مجلة الرسالة/العدد 985/مصطفى صادق الرافعي
مجلة الرسالة/العدد 985/مصطفى صادق الرافعي
بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة على وفاته
للأستاذ محمود أبو رية
ينقضي بانسلاخ اليوم التاسع من هذا الشهر (مايو) خمسة عشر عاماً على وفاة نابغة الأدب وحجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي، فقد انتقل رحمه الله إلى الرفيق الأعلى في فجر يوم الاثنين الموافق 10مايو سنة 1937، وانقطع من هذا اليوم وحي البيان العربي الذي كان يتنزل على قريحة هذا البليغ الكبير فتخرجه آيات من البيان العربي لا تكاد تتفق إلا للأفذاذ من البلغاء الملهمين.
وإذا كان قد جاء في الأثر أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للمسلمين دينهم، فإنه سبحانه يبعث بين الحين والحين من يجدد للغة العربية بلاغتها ويحيي في كل عصر معجزتها، ذلك أن حكمة الله لا تذر هذه المعجزة بغير أن يرسل لها من يحامي عنها، ويجدد فيها.
ولا يستريب أحد أن هذا النابغة قد بعثه الله في هذا العصر ليجدد من بلاغة البيان العربي، ويضيف من وحي قريحته إلى الميراث الأدبي.
وقد كان هو على يقين من أنه رسول بياني أرسل لتأييد بلاغة القرآن، ويحيي آدابه وأخلاقه التي هي حصون الإسلام، وأن عليه رسالة ثقيلة لا بد له أن يؤديها على وجهها، مهما ناله من العنت في سبيلها، وقد أجملها رحمه الله في قوله: -
(القبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة، ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم أنه يخيل إلى دائماً: أني رسول لغوي للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه)
وقد عاش ما عاش يجاهد في سبيل هذه الرسالة لا يمل ولا يلين، وناله في هذا الجهاد ما ينال الرسل من جهادهم من أذى، وأصابه ما يصيبهم من إرهاق حتى لقي ربه راضياً مرضيا.
وإذا كنا اليوم لا نستطيع إشباع نهم القول في نواحي هذه الرسالة لأن المقام لا يحتمل ذلك ولا يتسع له، وهذه الكلمة التي ننشئها لم تكن إلا من قبيل الذكرى في مناسبة عابرة، وكان لا بد لنا أن نعطر كلمتنا بشذا من أريج حياته، فإنا نأتي بذرة ومن جليل أعماله التي كان لها أثر خالد في الأدب العربي.
في أوائل هذا القرن ظهرت في مصر (بدعة لغوية) نادى بها ودعا إليها نفر من كتابنا، وكانت هذه البدعة تدعو إلى (تمصير اللغة العربية) بأن ندخل فيها من الألفاظ السوقية ونمزج تراكيبها بالمصطلحات العامية حتى تخرج لغة الكتابة في أسلوب يجمع كل اللهجات المصرية فيفهمها الناس جميعاً.
وكان يؤيد هذا الرأي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد باشا بما ينشره في (الجريدة) التي كان يتولى تحريرها.
وما لبثت هذه البدعة أن أنجبت مولوداً سموه (الجديد) ومعناه أن تكون لنا عربية جديدة لا نجري في بيانها على أساليب العرب الفصحاء، وأن لا نتقيد فيما نكتب بأصول البلاغة العربية وجعلوا الميراث الأدبي البليغ (قديماً) يجب أن يذهب بذهاب أهله، ولأن هؤلاء الدعاة لم يجدوا أمامهم من يذود عن هذا الميراث ويدافع عن لغة القرآن أقوى من الرافعي فقد نحلوه زعامة الأدب الذي أصبح في رأيهم (قديماً) ونشبت بينه وبينهم معارك طاحنة كان ينازلهم فيها وحده (تحت راية القرآن) في حين أنهم كانوا جمعاً كبيرا ذا قوة وجاه وسلطان، ولم يزل يكافحهم بشباة قلمه البليغ حتى قضى على تلك البدعة وما نحلت وكتب الله النصر للغة كتابه.
ومن عجيب الأمر أنك ترى اليوم بعض من كانوا يدعون إلى هذه البدع قد أصبحوا من أشد الناس تعصباً لأساليب العربية في بيانها ولغتها.
ومن مآثره التي سجلها له الأدب العربي في صحائف مفاخره أنه لما أنشئت الجامعة المصرية في سنة 1908 لم يكن من مناهجها دراسة آداب اللغة العربية فغضب غضبة مضرية وحمل حملة صادقة على إدارة الجامعة لكي تتدارك تفريطها العظيم في جنب الآداب العربية، وما لبثت هذه الإدارة أن عادت إلى الصواب وقررت تدريس آداب اللغة العربية، ولا تزال هذه الدراسة تنمى وتزدهر.
