مجلة الرسالة/العدد 985/الشرق الثائر
مجلة الرسالة/العدد 985/الشرق الثائر
للأستاذ أبي الحسن علي الحسني الندوي
إن ما يرجع إليه الفضل في أهم الأحداث التي غيرت مجرى الأمور وفكت السلاسل وحطمت الأغلال وردت الأمر إلى نصابه والحق إلى أصحابه (غضبة) غضبها حق مهضوم، أو شعب مظلوم، أو حر يستعبد، أو دين يضطهد، أو كرامة تتهدد، أو كريم يتحدى.
إن الغضب - مهما قال فيه علماء الأخلاق وكيفما حلله المؤلفون في علم النفس - من علامات الحياة وسمات الرجولة، إذا حرمه فرد كان بالجماد أشبه منه بإنسان حي. وإذا تجردت منه أمة كانت قطيعاً من غنم أو لحماً على وضم، لا تستحق الحياة فضلا عن الاستقلال، ولا تستحق الاحترام فضلا عن الإكبار والإجلال.
إن الغضب هو حمة الفرد والجماعة التي يحميان بها نفسهما ويصونان بها حياتهما، وإن الله لم يحرم مخلوقا من سياج يحوطه ومن حامية تذب عنه، ولما منح الورد طبيعة الحرير، رزق الأشواك التي حوله طبيعة الحديد. . ولا بقاء لحرير إذا لم يكن دونه شديد أو حوله حديد.
إن الغضب قوة كامنة في النفس قد لا يعلمها صاحبها، فإذا أثيرت هذه القوة وانطلقت أتت بالمعجزات، وأظهرت الآيات البينات، وقربت البعيد، وأذابت الحديد، وأحالت اليأس رجاءً والممتنع ممكناً، وطوت المسافات البعيدة في لمح البصر أو أقرب.
إن للغضب في تاريخ الإنسان العام وفي تاريخ الإسلام أياماً مشهورة، وفضائل مأثورة؛ ومواقف مشكورة، وإن أروع هذه الأيام وأفخرها يوم غضبت الأمة وثارت الجماعة، وما أمثلة هذه الغضبات في تاريخ هذه الأمة بنادرة.
إن أشد ما نكب به هذا الشرق الإسلامي وإن أكبر ما جنى عليه في العهد الأخير أنه فقد طبيعة الغضب والتزم الحلم والأناة والرحمة والعفو والتنزل عن الحق في كل وقت ومع كل أحد، مع أنه لا حلم مع الضعف ولا رحمة مع العجز ولا عفو مع الإرهاق ولا تنزل مع القهر، إنما هي كلها أخلاق اضطرارية لا قيمة لها ولا فضل، وليس مصدرها إلا برودة الدم وموت الرجولة وانحطاط الإنسانية. . وقديماً وصف الشاعر العربي قبيلة أسرفت في السماحة والعفو
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحساناً
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهمو من جميع الناس إنسانا
لقد هجم الغرب على الشرق بدون داع ولا مبرر، لا دين ينشره، ولا رسالة يبلغها ولا فضيلة يحميها ولا عقيدة يدعو إليها. إنما هو الجشع الأرضي والشره الاقتصادي والاستغلال التجاري والاحتلال السياسي وبالإجمال طبيعة قابيل القديمة، هجم عليها بدافع الطمع والحرص فغزا عقوله ونفوسه وأسواقه وبيوته واتخذه ناقة ركوباً حلوباً يحلب ضرعها ويجز صوفها ويقتر عليها في مائها وعلفها، ويقسو عليها في استخدامها، واستأثر بموارد هذا الشرق، وخيراته وأصبح في بلاده الغنية التي تدر لبناً وعسلا كالأسفنج يمص الماء هنا ويصبه هناك، استأثر بمعادنه ومناجمه وبالذهب الأصفر والأسود، وأملى على شعوبه معاهدات وإيجارات جار فيها وغش وطفف الكيل وأخسر الميزان. . وضحك عليه كما يضحك على الأطفال وأقام عليه الحجر والوصاية كما تقام على السفهاء.
هجم عليه الغرب فاتخذه سوقاً مفتوحة لبضائعه وزبوناً دائماً لسلعه وعمالا مخلصين لمصانعه ووقوداً حاضراً لحروبه يسخر لأغراضه كيف شاء، ويسوقه إلى ميدان الحرب متى شاء ويجعله وقاية وجنة دون رجاله وبلاده , ويعيش في بلاده بفضل هذه الخيرات والأيدي العاملة والجيوش الحامية عيش الأحرار والملوك، ويدل بمستعمراته وأسواقه وعبيده في الشرق على جيرانه ومنافسيه في الغرب.
