مجلة الرسالة/العدد 980/لغة المستقبل:

مجلة الرسالة/العدد 980/لغة المستقبل:

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 04 - 1952



للأستاذ محمد محمود زيتون

تحية علمية إلى البرلماني الفيلسوف أستاذي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك عميد الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقاً، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.

قرأت بمزيد من الإعجاب المحاضرة القيمة التي ألقاها أستاذنا الجليل الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك بمجمع فؤاد الأول للغة العربية وجعل موضوعها (الفكر واللغة) والتي نشرتها الرسالة في العدد 975.

ومما زادني إعجاباً بهذا البحث العميق ما انطوى عليه من سعة الأفق وعمق الطاقة، ولا سيما إذا قارنته ببحثي المتواضع الذي نشرته بالرسالة من قبل بعنوان (اللغة والفكر).

لقد وقفت متأملاً قول أستاذي الدكتور في محاضرته الجامعة (والرياضة أقل العلوم حاجة إلى الألفاظ والتراكيب، لأنها أبعدها مدى في العموم والتجريد، فإذا حصرت حقائقها، واختير لكل حقيقة رمز معين أمكن تكوين لغة رياضية كاملة، وعلى غرار هذه اللغة الرياضية يمكن وضع اللغة العالمية).

ولعل هذه العبارة المركزة أن تكون بعيدة عن مدارك العامة من المثقفين، وقد يستغلق على بعضهم فهم المكانة الفلسفية للعلوم الرياضية من المجموعة العلمية، لهذا نرى من حق الرسالة علينا أن نستسمح أستاذنا فنحاول في هذا المقال أن نبين للقارئ ما يجب علينا بيانه وتبيينه فيما يتعلق بالرياضيات.

يقول نافيل في كتابه (تصنيف العلوم) - (إن العلوم روابط خلقها العقل بينه وبين الأشياء). وإذا نحن طالعنا هذه العلوم اعترتنا حيرة: فبآيها نبدأ وبآيها ننتهي، ونخشى حين نصنف هذه العلوم أن نقع فريسة في أيدي المصنفين، ومهما يكن من خلاف بينهم. فالجميع متفقون على البدء من البسيط غاية التبسيط إلى المركب غاية التركيب.

والحق أن العقل الإنساني لا يطيق الفوضى، وإنما هو نزاع أيما إلى أبسط (عملة فكرية) يتعامل بها وهي (المعاني) حين تتجرد أقصى ما يكون التجريد. فلا بد من علم يجمع قوانين الفكر الأساسية هو (علم النواميس كما يسميه (نافيل) وهو (المنطق) عند المدرسين.

وسواء كان هذا المنطق علماً أو فناً أو مدخلاً أو أداة لسائر العلوم، فإنه أول مصدر لكل معرفة إنسانية مشروعة وأساس لكل تفكير، لأنه يتناول المعقولات الخالصة.

ويلي المنطق مباشرة (الرياضة) إذ تتناول المعقولات الكمية (كالنقطة الحسابية والنقطة الهندسية) وما بين هذه المعقولات من نسب (كالزيادة والنقصان والتساوي).

ويتلو الرياضة في بساطتها: الميكانيكا والفيزيقا والكيمياء، والبيولوجيا والسيكولوجية ثم علم الاجتماع.

ولم يكن من اليسير أن يطفر الفكر إلى المعاني. وذلك لأن (طبيعة الأشياء تأبى الطفرة)، فالحواس التي عرفتنا بما نحس، وحلل العقل ما أوتي منها، واستخلص من بين عناصرها البسيطة ما هو مشترك بينها وهو (الكلي). وبهذا الانتقال الذهني الخالص نصل من الأفراد إلى (الكلي المجرد) ومنه إلى (العام). وصدقت الحاجة إلى تثبيت المعاني المجردة والعامة واستحضارها وترتيبها، وإقامة صلات بينها دون اللجوء في كل مرة، إلى ما بدأنا به أول مرة، ولا يتم هذا إلا باستعمال الرموز التي تغني عن الجزئيات، إذ (الرمز إشارة إلى ما له صلة بغائب محجوب أو يستحيل إدراكه).

ولما كان العلم بالكلي - كما يقول أرسطو - فلا بد من أن تتسابق العلوم إلى هذه (الرمزية) النهائية، فكانت الرياضة منها في الطليعة.

وإذا كانت المعاني هي العملة الفكرية، وكانت اللغات إنما هي المعاني تحملها الألفاظ، فإن الرياضة هي أسمى لغة للتفاهم العقلي في أسمى درجاته، لذلك قال (كوندياك (كل علم ليس لغة مصنوعة بإتقان) أو كما يقول (فولتير) (إن العقل سينتهي إلى بعقل) أي ينتهي إلى قانون يعقل الوجود ويحكمه.