ولم يقف جهاده وفضله في هذا السبيل عند ذلك النصر؛ بل دفعه اعتزازه بلغته وتمكنه من آدابها إلى أن يخرج في هذه الآداب وتاريخها كتاباً بعد أن لم يكن لها كتاب شامل، فأظهر في سنة 1912 كتابه الخالد (تاريخ آداب العرب) ذلك الكتاب الذي لم يؤلف في موضوعه مثله؛ وبحسبك أن ترى شيح المجلات العربية (المقتطف) التي كانت تزن المؤلفات العربية بميزان دقيق قد عقدت له يوم صدوره فصلا ممتعا من إنشاء محررها العالم الجليل الدكتور يعقوب صروف تحدث فيه عن مزايا هذا الكتاب وفضائله ختمه بهذه العبارات الدقيقة:
(والكتاب حافل بالفوائد اللغوية والأدبية والنتائج الفلسفية، ولغته في المقام الأول من الفصاحة، وهو حقيق بأن يدعى كتاب الشهر الأول بل كتاب السنة، لأننا لا نتذكر أننا رأينا منذ سنة إلى الآن كتابا عربيا اقتضى جمعه وتبويبه واستنباط أدلته ما اقتضاه هذا الكتاب، وعسى أن يجد من إقبال القراء عليه ما هو أهل له)
ولم يكد الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد باشا يطالع هذا الكتاب حتى أنشأ من أجله مقالا ضافيا ملأ به صدر (الجريدة) نجتزئ منه بما يلي
قرأنا هذا الجزء فأما نحوه فعليه طابع الباكورة في بابه يدل على أن المؤلف قد ملك موضوعه ملكا تاما وأخذ بعد ذلك يتصرف فيه تصرفا حسناً. وليس من السهل أن تجتمع له الأغراض التي بسطها في هذا الجزء الأول إلا بعد درس طويل وتعب ممل.
وأما أسلوب الرافعي في كتابته فإنه سليم من الشوائب الأعجمية التي تقع لنا في كتاباتنا نحن العرب المتأخرين، فكأني وأنا أقرئه أقرأ من قلم المبرد في استعماله المساواة وإلباس المعاني ألفاظاً سابقة مفصلة عليها لا طويلة تتعثر فيها ولا قصيرة تؤدي بعض أجزائها، وإنا نكبر غرض الرافعي ونشكره على ما حققه)
أما أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله فقد جرد له مقالا بليغاً حلى به صدر جريدة (المؤيد)، مهد فيه بفذلكة نفيسة في دراسة الأدب العربي ثم استطرد إلى الإشارة بفضل هذا الكتاب وكان مما قاله:
(. . . كتب تاريخ الآداب العربية، ولم تكن الآداب وقائع تؤرخ ولا أدوارها عند العرب مما يسهل تتبعه وتبصر أعلامه على نصب من تآليف سابقة، بل هي أعلام طامسة ودروس دارسة، فرع لها ذلك الكاتب الضليع طنوب التحقيق حتى جمع من عظامها المبثوثة ورمامها المبعثرة هيكلا صحيحاً. وزاد بهجته ووفر شطر حسنه ما أوتيه من ملكة العربية الفصحى والتمكن من ناصية التعبير عن كل ما أراد، فلو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه منه لاستحق أن يحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار لكان جديرا بأن يعكف عليه).
وقد صدر من هذا الكتاب جزء ثان في (إعجاز القرآن) نجتزي
في بيان قدره، بما وصفه سعد زغلول به، وهو شيخ زعماء
مصر، وأبلغ سياسي في هذا العصر، وهاك جملا من خطاب
طويل أرسله إلى الرافعي من مسجد وصيف مؤرخ
1111926
(. . . ولكن قوما ما أنكروا هذه البداهة (أي عجز أهل البيان عن الإتيان بمثل القرآن) وحاولوا سترها فجاء كتابكم (إعجاز القرآن) مصدقاً لآياتها، مكذبا لأفكارهم، وأيد بلاغة القرآن وإعجازها بأدلة مشتقة من أسرارها في بيان مستمد من روحها، كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم.
فلكم على الاجتهاد في وضعه والعناية بطبعه شكر المؤمنين وأجر العاملين والاحترام الفائق)
وهذا الخطاب لم يكتب مثله هذا الزعيم الكبير لأحد غير الرافعي، ولا جاء في التاريخ كله كلمة في وصف كتاب مثل هذه الكلمة البليغة.
ومما يملأ القلب حسرة والنفس أسى أن قضى الرافعي رحمه الله قبل أن يتم هذا الكتاب، ومما يزيد في الأسى ويضاعف في الحسرة أنا لم نجد من أدبائنا الكبار من يتقدم ليحمل هذا العبء ويقوم بأداء هذا الواجب الذي هو في الحقيقة دين في أعناقهم جمعياً لا تبرأ ذمتهم منه حتى يؤدوه كاملا، وهم غير معذورين، وبخاصة فإن الأمور الآن ممهدة والطرق معبدة، وللأدب العربي عديد من الكليات بالأزهر والجامعات.