وكان أكبر مجرم تولى كبر هذا الاستعمار الغاشم، وتفرد بالقسط الأكبر في هدر الحريات والكرامات واستعباد الشعوب والأمم ونشر القلق والاضطراب في العالم، وكان أكبر عامل من عوامل الفساد الخلقي والأثرة الاجتماعية واختلال النظم الاقتصادية وأكبر معاداة للإسلام وكيدا لأهله هي بريطانيا (العظمى) التي سبقت جاراتها وشقيقاتها إلى غزو الشرق واحتلال أقطاره واستعباد شعوبه.
وكانت أكثر هذه الأقطار الشرقية التي احتلتها بريطانيا إسلامية بالطبع، فكانت الهند التي لا تزال بلدا إسلاميا تحكمها - ولو بضعف كبير - أسرة مغولية، وكانت مصر التي تحكمها الأسرة العلوية وسواحل الجزيرة العربية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، هي التي تكون الإمبراطورية البريطانية الجديدة، إذن فكانت بريطانيا هي المعتدية الغاصبة الظالمة. وكان الشرق الإسلامي هو المعتدى عليه.
ثم كانت بريطانيا هي التي ولدت المشاكل للشعوب الإسلامية وخلقت لها أزمات طريفة، فهي صاحبة الوحي وصاحبة الفكرة في دولة إسرائيل الجاثمة على صدر العالم العربي. وهي التي أبرزتها من العدم إلى الوجود، ومن التمنيات إلى عالم الواقع، وهي المسئولة عن جلاء العرب وضياع فلسطين العربية وشقاء أهلها والخطر الذي يهدد الحكومات العربية كلها.
ثم فاقت بريطانيا الحكومات المستعمرة كلها في النفاق والتزوير وأخلاق الثعالب والمكر والدهاء ونكران الجميل ونسيان الوعود، ونقض العهود، قد أثبت تاريخها أنه لا أيمان لها. . وأنها لا ترقب من مؤمن إلا ولا ذمة.
إن في تاريخ بريطانيا السياسي صفحات سوداء، لعلها لا توجد في تاريخ دولة مستعمرة أخرى، مع أن الاستعمار كله صحيفة سوداء. . فإذا اقتصرنا على تاريخ الاستعمار البريطاني في الهند وجدنا فظائع لا تزال وصمة عار في وجه الحكم الإنجليزي. ففي 13 من إبريل عام 1919م انعقدت - أيام حركة الاستقلال الوطنية في الهند - حفلة شعبية عظيمة في (جليان والاباغ) في مدينة أمرتسر حضرها عشرون ألفا من الجماهير، وكانت الحديقة التي احتفل الناس فيها محاطة بالأسوار من جوانبها الأربعة، وليس لها إلا منفذ واحد تخرج منه عربة واحدة، وحضر الجزار الإنجليزي المعروف بالجنرال (دائر) ومعه مائة وخمسون (150) جنديا، فأمر المحتفلين بالانفضاض وبعد دقيقتين - كما جاء في تقريره - أمر بإطلاق النار على هذا الجمع الحاشد الوديع، وأطلقت عليه ألف وستمائة طلقة (1600) مات منها - كما جاء في التقرير الرسمي - أربعمائة رجل مع أنه غير معقول ومخالف للبداهة أن يموت أربعمائة فقط بطلقات نارية يبلغ عددها إلى ألف وستمائة طلقة في مكان ضيق محصور على هذا الجمع الحاشد. أما عدد الجرحى فيتراوح كما قالت المصادر الرسمية بين ألف وألفين، وبات القتلى والجرحى طول الليل من غير ماء ولا إسعاف طبي.
وفي سنة 1943م كانت مجاعة بنغال الكبرى التي خلقتها الحكومة الإنجليزية في الهند وفرضتها على أهل بنغال فرضاً لمصالحها الاستعمارية والسياسية كما تحقق علمياً وتاريخياً، ويقدر أن الذين هلكوا فيها يبلغ عددهم إلى خمسة ملايين.
وفي سنة 1947م وقعت الاضطرابات الطائفية الهائلة التي هيأتها ومهدت لها الحكومة الإنجليزية وتغافل عنها وارتضاها ممثلها الرسمي اللورد (مونت بيتن) المجرم حاكم الهند العام حينئذ، وكان أكثر من نصف مليون نسمة فريسة هذه المجزرة الإنسانية.