وعلوم الكون - على اختلاف مناحيها - تنزع إلى أن تكون كالرياضة، فعلم الفلك مدراه الجاذبية، لهذا لم يعتبر، (أوجست كونت) من الرياضة بل اعتبره من الفيزيقا البحتة، غير أن (أمبير) رأى في الفلك علماً رياضياً بسبب تقدمه العلمي، وبذا جعل الرياضيات علوماً للطبيعة المادية أي علوماً كونية وعرفها بأنها (العلوم التي لا تعتبر في الظواهر الطبيعية غير نسب الكمية).

كل هذه المحاولات للتقرب من الرياضة لم تقض على ما بينها وما بين سائر العلوم من فوارق: فالرياضة لا تعني بما هو كائن، وإن كانت تضع مبدئياً شروط إمكانية الأشياء المادية، غير أنها تدع للفيزيقا العناية بإقامة الوقائع التي أعطيت لنا في هذا العالم.

والرياضة قبل كل شيء ذات موضوع متميز، ولها منهجها وروحها، وهذا ما نود أن نعرضه للقارئ في هذه العجالة بحيث تتأدى المقدمات إلى نتائجها من غير تعقيد.

والمعروف أن الرياضة فرعان هما: علم العدد، وعلم الهندسة

وعلم العدد هو الذي ينظر في معاني الكمية والعدد والنسبة دون أن يفترض فيها موضوعا خاصاً، ودون حاجة إلى نظريات الشكل والمقدار اللذين في الواقع؛ فهو كما يقول أبن خلدون (المعرفة بخواص الأعداد من حيث التأليف، إما على التوالي أو بالتضعيف) وهو كما يقول أيضا (أول فروع الرياضة (التعاليم) وأثبتها في البراهين الحسابية، عني به بعض العلماء فاستخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعل أبن البناء في كتابه (رفع الحجاب)).

وتنحصر فائدته في عدم تعينه في الأشياء المحسوسة التي يطابقها. فالعدد 5 يطابق 5 رجال و5 خيول و5 حواس و5 فضائل.

ومن فروع علم العدد (صناعة الحساب). وهي صناعة عملية في حساب الأعداد بالضم والتفريق.

ولما كان لعلم العدد صلة بالكميات المجردة، فقد وجب إنشاء فرع له هو (الجبر) لأننا بدلاً من اعتبار القيمة الفردية للأعداد نضع حروفاً تدل على عدد ما بدون أي تفرقة.

وقد اصطلح العرب على أن يسموا هذا العلم (الجبر والمقابلة) وهو (صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما صلة تقتضي ذلك) كما يقو أبن خلدون.

ودراسة الدوال هي الفرع الأعلى للرياضة البحتة لأنها تعني بالنسبة بين متغيرين دون الاشتغال بتقدير هذه النسبة؛ وهذا يؤدي إلى الرياضة العليا من حيث صلتها بالحساب والجبر وهما (الرياضة الأولى).

ولعلم العدد أيضا فرعان آخران هما: (المعاملات) وهو تصريف الحساب في معاملات المدن، و (الفرائض) وهو صناعة حسابية في تصحيح السهام (الأنصبة) لذوي الفروض في الوراثات وهو يعتمد على الفقه والحساب معاً، وهكذا يكون علم العدد بحتاً وتطبيقاً أي علماً وصناعة.

أما الهندسة فهي علم النظر في المقادير، إما المتصلة كالخط والسطح والحسم، وإما المنفصلة كالأعداد، وما يعرض لها من العوارض الذاتية. وموضوعها الامتداد كجزء من الفراغ، فهي تدرس خواص الامتداد وتسمى الهندسة الفراغية.

ومن فروع الهندسة: هندسة الأشكال، وهندسة المسافة، وعلم المناظر، ويجب ألا نغفل هندسة الوضع ظهرت في القرن السابع عشر على يد (ليبتز) وأغفلها (كونت).

وللهندسة - كعلم العدد - جانبان: العلمي البحت، والتطبيقي العملي. وهذا الجانب الأخير لا يقلل من قيمتها التجريدية، بل يؤكد وثاقتها بطريق عملي، يصبح أشبه (بالحدس الحسي)، وكما يقول (يجب أن نعرف لنقدر، ويجب أن نقدر على إعداد العمل النافع).

وسيرى القارئ - إن شاء الله - في العدد القادم كيف انفردت الرياضة بمنهج خاص، وما يستتبع ذلك من تكوين (الروح الرياضي) وأثر ذلك كله في شتى العلوم.

محمد محمود زيتون