مجلة الرسالة/العدد 979/في تاريخ الأدب التركي

مجلة الرسالة/العدد 979/في تاريخ الأدب التركي

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 04 - 1952



للأستاذ عطا الله ترزي باشي المحامي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

قلنا في سياق الكلام عن التصوف أن القرن الثالث عشر الميلادي يعد مطلع نبوغ المتصوفة الأتراك، وذلك لسببين: أحدهما الرغبة الشديدة التي كان السلاجقة الأتراك يبدونها للمتصوفين ورجال الدين، وثانيهما هجرة المتصوفين إلى بلاد الأناضول، وذلك من جراء الغزوات التي كانت تشنها المغول في الشرق. فسكن هؤلاء في الأناضول، وشرعوا يؤسسون الطرائق الدينية. وكان مؤسس الطريقة يدعى (بير) أو الشيخ، وهو يعد زعيم طريقته وحامل لوائها. ويخلفه من بعده شيخ آخر بإجازته. وأما الذين كانوا يسلكون تلك الطرائق ويتبعون الشيوخ فكانوا يُدعون بـ (الدراويش). والمكان الذي فيه يقيمون الشعائر الدينية الطقوس العبادات المختلفة، يسمى (التكية)، وتوسعت هذه التكايا بمر الأيام وكر الأعوام فتأسست لها فروع واجتمع حولها أهل التصوف ينقرون الدفوف ويضربون الطبول وينفخون في المزمار. فيطربهم النغمات المنطلقة من قلوب ملؤها الحب والهوى، فيرقصون برقصات الدروشة المعروفة ويتغنون بالأشعار الصوفية التي ينظمها شعراؤهم البارزون. ولهذا كنا نرى الشعراء يتبارون في نظم المقطعات الشعرية التي تلائم هذه الحياة الموسيقية، تلك المنظومات الموزونة بأوزان تركية خاصة وإن كان قد شاع بينهم العروض

ويلاحظ في هذا العصر إن الأدب التركي تأثر كثيراً بالأدب الفارسي، كما أن هذا الأخير تأثر بالأول من بعض الوجوه، وذلك بسبب الاختلاط الذي حدث حينذاك بين العناصر الإسلامية المختلفة. فنرى كثيراً من شعراء الترك، وبالأخص المتصوفة منهم، ينظمون الشعر باللغة الفارسية أو أنهم يقتبسون القواعد الشعرية الفارسية وأساليبها، أو يستعملون ألفاظا فارسية في أشعارهم. ولا ننس بعض الشعراء ممن نسبوا لغتهم الأصلية أو هجروها في الأدب. وكذلك نجد شعراء كثيرين من الفرس برعوا في التفنن بالأدب التركي. . وهكذا فإن الحياة الاجتماعية في ذلك العصر كانت حياة متداخلة امتزجت بها الشعوب الشرقية تحت لواء الدين، فنتج من اتحاد هذه العناصر عنصر أدبي متماسك في الروح والجوهر، وإن كان متبايناً في اللون والمظهر.

دور الأدب التركي فيما قبل العهد العثماني:

ويشمل هذا الدور عهد الدولة الغزنوية (سنة 962م - 1183م) والدولة القاراخانية (932 - 1212م) والدولة السلجوقية (من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي) وعهد المغول (من القرن الثالث عشر إلى القرن الرابع عشر الميلادي)

وتميزت هذه العهود بتحسن الوضع الاجتماعي للأتراك تحسناً كبيراً؛ فبسطوا سلطانهم في داخل البلاد الإسلامية وكونوا لهم مركزاً ممتازاً بين المسلمين. وقد زاد اتصالهم بالعرب في هذه العهود وقويت العلائق بينهم وبين الفرس والهنود، فنشأت علاقات ثقافية وثيقة كان لها من الأثر ما كان

إن الآثار الأدبية التي انتشرت في هذه العهود، والتي انتقلت إلينا على علاتها إنما مصدرها عهد الدولة الغزنوية. وقد تأسست هذه الدولة في بلاد الأفغان ومناطق البنجاب من الهند. وتوسعت شيئاً فشيئاً حتى بلغت أوج عظمتها في عهد السلطان محمود الغزنوي الذي كان يعطف على الشعراء والأدباء ويشجع الثقافة في البلاد

فقد ظهر في هذا العهد كتاب وعلماء مشهورون، وكان جل اهتمامهم بالفارسية وظهر كذلك في هذا العصر بعض الآثار العربية. أما الآثار التركية التي عنى بها رجال الفكر التركي فهي قليلة جدا. ولقد انتقلت إلينا من عهد القاراخانيين مؤلفات أدبية قيمة، وكذلك آثار نفيسة من عهد السلاجقة، يستدل منها على أن الأدب التركي في هذا الدور كان في عنفوان تكامله

