مجلة الرسالة/العدد 979/كلمة تقال. . .!!
مجلة الرسالة/العدد 979/كلمة تقال. . .!!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أخي الأستاذ علي الطنطاوي
سلام عليك. يقال في المثل: (كرها تركب الإبل السفر) وقد استطعت أنت أن تكره العلم إلى ما أردت أن أنزهه عنه. فلولا ما أضمرت من قديم المودة لك، ولولا ما عرفت من صدقك، ولولا أنني أجلك عن أن تكون عجولا إلى غير صواب، ولولا أني أكره أن تأخذ عني شيئا لم أقله بلساني، ولولا ذلك كله، لكان أبغض شيء إلى أن استكره نفسي على غير ما رأيت أنه أجمل بي وأصون. وإنك لتعلم، أيها الصديق القديم، أني اكره أن ازداد من الشر، وأن أتزود من لجاجة الباطل، والكتابة في زماننا هذا شر مستحكم، وباطل لجوج متوقح. وقد اقتحم وعرها من لا يحسن المشي في سهولها، وتشهاها من لو انصف نفسه لحال بينهما وبين ما تشتهي، واتخذها صناعة من لو عقل لأعفى نفسه من مزاولتها، ولكن هكذا كان، ورحم الله الطائي إذ يقول لمحمد بن عبد الملك الزيات:
أبا جعفر، إن الجهالة أمها ... ولود، وأم العلم جذاء حائل
أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم ... شعوب تلاقت دوننا وقبائل
غدوا، وكأن الجهل يجمعهم به ... أب، ذوو الآداب فيهم نواقل
وأنت تعلم من انصب النصب، أن تتصدى لإفهام من لا يفهم عنك، فإذا بلغ الأمر أن تراه يتصعب لجدالك، فأذكر قول من قال: إذ أردت أن تفحم عالما فأحضره جاهلا. وقد لقيت أنا من شر ذلك ما لقيت، فآثرت أن أسلك سبيلي لا يشغلني عنه متعلق بأذيالي، إرادة أن يصرفني عن الوجه الذي أردت
ولقد قرأت كلمتك في الرسالة، فأسفت أشد الآسف، لأني عرفت منها أنك لم تقرأ ما كتبته في مجلة (المسلمون) وفي أربعة أعداد منها، ولو كنت قرأتها لما كتبت ما كتبت، لأني لا أشك في ذكائك وحسن فهمك. فأنا لم أتعرض في شيء منها لبني أمية أو بني العباس، ولا لحكمهم ولا سياستهم؛ فعجبت أشد العجب كيف يمكن أن تكون معي أو علي في أمر لم أقل فيه كلمة ولا يعلم أحد ممن كتب رأيي فيه، ولا كيف أقول إذا أنا تعرضت للبيان عنه؟ فمن اجل ذلك عجبت، لأنك لم تنصف على عادتك من الإنصاف وأنا محدثك باختصار عن هذا الذي كتبته. واصل ذلك كله أني رأيت من كتب من المحدثين في شأن تاريخ الماضين من أسلافنا، يكتب أو يتحدث بأسلوب أقل ما يقال فيه أنه مشوب بالحماقة الشديدة، مختلط بالجهالة المتراكبة، في معرفة أصول التاريخ، مغموس في حماة من الافتراء والتطاول، مستنقع في أهواء سيئة رديئة. وزعمت أن للناس أدباً وأسلوبا في كتابة التاريخ، وأن للمسلمين خاصة أدب وأسلوب في التاريخ ينبع من أصل دينهم، في العدل، وفي حسن النظر، وفي الأناة في طلب الحق، وفي كف اللسان عن التهجم بالقول السيئ على عباد الله بلا بينة، وفي التناهي عن اقتناء المرء ما ليس له به علم، وفي التثبت من الأخبار قبل تصديقها، وهو أدب كما تعلم كان قديما في كتبنا، ولكن حضارة هذا القرن قد نشرت وباء شديد الفتك، ذهب بأكثر هذا الأدب، وأخذت في طرقي أضرب المثل على هذا بكاتب رأيته لم يتورع عن سلب أناس دينهم، ولم يخشى الله في نفي الإسلام عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ، وفي تصوير أعمالهم بصورة أعمال المنافقين، وفي أخذ الروايات الباطلة وجعلها دليلا على الغميزة في إيمانهم، وفي رد الروايات الثابتة الصادقة بروايات كاذبة ادعاها مدع من الرافضة، إلى غير ذلك مما سأبينه فيما أكتب في مجلة (المسلمون) وزعمت أن هذا ليس ديدن هذا الكاتب وحده، بل صار ديدنا لأكثر من يكتب الآن في شيء من تاريخ هذه الأمة المسلمة، حتى صار الطعن في صحابة رسول الله أمرا مرتكبا بلا حذر
وما دمت لم أزد في كلامي على هذا، فلست أدري بعد ما الذي يحملك على أن تخذلني أو تنصرني في أمر لم أنطق بعد فيه بكلمة! نعم قد يكون رأيي فيما أبديت أنت فيه رأيك، مخالفا لك، ولكني لم أتكلم بعد فتعرف حجتي فيه. بل لعلي إذا كنت لك مخالفا، ثم عرضت عليك خلافي لك، أن تكون أسرع إلى موافقتي منك إلى الخلاف علي، حين ترى فيما أقول صوابا يرضيك. أليس هذا جائزاً، وممكنا أيضا؟ فإذا رأيتي بلغت في سياق مقالاتي في (المسلمون) إلى ذكر دول الإسلام، فعندئذ فقل؛ فأنا أقبل منك ما تقول، وأعلم أني لا أنف أن أصير إلى الحق إذا عرفته، ولقد عشت على هذه الأرض زمانا طويلا، واعتقدت منذ عقلت أراء كثيرة، ثم تبين لي أن الحق في خلافها، فرجعت عنها جملة، ولم أبال بما كنت أرى، ولعلك أنت خاصة تعلم من ذلك ما لا يعلمه غيرك وأنا أحب أن ترجع إلى ما كتبته في مجلة (المسلمون) ولا تأخذ كلام أهل اللجاجة، فإنهم أوهموك، فيما أظن، أني قلت شيئا والحقيقة أني لم أقل بعد فيما تناولته أنت شيئا، وأنا أعيذك أن تتورط في هذا الشر الذي نجاهد جميعا في دفع الناس عنه: وهو أخذ الأقوال بلا بينه، وبلا حجة، وبلا برهان. لك مني تحية كنت أحب أن تبلغك، على غير هذه الراحلة المكرهة على ارتكاب طريق دنسته الأقدام، والسلام
محمود محمد شاكر