إن طبيعة الأشياء وغريزة الإنسان وشريعة العدل كل ذلك كان يحكم بل يفرض أن يغضب الشرق - وبالأخص الشرق الإسلامي - ويثور وينتهز كل فرصة للانتقام من بريطانيا وتصفية الحساب معها.
ظل الشرق الإسلامي خاضعاً - ولا أقول راضياً - لهذه الأوضاع التي تثير غضب الحليم لا يحرك ساكنا ولا يبدي سخطا بل يتحيز بين حين وآخر إلى المعسكر المجرم الذي يسميه الحلفاء كذباً ومينا بالمعسكر الديمقراطي ويحارب بجانبه ويستميت في سبيل شرفه وكرامته ويصدقه في عهوده ويحترم معاهداته، فاسترسلت بريطانيا - وأخواتها على أثرها - في سياستها الجائرة وأمعنت في غلوائها فأضر ذلك بالسياسة الأوربية كلها لأنها أصبحت كالفيل الهائج، وفقدت السياسة الدولية الاتزان والتفكير، وأغرى سكوت الشرق وهدوءه الزائد واحتماله المسرف المستعمرين بالاستمرار في سياستهم الغاشمة والانتصار للمدرسة السياسية الغربية القديمة التي تفكر التفكير الاستعماري وتحلم بالإمبراطوريات والمستعمرات.
فكان لا بد أن يغضب الشرق غضبة ترد المستعمرين إلى صوابهم ورشدهم وترد إلى السياسة العالمية اتزانها وتعادلها وترد إلى شعوب الشرق شرفها وكرامتها وترد إلى العالم الأمن والسلام.
وما كان يدري أحد أن إيران ستكون السابقة إلى هذه الثورة العادلة والغضبة الموفقة، وستنتصر هذا الانتصار الباهر، وستهاجم الغرب المتغطرس هذه المهاجمة المفاجئة القوية وتصفع بريطانيا الكريمة هذه الصفعة المؤلمة المخجلة التي يحمر لها وجهها وينتكس لها رأسها، إنها لصفعة موجعة حقا، مخجلة حقا، تألم لها كل إنجليزي في كل ناحية من نواحي العالم بل تأثرت بها أرواح وبناة الإمبراطورية البريطانية ومؤسسو مجدها في السابق، وسيلتصق عارها بكل مولود يولد في بريطانيا إلى عهد بعيد.
لقد سر كل شرقي وكل مسلم بهذه الغضبة الفارسية، وكان يتمنى أن يغضب العالم العربي ويثور ويقوم قيام الثائر الموتور لأنه أحق بالغضب وأولى بالثورة من كل بلد وقطر، لأن بريطانيا (الصديقة للعرب) قد طوقته من كل جانب وتملكت جميع منافذه. . فهذا عدن العربي لا يزال مرفأ بريطانيا وقلعة بريطانيا الحصينة، والعقبة ومعان مما تحرص بريطانيا على الاحتفاظ بهما واحتلالهما، ولا تزال إمارات الخليج العربية خاضعة للنفوذ البريطاني، ولا يزال العراق مرتبطا بالعجلة البريطانية، ولا تزال فلسطين العربية تشكو بثها وحزنها وتئن من جراحاتها وآلامها، ولا تزال دولة إسرائيل برهانا ساطعا على صداقة بريطانيا للعرب ووفائها لهم، ولا تزال مصر محتلة بالجيوش البريطانية ولا يزال السودان المصري يرزح تحت أثقال الحكم البريطاني.
إذن فكانت غضبة العالم العربي - لو غضب - من أعدل ما شهد التاريخ من الغضبات، وكانت ثورته - لو ثار - من أشرف ما دون في الكتب من الثورات.