ومن الآثار التي يصادف تاريخها هذه العهود كتاب (قوراتغويليك) الذي كتبه الأديب التركي (يوسف خاص حاجب) في سنة 462 هـ بمدينة كاشغر، وقدمه إلى الأمير القاراخاني (تابغاج قره بغراخان) فنصبه هذا حاجباً خاصاً في قصره، ومن هنا سمي بهذا اللقب. ويتضمن كتابه أشعاراً أخلاقية نظمها لغة تركية خالصة يندر فيها العثور على ألفاظ أعجمية. فهي هذا الاعتبار أشعار لها قيمتها العظيمة في الأدب واللغة التركية من حيث الإفادة في استعمال كثير من الكلمات التركية المهجورة في الكتابة الحديثة

ويوجد من هذا الأثر ثلاث نسخ خطية، وجد إحداها المؤرخ المعروف (هامر) في استنبول، وكانت مكتوبة بالخط التركي القديم (الأويغوري) فأرسلها إلى مكتبة فيانة حيث حققها المستشرقون هناك ونشروها مراراً. ويرجع تاريخ هذه النسخة إلى سنة 1439 م. أما الثانية فوجدت في مدينة (فرغانة) وكانت مدونة بالحروف التركية العربية. أما النسخة الثالثة فإنها محفوظة في دار الكتب المصرية بالقاهرة

وكتاب (عيبة الحقائق) الذي ألفه الشاعر أحمد بن محمود في القرن الثالث عشر الميلادي باللهجة التركية الكاشغرية وهو مجموعة منظومات في النصح والإرشاد. وقد وجد النسخة الخطية الأولى منها الأستاذ نجيب بك عاصم مدرس اللغات الشرقية في دار الفنون باستنبول، في مكتبة أيا صوفيا. وكانت مكتوبة بالحروف التركية القديمة (الأويغورية) وبالحروف التركية العثمانية (العربية). فتمكن من تحقيقها ونشرها في سنة 1918

وكتاب (ديوان لغات الترك) وهو يعد بمثابة معجم، كتبه محمود حسين الكاشغري سنة 470 هـ ببغداد ليكون مرشدا للمتعلمين، وكان هذا المؤلف يحذق اللغة العربية بقدر ما يجيد لغته التركية، وقد سكن في بغداد مدة خمس سنوات (بين سنة 1072م وسنة 1077م) في الوقت الذي كانت البلاد العراقية تحت حكم السلاجقة، فأهدى كتابه هذا إلى الخليفة العباسي المقتدي بالله وهو أثر قيم يماثل دوائر المعارف في هذا العصر، فقد اشتمل على خمسمائة وسبعة آلاف مادة في اللغة والأدب والتاريخ والجغرافية، وهو يصور الحياة الاجتماعية والأدبية في ذلك العصر خير تصوير، وقد استفاد منه الأتراك في الوقت الحاضر استفادة كلية في استنباط الحقائق التاريخية والأدبية، واستخراج المواد اللغوية التي استعاضوا بها عن الألفاظ العربية والفارسية

وقد وجدت نسخته الخطية في استنبول فحققها المعلم رفعت الكليسي ونشرتها وزارة المعارف التركية في ثلاث مجدات، ثم قام بطبعها ثانية مؤتمر اللغة التركية بإشراف الأستاذ بسيم آتالاي

مشاهير الشعراء في هذا الدور:

وأول من يتبادر إلى الذهن الشاعر الصوفي الشهير (أحمد يسوي) مؤسس الطريقة اليسوية في تركستان، ولد في مدينة (سايرام) من بلاد تركستان، ودرس العلوم على الشيخ يوسف الهمداني في مدينة بخاري، ثم عاد إلى المدينة (يسه) حيث أسس أول تكية تركية في التاريخ هناك، وتوفى سنة 562هـ أما تاريخ مولده فغير معروف، ويذهب (مليورانسكي) إلى أنه توفى بالغاً من العمر ستة وثلاثين سنة مستدلا على ذلك من بعض أشعاره

لقد كان هذا الشاعر من عظماء المتصوفين في وقته، وأشتهر كزعيم ديني كبير ومرشد وولي كامل، فكانت الجماعات الغفيرة تلتف حوله يأملون منه اللطف وينالون الدعاء. . وكان لأدبه أثر عميق في النفوس. وعرف ديوانه الشعري بين الناس بديوان الحكمة لأنه كان يتضمن من الحكم البالغة والمواعظ الحسنة والأمثال

الخوجه دهاتي

وقد عرفه إلى عالم الأدب لأول مرة الأستاذ فؤاد كوبريلي، إذ كان هذا الشاعر غير معروف في الأوساط الأدبية حتى تمكن الأستاذ كوبريلي من العثور على بعض الوثائق التاريخية في جوانح المكتبات. وتمكن بعد ذلك من التعمق في البحث حتى حصل على كثير من المعلومات حوله، فنشرها في بعض المجلات التركية ويتضح من تلك الدراسات أنه كان خراساني المولد وأناضولي النشأة، حيث أدرك عصر الأمير علاء الدين كيقباد، وعاشر هذا الأمير مدة من الزمن، مدحه في بعض قصائده. وهو يعد أول شاعر تركي جمع ديواناً مرتباً على الحروف الهجائية، إذ لا نعرف شاعراً تركياً آخر سبقه في هذا الخصوص

جلال الدين الرومي:

