مجلة الرسالة/العدد 987/أبو العتاهية

مجلة الرسالة/العدد 987/أبو العتاهية

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 06 - 1952



للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي

أبو العتاهية والرشيد:

ليس يعنينا من حياة الشاعر في عهد موسى الهادي إلا ما أظهره الأول من قصر النظر ونكران الجميل، فقد كان الشاعر أثناء حكم المهدي صنيعة من صنائع هارون الرشيد، وكان ذلك بالطبع بغضب الهادي للمنافسة التي كانت بين الأخوين. وم يكد الأخير يلي الحكم حتى أقبل عليه الشاعر إقبال المنقطع إليه، وأعرض عن هارون بل آذاه إيذاء مريراً لا ضرورة إليه ولا مبرر له. . انظر إليه كيف يعرض بهارون في أبيات قالها مهنئاً الهادي بمولود:

أكثر موسى غيظ حساده ... وزين الأرض بأولاده

وجاءنا من صلبه سيد ... أصيد في تقطيع أجداده

كأنني بعد قليل به ... بين مواليه وقواده

في محفل تخفق راياته ... قد طبق الأرض بأجناده

من ذلك الحاسد الذي أكثر موسى غيظه؟ أليس ذلك الحاسد هو الرشيد؟ إننا لا نشك في أن ذلك هو مراد الشاعر؛ إذ أن نزاعاً مريراً كان قائماً إذ ذاك بين الرشيد والهادي بسبب محاولة الأخير تولية ابنه جعفر العهد بدلا من هارون ولي العهد الشرعي.

فليس عجيباً والحال كذلك أن يبادر الرشيد بإرسال أبي العتاهية إلى السجن عقب تولية الخلافة عقاباً له على ما أظهره من نسيان للجميل وخروج على مقتضيات اللياقة. بل العجيب حقا أن يذكر صاحب الأغاني أن الرشيد إنما أرسل الشاعر إلى السجن لامتناع الأخير عن إنشاد شيء من الشعر له، وما امتنع فيما يرويه الأغاني إلا حفظاً لعهد الهادي وضنا بشعره أن ينشد لأحد من بعده، وكيف يصبر الرشيد على هذا العبث، بل كيف ينسى للشاعر تعريضه به في شعره وهو الذي قتل أبا عصمة رئيس حرس جعفر بن الهادي لقوله له يوماً وقد قابل جعفر على أحد جسور بغداد: - (انتظر حتى يمر ولي العهد).

ومهما يكن من أسباب تلك الجفوة القصيرة فقد عادت الحال بين الرشيد والشاعر إلى ما كانت عليه من قبل، ونسي الخليفة أو تناسى ما كان من سوء أدب الشاعر وقلة وفائه.

والحق أن هارون كان مضطرا إلى مثل ذلك التغافل والتجاوز عن سيئات الشاعر إذ لم يكن له غنى عنه. فهارون مولع الفتيات الحسان يحادثهن ويختلط بهن ويسمع إليهن ينشدن الشعر ويغنينه أو يعزفن على نغماته، وما أكثر ما يجيش في صدر الخليفة من عواطف أو يعتلج بباله من خواطر نتيجة لاختلاطه بأولئك الجواري الحسان. وما أشواقه إلى أن يرى خواطره وقد ترجمت في شعر عذب وصارت أغاني وأناشيد تصدح بها جواريه الفاتنات. يروى لنا التاريخ - وما اقل ما يروي بجانب ما يهمل - أن الرشيد ربما أنشد البيت أو البيتين محاولا التعبير عن فَكرة أو خاطر خطر له ثم يكل ذهنه، وهناك يتلفت إلى من حوله من الشعراء علهم يسعفونه بإتمام ما بدأ. ويروي التاريخ أيضاً أنه ربما أعجب الرشيد بالبيت أو البيتين من الشعر وشرب عليهما وطرب وتمنى أن لو وجد من الشعراء من يلحق بهما بيتاً أو أكثر حتى يطول طربه وسروره، ومن أولى الناس بالجلوس إلى جانب الخليفة وإسعافه في مثل تلك الحال من أبي العتاهية الذي يقول فيه بشار بن برد وقد عجب من سرعة خاطره وسهولة قول الشعر عليه: (أشعر الناس مخنث أهل بغداد الذي يتناول شعره من كمه)

على أن شيئاً آخر كان يزيد في تعلق الرشيد بأبي العتاهية وشغفه بشعره وذلك هو حبه لعتبة، فقد خلق ذلك الحب بين الشاعر والخليفة نوعاً من المشاركة الوجدانية حيث كانا يجتمعان فيشكو كل منهما ما يلاقي في سبيل غرامه. ولعل الأبيات التالية تصور لنا أدق تصوير ما كان بينهما من علاقة في ذلك الشأن، وقد بلغ من تذوق الخليفة لتلك الأبيات وإحساسه بصدق معانيها أن أمر بإحضار الشاعر من سجنه وطلب إليه أن يعيد إنشادها على مسامعه ثم أمر له بخمسين ألف درهم على أثر سماعها، وإليك الأبيات: -