وكان لا بد من أن يغضب بلد عربي يتزعم العالم العربي ويقوده فكريا وثقافيا وسياسيا ويتمتع بمركز محترم ومكانة مرموقة ونفوذ ملحوظ حتى يسري هذا الغضب في جميع أقطار العالم العربي ويتردد صداه في جميع الشعوب العربية ويكون كما قال جرير الشاعر العربي
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
هنالك طلعت مصر وغضبت غضبة جاءت على قدر وأرضت جميع المنصفين في العالم، أما العرب فقد أنشدوا بلسان واحد
هذا الذي كانت الأيام تنتظر ... فليوف لله أقوام بما نذروا
حياك الله يا مصر العزيزة وبارك جهادك وقوى أبطالك وثبت مجاهديك. إن غضبتك سترضي أجيالك القادمة وتشرفها وستسجل لك فتحا عظيما في الشرق، فانظري في المستقبل وما يخطه لك القلم المؤرخ من سطور الثناء والإجلال، ولا تنظري في العقبات التي تعترضك فإنها زائلة وذائبة، وانظري إلى الثمار التي سيجنيها العالم العربي بالأخص والعالم الإسلامي بالأعم من جهادك فإنه يبث في العالم العربي الروح والحياة - وما أحوجه اليوم إلى الروح والحياة - ويحرك فيه الحمية والأنفة، ويوقظ فيه الشعور ويوجد فيه الوعي السياسي، وصدقي يا مصر أن العالم العربي قد بلغ من الجمود مبلغا لا تهزه فيه إلا ثورة جبارة مثل ما تقومين به اليوم، فليست ثورتك هي ثورة مصر المحلية إنما هي نفخة صور للعالم العربي وفاتحة عهد جديد إن شاء الله في تاريخ العرب السياسي - احتسبي جهادك يا مصر وقدسيه بنفسك فإنه جهاد يعلي كلمة الله ويشرف الإسلام والمسلمين ويرفع رأسهم عاليا أينما كانوا، وإنه جهاد يغيظ أعداء الإسلام فحيي أبناءك المرابطين وأبطالك المجاهدين (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)
اعلمي يا مصر العزيزة أن القوة الوحيدة التي يخضع لها العرب هي إرادة الشعب القوية والعزم الصادق الثابت والجبهة الموحدة؛ فاحرصي على قوة إرادتك حكومة وعلى وثبات العزم وتوحيد الصفوف وآمني بأن شعبا قد صدقت عزيمته وقويت إرادته وتوحدت صفوفه لا يمكن أن يجبر على ما لا يرضاه ويفرض عليه ما يأباه، فقوتك في الداخل لا في الخارج. قوتك في أبنائك ونفوسهم وعزمهم؛ فإذا أبوا إلا جلاء الجيوش الإنجليزية من منطقة القنال، ووحدة وادي النيل، فليست في العالم قوة تقف في سبيل هذا العزم، وإذا ألغوا معاهدة سنة 1936م في نفوسهم واستنكفت من استمرارها حتى فضلوا الموت على عودتها فاعلمي يقينا أنها قد ألغيت وليس لأمة في العالم أن تعيدها.
اعلمي يا مصر أن السياسة متقلبة بطبيعتها وأن الدين ثابت بطبيعته، وأن المصلحة متحركة بطبيعتها، فاستندي في جهادك إلى الإيمان والعقيدة أكثر مما تستندين فيه إلى السياسة والمصلحة، وأيقظي الروح الدينية وروح الجهاد في سبيل الله واعطفي عليها وعلى رجالها فإنها أمضى سلاحك وأقوى جنودك.
وأنت أيها العالم العربي فقم بواجبك وانتهز فرصة غضب مصر وثورتها واعلم أنها من الفرس السانحة التي لا تدوم ولا تعود، فاغضب غضبة واحدة وقم قومة رجل واحد، اغضب لنفسك إن لم تغضب لمصر - وهل هي إلا جزء من أحزانك وابن كريم من أبنائك، وانصح لنفسك إن لم تنصح لغيرك، فكرامتك اليوم منوطة بمصر فلا كرامة لك إن هدرت كرامة مصر. فاحرص على كرامة مصر حرصك على كرامتك وجاهد في سبيلها جهادك في سبيلك. . أستغفر الله بل جهادك في سبيل الله وفي سبيل الدين وفي سبيل الحق والعدل.
إنك مسئول أيها العالم العربي ومعاتب وملوم على كل تقصير في جنب هذا الجهاد المقدس، وإنه محسوب عليك كما هو محسوب على مصر.
