمين الدولة الغزنوي جيشاً إلى إقليم همذان. أما علاء الدولة بن كاكويه - وهو الأمير الذي اتصل به ابن سينا في أصفهان - فلم يسلم من غارات الدولة الغزنوية التي دخلت جيوشها (الري) فنهزم علاء الدولة وجرح في رأسه وكتفه وهرب تاركاً إقليمه في يد السلطان مسعود الغزنوي بن محمود الغزنوي.

على إن هذه لم تكن آخر حروب السلطان مسعود الغزنوي ابن محمود الغزنوي ضد علاء الدولة بن كاكويه: ففي سنة425 هـ - أي قبل وفاة ابن سينا بثلاث سنوات - اتفق علاء الدولة مع ابن فرهادبن مرداوج على قتال عسكر السلطان مسعود الغزنوي. ولكن الحظ خان علاء الدولة حتى بعد احتمائه بالجبال الشاهقة بين أصبهان وملكها. وفي هذه المعركة نهبت خزائن علاء الدولة بن كاكويه أخذت أمواله الطائلة. وفي هذه المعركة بالذات كان الشيخ الرئيس ابن سينا في خدمة علاء الدولة - ولم يكن وزيراً له - فأخذت كتب الشيخ وحملت إلى غزنة - عاصمة الدولة الغزنوية - وجعلت في خزائن كتبها إلى إن أحرقت على يد عساكر الحسين الغوري.

لقد عاش ابن سينا في هذا العصر الزاخر بأحداث كثيرة ورأى بعينيه كيف يتقاتل الاخوة وأبناء العم على الملك والسلطان، كما حدث بين أفراد أسرة بني بوية في الري وأصفهان وهمذان وجرجان؛ بل اتنصل من قرب الأمير شمس الدولة بن فخر الدولة أمير همذان، وشاهد الأحداث التي جرتله مع أقاربه بني بوية من ناحية، ومع ملك الغزنويين من ناحية أخرى. واتصل ابن سينا اكثر من ذلك بالأمير علاء الدولة بن كاكويه؛ وهو يتصل ببني بوية أيضا - لان والدة (دشمنزيار) هو خال الأميرة (سيدة) والدة مجد الدولة بن فخر الدولة البويهي وشاهد ابن سينا في أثناء اتصاله بابن كاكويه كثيراً من الأمور الجسام، فلم تسلم مدينة من مدن العراق وفارس من ثورة أو غارة للعيارين النهابين، بل لم تسلم أصبهان نفسها من حوادث النهب والسلب على أثر استيلاء جند السلطان مسعود الغزنوي عليها. وفي غمار هذه المعركة نهبت كتب الشيخ الرئيس ونقلت إلى غزنة، إلى أن كتب عليها أنت تحرق على يد محارب آخر من رجال الدولة الغورية.

وقد لقي ابن سينا من ملوك الدولة القائمة في عصره الأمير نوح بن منصور الساماني، والامير علي بن مأمون الخوارزمشاهي، والامير شمس الدولة بن فخر الدولة البويهي الديلمي، ووزر له مرتين، والأمير علاء الدولة بن كاكويه أمير اصبهان، واتصل به وألف كتباً كثيرة، ونكب معه في غارة السلطان مسعود الغزنوي على أصبهان. أما الأمير شمس المعالي قابوس بن شمكير ملك جرجان فيظهر من كلام الشيخ ابن سينا نفسه إنه لم يقابله، وانه كان يقصده، فاتفق القبض على قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته. وهو نص لا يدل على لقاء الشيخ الرئيس لهذا الملك الأديب العظيم. . . إلا إن العروضي السمرقندي صاحب كتاب (جهار مقالة) يذكر حادثة طريفة بارعة عن ابن سينا واستخباره أحوال بعض العاشقين واسم معشوقته ومحلتها من نبض المريض. ويروي العروضي السمرقندي ان ابن سينا دعي إلى مداواة هذا العاشق النضو بأمر من الملك قابوس الذي دعا الشيخ الرئيس إليه ليعالج مريضه القريب. وعلى الرغم من طرافة هذه الحكاية فإن الأستاذ محمد بن عبد الوهاب القزويني يستنبط إن ابن سينا لم يخدم الملك قابوس بن شمكير لأنه حبس قبل بلوغ ابن سينا جرجان.

محمد عبد الغني حسن