يا عتب سيدتي أمالك دين ... حتى متى قلبي لديك رهين

وأنا الذلول لكل ما حملتني ... وأنا الشقي البائس المسكين

وأنا الغداة لكل باك مسعد ... ولكل صب صاحب وخدين

لا بأس إن لذاك عندي راحة ... للصب أن يلقى الحزين حزين

أحس أبو العتاهية حاجة الرشيد الشديدة إليه فداخله شيء من الغرور والبطر، ولم يعد يكفيه أن صار جليس الخليفة وشاعره الأول، وفي ذلك ما فيه من تكريم، ولا أن يتناول كل عام خمسين ألف درهم عدا ما يتفضل به الخليفة من منح وعطايا في شتى المناسبات، بل أخذ يلح عليه في أن يزوجه من عتبة، ولم لا؟ لقد كانت عتبة فيما مضى تعتذر عن الزواج بأنها كانت تخشى غضب المهدي أو زوجه. . أما الآن وقد ماتا وأصبح أمها بيد هارون فما الذي يقف في سبيل زواجه منها؟ ولم يكن الرشيد متحمساً لذلك الزواج، ولعله كان يعرف من أمر عتبة الشيء الكثير، وبعلم مقدما أنها لن توافق عليه، ومن ثم أخذ يكسب الوقت بإعطائه ميعاداً إثر ميعاد، واستمرت الحال على ذلك عشر سنوات كاملة. عشر سنوات ملأت الشاعر نقمة على ذلك الخليفة الذي يشرب ويطرب على ما أنشده الشاعر في عتبة من أشعار أودعها ذوب قلبه وعصارة نفسه، ثم لا يتحرك لإنقاذه أو يخف لتخفيف آلامه. نعم يروى المؤرخون أن الرشيد زار عتبة يوما من الأيام وفاتحها في شأن الزواج من أبي العتاهية فرفضت، فعاد الخليفة أدراجه واعتبر الأمر منتهيا. وما كان الشاعر من السذاجة بحيث يعتقد أن هارون مع ما كان عليه من بطش وجبروت قد عجز عن أن يحمل عتبة على الزواج منه لو أنه أخذ الأمر بشيء من الحزم والجد. وهكذا وقر في نفس الشاعر أن عشر سنوات كاملة كلها إخلاص وتفان في خدمة الرشيد ما كانت لتوجب للشاعر عليه وقفة واحدة حازمة، وقفة لو أنها تمت لغيرت من حياة الشاعر وذهبت بكل ما كان يعانيه من بؤس وحرمان، وما يحسه من ضعة وهوان. ومن الحق أن يقال إن عتبة لن تكن في نظر الشاعر مجرد فتاة ينالها أو يفشل في الحصول عليها، وما كان أهون خطبها لو كانت كذلك، فما أكثر أولئك الذين يحبون ويفشلون ثم لا يغير ذلك الفشل من مجرى حياتهم أو يضع من أقدارهم أو يسئ علاقتهم بغيرهم، ولكن لشاعرنا ظروفا خاصة. فقد كان فشله في الزواج من عتبة الدليل الواقعي على صحة ما كان يهجس في نفسه وما يتحدث به أعداؤه ومنافسوه من أنه وضيع بحكم مولده ونشأته. . وأن أي نجاح أدبي أو ثراء مادي لن يغير من تلك الحقيقة شيئا. . ومكن ذلك المعنى في نفسه إشارة عتبة أثناء رفضها الزواج منه إلى نشأته المتواضعة. ومن ثم ود الشاعر لو بدد تلك الهواجس التي كانت تلاحقه واكتسب ثقة بنفسه عن طريق الزواج من عتبة.

ونعود إلى هارون فنرى الشاعر وقد مل مقامه عنده وغناءه له، وتمنى أن لو وجد بابا غير بابه يذهب إليه، وقد سنحت له الفرصة سنة ثمانين ومائة للهجرة، فقد تولى الفضل بن الربيع حجابة الرشيد في تلك السنة، وأخذ يضع الخطة لتقويض سلطة البرامكة، وسلاحه الأول في ذلك الدس والوقيعة، ذلك السلاح الفتاك الذي استعمله والده بنجاح ضد منافسه أبي عبيد الله وزير المهدي. ولكمن أنى له ذلك وهارون وجعفر البرمكي روحان في بدن واحد وجالس المنادمة والغناء تجمع بينهما من يوم لآخر، فإذا ما شربا وطربا تكاشفا حتى لا يكاد يخفي أحدهما عن أخيه شيئاً. فكيف يكون الحال لو كذب الفضل كذبة أو افترى فرية وألقى بها في أذن الرشيد فاكتشفها جعفر ولما تعمل عملها في نفسه بعد؟

لابد إذن لضمان نجاح خطة الفضل والتأكد من سريان سمومه في ذهن الرشيد ومن وضع حد لتلك المجالس الصاخبة التي تجمع بينهما، فلينتزع الفضل من مجلسهما إذن أبا العتاهية حتى لا يشيع البهجة والمرح فيه بما يمدهما به من شعر الغناء، بل ولتوحد الوسيلة للتشهير بتلك المجالس، وليذكر الناس بما فيها من مخالفة للدين، ولتوضع الأشعار للتنفير منها وممن يرتادها من الناس.