والحسرة في مثل هذا الأمر لا يضارعها إلا حسرة أخرى على تفسير القرآن الحكيم الذي أخرجته قريحتا الإمامين الجليلين محمد عبده والسيد رشيد رضا رحمهما الله فإنما - وا أسفا - لم نجد (عالماً) من علمائنا (وهم ألوف) قد نهض لإتمام هذا التفسير، وكأن الأزهر (المعمور) قد عقمت أمه فلم تلد بعد الأستاذ الإمام محمد عبده أحداً. رحمه الله ورحم تلميذه النجيب السيد رشيد رضا.
ولقد كنا قرأنا منذ أكثر من ربع قرن في المقدمة التي أنشأها الدكتور طه حسين باشا لكتاب فجر الإسلام، أنه فرغ من وضع الجزء الأول من تاريخ الأدب العربي ففرحنا وانتظرنا أن تشرف علينا غرة هذا الجزء وما يليه، ولكن انتظارنا ذهب عبثاً.
ولقد كان للرافعي أسلوب في البلاغة خاص به بائن بنفسه لا يشاركه فيه أحد من الكتاب، يعرفه كل من وقف على أساليب الكتابة العربية حتى لو أخفاه عن الناس.
كنت مرة مع الأديب الكبير عبد الرحمن البرقوقي نجلس على أحد الأندية بالقاهرة في سنة 1921 ومر بنا بائع الصحف فتناول منه رحمه الله (جريدة الأخبار) وأخذ يقرؤها وإذا به يجد في صدرها كلمة أخذت نصف عمود عنوانها: (عجيبة لغوية - جنود سعد) ما كاد يقرؤها حتى دفع لي الصحيفة وقال: ترى لمن هذه الكلمة. ودفع لي الجريدة فقرأتها وقلت له: إن الظن الغالب أنها للرافعي ولم يكن قد وضع اسمه عليها. فقال هي له من غير شك ولا يستطيع غيره أن ينشئها.
وكان رحمه الله يعنى بتجويد عباراته ويبالغ في صقلها حتى تخرج في أروع صورة من البيان العربي، وكان لا يترخص في ذلك ولا يتسهل.
قلت له مرة بعد أن ظهر كتاب (حديث القمر) إن طائفة كبيرة من القراء لا تبلغ إفهامهم بعض عبارات هذا الكتاب، والرأي أن تنشئ كلاما لا يعلو على إفهام القراء! فغضب وقال: أتريدني على أن أنزل بأسلوبي إلى إفهام عامة القراء؟ إني أريد أن يرتفعوا هم إلى لا أن أهبط أنا إليهم، ولأن يكون لي ألفان من القراء الذين يفهمون أساليب العربية العالية خيرا لي من أن يكون لي عشرات الألوف من عوام القراء.
وجرى بيني وبينه مرة حديث عن أسلوب المغفور له الدكتور زكي مبارك فكان من قوله: إنك مهما قرأت له فإنك لا تكاد تجد من إنشائه عبارة بليغة يشرق منها نور البيان، وهو لا يعتبر شاعرا ولا ناثرا! فقلت له: وماذا يكون إذن بين كتاب البيان فقال (سمه نثرورا!) وهذه اللفظة التي استمرئها قد قاسها على لفظة شعرور. وقد كان مجتهدا في اللغة وله رأي في القياس اللغوي مبثوث في كتبه، وقد نشرناه في الرسالة على ما نذكر.
وإذا كان الدكتور زكي مبارك رحمه الله في رأي سيد البلغاء (نثرورا! فسترى ماذا تكون درجات أولئكم الذين يظنون أنفسهم أنهم من كبار الكتاب ويسودون الصحف كل يوم بما يكتبون؟؟
ومن عجيب أمر هذا الرجل أنه كان من عزة النفس وكبريائها بحيث لا يخض لإنسان ولا ينافق لمخلوق ولا يستعين بكبير ولا يستنصر بوزير كأنه الجبل الأشم الذي لا يستند إلى شيء، وأن مرد ذلك إلى قوة إيمانه وكما يقينه، ومن كان مثله في قوة الإيمان وخالص التوحيد فإنه لا يستعين إلا بالله ولا يخشى إلا الله ولا يتوكل إلا على الله الذي إليه يرجع الأمر كله.
هذا ما تيسر لنا اليوم من القول في هذا العظيم الذي خلا مكانه، لا ريب كما يقول العرب، وهذه الكلمة التي نرسلها اليوم في ذكرى وفاته إنما هي سطر نضعه على هامش تاريخه الحافل بالمآثر والمفاخر إلى أن يأذن الله بتدوين هذا التاريخ الذي لا نظن أن أحدا يستطيع أداءه إلا إذا كان في مثل بلاغته حتى يأتي به كاملا على حقيقته.
ولعلنا بهذه الكلمة الصغيرة نكون قد أدينا بعض ما يجب علينا في هذه المناسبة، وأن تكون آية وفاء لشيخنا الرافعي رحمه الله، وتحية طيبة تصعد إلى روحه الطاهرة في الملأ الأعلى يرضى هو بها ويرضى الله عنها.
محمود أبو رية