ولد في 30أيلول1207 م (604 هـ) في مدينة (بلخ) وتوفى

سنة 672 هـ في ولاية (قونية) التركية. وكان والده (بهاء

الدين ولد) الملقب بسلطان العلماء؛ من خيرة رجال العلم

والأدب، وزعيم الطائفة المنورة في زمانه. رحل هذا العالم

ومعه أبنه جلال الدين إلى الديار الحجازية. . ومن ثم رجع

إلى مدينة (قونية) حيث أستقر فيها. ولقي أثناء إقامته هناك

حظوة عند الأمير السلجوقي علاء الدين كيقباد توفى الشيخ بهاء الدين سنة 628 هـ وكان قد لقن ولده العلوم الظاهرية. ورأى جلال الدين بعد وفاة أبيه أن يسعى لإكمال دراسته وإتمام ثقافته، فاتصل بالسيد برهان الدين الترمذي - من تلامذة والده - فدرس عليه العلوم الباطنية، وقد نال إعجابه. فما كان من السيد الترمذي إلا أن جعله (مريداً) له

وتعد سنة 1244م بداية عهد جديد في حياة جلال الدين الرومي، فقد التقى بالشيخ شمس الدين التبريزي المتصوف المعروف، فانصرف معه إلى الحياة التصوفية وبدأ منذ ذلك اليوم. ينظم القصائد الجياد في الشعر التصوفي حتى غدا شاعرا يشار إليه بالبنان، وقد خلف مؤلفات قيمة ترجمت إلى لغات كثيرة، نذكر منها (الديوان الكبير) الذي اشتمل على منظومات رباعية بديعة وأشعار رقيقة في الغزل. و (المثنوي) وقد حاز إعجاب الجمهور، ونال استحسان الأندية الثقافية. فأقدم العلماء على درسه وترجمته إلى لغات مختلفة. ويتضمن هذا الكتاب قصصاً وروايات رمزية، ونصائح وإرشادات دينية قيمة. ويحتوي كذلك على شرح المذهب الصوفي في محبة الله. . .

وقد جاء الكتاب بأسلوب قصصي بديع تجلى فيه الأدب الرفيع بأبهى جماله. وكان جلال الدين قد نظم أشعاره باللغة الفارسية باستثناء بعض المقطعات التركية وهو مع ذلك لا ينفي كونه تركيا خالصاً إذ يقول:

(أصلم توركست اكرجه هندو كويم)

بمعنى: أنني من الأصل التركي وإن اخترت الفارسية لغة

وهو يعد بحق مؤسس الطريقة الجلالية التي سميت فيما بعد بالطريقة المولوية. وتوسعت هذه الطريقة على يد ولده النجيب الموسوم ب (سلطان ولد) الذي تمكن من نشر لوائها فوق سماء البلاد النائية، فتفرعت الطريقة إلى فروع تغلغلت جذورها في داخل الأقطار العراقية والسورية والمصرية، وانتشرت مبادئها كذلك في بلاد أذربيجان الشمالية

ولهذه الطريقة أثر عظيم في سير الأدب التركي. فقد أخذ الشعراء الأتراك يتقربون إلى شيوخها ويعتنقون تقاليد الطريقة وشعائرها المعروفة، فظهر لون من الأدب ينبغي تسميته بالأدب المولوي الذي أصبح فيما بعد يسمى بأدب التكايا، وذلك نتيجة تنوع الطرائق الصوفية وانتشارها في طول البلاد وعرضها هذه نبذة مختصرة عن حياة الشاعر جلال الدين الرومي وعن أثره في الأدب التركي. وهناك شعراء كثيرون ممن عاشوا في هذه العهود أمثال الخوارزمي والجندي وسليمان باقر ومير حيدر ولطفي وأميري وحسين بايقرا وعلي شيرنوائي والقاضي وبرهان الدين وضرير الأرضرومي وحبيبي وخطائي وغيرهم من شعراء الترك، إن أردنا الاستفاضة في دراستهم في هذا المقام لطال بنا المقال. وخرج عما سميناه بالنظرات وإذا راعيتا جانب الاختصار وتجانبنا التفصيل. . .

وهنا نكون قد أعطينا للقارئ صورة مختصرة للأدوار التاريخية التي مر بها الأدب التركي منذ نشأته حتى أوائل العهد العثماني. وقد رأينا فيها أن الأدب التركي في هذه الفترات كان يكتنفه شئ من الغموض، بحيث يتعذر معه الوصول إلى كشف خفاياه وإظهار مجاهلة، وذلك لافتقارنا الشديد إلى المصادر التاريخية القديمة التي ترشدنا إلى معالم هذا الأدب في عصوره المظلمة.

ورأينا في هذا المقال أننا كلما تدرجنا في الموضوع تدرجاً زمنيا وجدنا أن الأدب التركي يزداد وضوحاً في العصور الأخيرة

وسنرى في دراساتنا القادمة، إن سمح لنا الوقت، أن الأدب التركي أصبح موضوعه أمرا ملموساً له حدود ثابتة وأدوار تاريخية معينة. .

كركوك (العراق)

عطا الله ترزي باشي