ومن أولى بأداء تلك المهمة من أبي العتاهية فهو ساخط على الرشيد بل ساخط على الحياة والأحياء جميعا، وهو رجل حريص يحب المال ويسعى إليه ولا يبالي يما يركبه من أهوال في سبيل الحصول عليه، وهو قبل كل ذلك شاعر مطبوع قادر على قول الشعر في كل فن وبكل مناسبة. فاتح الفضل أبا العتاهية في ذلك الأم، وأيأسه من هارون ومن عتبة ووعده الحماية من كل سوء أو مكروه يصيبه بسبب إعراضه عن الرشيد وهجره لمجالسه، ووعده إلى جانب ذلك مالاً كثيراً إن أنصت إليه واستجاب لرجائه. وانضمت زبيدة إلى الفضل، فهي حريصة على وضع حد لمجالس اللهو والطرب التي كان يجلسها الرشيد لأسباب لا تقل وجاهة عن تلك الأسباب التي حملت الفضل على بغضها والعمل على فضها، إذ أن تلك المجالس تجمع بين الرشيد والجواري الحسان من مغنيات وراقصات وعازفات، وفي ذلك ما فيه من استهواء للرشيد وشغل له عن زوجه وابنة عمه زبيدة.

وما إن سمع الشاعر ذلك العرض حتى قرر أن يقف من الرشيد موقفاً حازماً لا تردد فيه ولا هوادة، فأخبر الرشيد أنه لن يقول شعراً في الحب ما لم يخط خطوة عملية في شأن تزويجه من عتبة التي تلهمه ذلك الشعر.

وتعقد الموقف حين ثارت ثائرة الرشيد. . فأمر بإرسال أبي العتاهية إلى السجن وأقسم إلا يخرجه منه حتى يقول شعرا. وهنا أقسم الشاعر أيضاً أنه لن يتكلم سنة إلا بالقرآن أو. . . لا إله إلا الله، وتلك حيلة بارعة من الشاعر. . فهو يعطي الخليفة سنة كاملة كي يصحح موقفه فيها فإن رجع لصوابه وزوجه من عتبة عاد إلى حظيرته. . وإن أبى إلا إهمال الشاعر والاستهانة بشأنه انضم إلى معسكر الفضل وزبيدة غير آسف ولا متردد، ولم ينس الشاعر أن يكتب إلى الخليفة من سجنه بأشعار ذات مغزى واضح، أنظر إليه وهو يجادل الرشيد جدالا منطقياً ويعجب له كيف يطلب إليه أن يقول شعراً في الحب وقد حرمه من عتبة التي كانت تلهمه ذلك الشعر: -

وكلفتني ما حلت بيني وبينه ... وقلت سأبغي ما تحب وما ترضى

فلو كان لي قلبان كلفت واحداً ... هواك وكلفت الخلى لما يهوى

ثم انظر إليه وهو يذكر الرشيد بمواعيده التي لا تنتهي إلى غاية: -

يا رشيد الأمر أرشدني إلى ... وجه نجحي لا عدمت الرشدا

وابلائي من دعاوى أمل ... كلما قلت تدانى بعدا

وأمني بغد بعد غد ... ينفد العمر ولم ألق غدا

ومضت السنة ولم يستجب الرشيد أو قل لم تستجب عتبة لدعاء الشاعر الذي لم يجد بدا من الانضمام إلى المعسكر الآخر، متخذاً لنفسه أسلوباً جديداً في الحياة، يفي بأغراض زبيدة والفضل ويقضي حاجات في نفسه هو، وتلك الحاجات هي التنفيس عن عواطفه المكبوتة، والتعبير عما بكنه للحياة والأحياء من سخط ونقمة.

وبعد فقد بينا هنا ما كان للفضل وزبيدة من أثر في ذلك الانقلاب الذي طرأ على الشاعر سنة ثمانين ومائة للهجرة، وسنكشف في المقال التالي بعون الله تعالى عما لدينا من أدلة تثبت أن اتفاقاً كهذا قد تم بين الفضل وزبيدة من جهة وأبي العتاهية من جهة أخرى.

دكتور محمد الكفراوي