إن العدو ماكر داهية وقد جرب منك سقطات وزلات في السابق، وإنه واثق بولائك ووفائك فلا يخدعنك عن نفسك وعقيدتك، ولا يحولن بينك وبين مصر، ولا يشترين دولة من دولك أو شعبا من شعوبك بأرفع ثمن فإنه نار في الآخرة وعار في التاريخ - ولا أنسى أن أخاطبك يا مستر (جون بول) فأنت صاحبنا القديم عرفناك في الهند وعرفتنا، وأعتذر إليك إن كنت آلمتك بذكر الهند التي فقدتها، أريد أن أسألك أيها الشيخ السياسي المحنك عن هذا الدفاع الذي تفرضه على الشرق الأدنى فرضا وترهق به مصر الإرهاق الذي ضاقت به وغضبت عليه، هل يصح أن يسمى دفاعا؟ وأي فرق بينه وبين الاحتلال؟ وهل يجدي هذا الدفاع إذا لم ينشط له هذا الشعب الذي تدعي أنك تدافع عنه ولم يتحمس ولم يعاونك عليه؟ وكيف بك لو احتلت جنود أمريكا الحليفة الصديقة الزميلة بلادك على رغم منك ورغم من المستر تشرشل بحجة الدفاع عنك لأنك ضعيف قد أنهكتك الحرب الماضية هل تقر هذا الاحتلال وتسكت عنه يا مستر جون بول؟
إني لا أجد لك يا (جون بول) ولمصر مثلا إلا مثل زنجي وطفل. . فقد زعموا أن زنجيا كان يحمل طفلا وكان الليل شديد الظلام ولم يكن الزنجي أقل سوادا من الليل وكان الطفل كلما رأى الزنجي ارتعب وفزع، وبكى وكان الزنجي كلما بكى الطفل وخاف ضمه إلى صدره وآنسه وقال له مرة لماذا تبكي يا بني وأنت في حجري وأنا لا أفارقك؟ فقال الطفل أنت أصل بلائي وشقائي ومنك أبكي وأرتعب فيا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.
وهكذا أنت يا مستر جون بول تريد أن تدافع عن مصر وأنت بغيض ما ثقيل على مصر ولا أحب إليها من مفارقتك، واعلم أخيرا يا مستر جون بول أن عهد الاستعمار قد انتهى من غير رجعة فلا تتعب نفسك في استرداده، وقل للمستر تشرشل كان خيرا لك أن تبقى بطل الحرب الثانية وقاهر الألمان وأن تحتفظ بسمعتك: وعلى نفسك جنيت إذ رجعت إلى الحكومة. . وأخاف أن يكون مصيرك كمصير الإمبراطور البيزنطي هرقل الذي انتصر على الفرس وسجل لنفسه فتحا رائعا في التاريخ ثم صادم العرب فلم يمت حتى انهزم أمامهم فأحبط ماضيه وأساء إلى نفسه وكان كالساعي إلى حتفه بظلفه.
وكلمة أخيرة إلى الرئيس ترومان، ما هذا التعاون على الإثم والعدوان أيها الرئيس الجليل! وأين الديمقراطية التي تتزعمها وتزعم أنك تدافع عنها وتجاهد في سبيلها فلم نرك إلا مرددا لصدى بريطانيا، كأنك جبل لا تملك إلا الصدى، ولم نرك تقبض مرة على الظالم وتنصر المظلوم وتغضب للحق، ولم نرك انتصرت لشعب مستضعف ومنعت زميلتك بريطانيا من الظلم وحذرتها من عواقبه! بل بالعكس رأيناك تسابق بريطانيا وساويتها في جحد الحق والمكابرة وإرغام الشعوب على ما لا ترضاه ثقة بثروتك الضخمة ومواردك العظيمة. وما ننس فلا ننسى سياستك الغاشمة في قضية فلسطين وممالئتك السافرة لليهود وكيف احتضنت الصهيونية وتبنيت إسرائيل ولا تزال تحدب عليها كالأم الروم، أفليس من السذاجة، أو من الوقاحة - إذا سمحت - طمعك في صداقة العرب بعد ذلك.
ألا فليسمع مستر ترومان وليسمع الذي له أذنان أن سياسة الاستعمار قد فشلت، وأن الشرق قد بدأ يفهم الحقائق، وإن جرب الغرب بمعسكراته وجبهاته فلم ير إلا شرا ومرا وظلما وجورا ودعاوى فارغة وتبجحا وتنطعا وعبثا بالعقول. . وأن في الشرق الإسلامي عقولا لا تخدعها البهرجة والتزويق والوعود الخلابة. . وأن هنالك ضمائر وذمما لا يستطيع الدولار الأمريكي أن يشتريها ويتملكها. . فليرجع الغرب أدراجه وليشتغل بنفسه والدفاع عنه وليترك الشرق الإسلامي يقول كلمته ويدبر شؤونه ويدافع عن نفسه. . ومن المقرر أن الشرق الإسلامي والأقطار الإسلامية بعيدة عن كل هجوم وخطر إذا دفع المعسكر الغربي عنها حضانته وابتعد عنها.
أبو الحسين على الحسني الندوي