مجلة الرسالة/العدد 987/تاريخ الحركة العلمية الحديثة في حضرموت

مجلة الرسالة/العدد 987/تاريخ الحركة العلمية الحديثة في حضرموت

مجلة الرسالة - العدد 987
تاريخ الحركة العلمية الحديثة في حضرموت
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 06 - 1952



للأستاذ أحمد عوض باوزير

قبل خمسين عاما، أو أكثر كانت (حضرموت) تعيش في عزلة تامة عن تطورات الثقافة في الأقطار العربية. وكانت دور (الكتاتيب) التي عاشت إلى وقت متأخر جدا هي كل ما هناك من مظاهر الحياة العقلية والعلمية.

ويجوز أن تكون (حضرموت) قد عرفت من مظاهر الحياة العلمية والعقلية غير هذه (الكتاتيب). إلا أننا لا نستطيع أن نحدد، من الناحية التاريخية، معالم تلك الحياة، أو نتبين آثارها الأدبية. فإن دراسة تاريخ الحياة الأدبية، والسياسية، والعقلية في حضرموت ليس من المتعذر فحسب وإنما كذلك عمل شائك لا يخلو من المفارقات والملابسات.

ونحن لا نريد أن نتبع مذهب (ديكارت) في هذه الدراسة العلمية، أو مذهب (الشك) كما يسميه الدكتور (طه حسين)؛ لأننا في فجر هذه النهضة الحديثة نطمع في الظفر بمعلومات أوفى، عن مظاهر الحياة العقلية، والعلمية. ولقد سررنا كثيرا، للفتوحات الجديدة، في التأليف عن التاريخ العام لحضرموت، وهي الفتوحات التي بدأها الأستاذ (صلاح عبد القادر البكري) حين أخرج كتابه (تاريخ حضرموت السياسي) وهو تعريف موجز بالحكومات السياسية، التي تعاقبت على (حضرموت) منذ صدر الإسلام إلى أواخر عهد السلطنات القائمة.

أما بعد: فإن (الكتاتيب) التي أثبتنا أنها كل ما بقي لنا من مظاهر الحياة العقلية والعلمية، فيما قبل الخمسين عاما الماضية لا ينفي أن يكون هناك من (النوابغ) من كانت ظروف حياته المعاشية أو أحاول استعداده الفطري قد أعانته على التفوق في العلوم الدينية والعربية، غير أن هذه (الحالات) الفردية لا يصح أن تكون مرآة صادقة للحياة العقلية والأدبية.

والذي يمكن الاطمئنان إليه في معرفة نشأة الحياة العقلية، في (حضرموت) هو أن ظهور المدرسة القديمة، أو ما يسمونه (بالمجامع العلمية)، في أوائل القرن الرابع عشر الهجري كان بداية طبيعية لتلك الحياة. وهذه (المجامع) تشبه إلى حد ما في نظام دراستها، تلك الجوامع القديمة التي كانت منتشرة في حواضر الدولة العباسية.

وأشتهر هذه (المجامع) التي نريد التنويه بفضلها هو (مجمع الشاطري) في سيئون، ومجمع (ابن سلم) في الفيل، ومجمع (مشهور) في الشحر. والمجمعين الأولين، أكثرهما تأثيرا في الحياة العقلية، وأبعدهما خطرا، في الحياة الاجتماعية. وإليهما ينتسب أغلبية (المتعلمين) من ذوي الكفاية النادرة، والإنتاج الرفيع. وقد كان يقوم بتدريس اللغة العربية، وأصول الشريعة الإسلامية فيهما أساتذة قديرون حذقوا تلك (الاختلافات) في المسائل الفرعية التي امتلأت بها كتب (الحواشي) المطولة و (الشروح) التقريرية.

ويكفي للتدليل على أهمية هذه (المجامع العلمية) أن يكون من خريجيها أمثال السيد (ابن هاشم العلوي) والمرحوم الشيخ (عبد الله محمد بن طاهر) والأديب المؤرخ (سعيد عوض با وزير) والسيد (محسن جعفر بوفمي). وغيرهم كثيرون.

وهذا لا يمنع أن يكون لدينا من الملاحظات عن هذه (المجامع العلمية) ما يفيد في تصوير الأحوال، داخل هذه (الجوامع). وهي ملاحظات استخلصناها أثناء مراجعاتنا للأنظمة التعليمية في المدة الحاضرة، وأولى هذه (الملاحظات) هو ما نسميه اليوم (بفوضى المناهج) فالطالب في هذه (المجامع) لا يمكن أن يتقيد (بالزمن) سواء أكان في التحاقه، أو في الأعوام الدراسية أو في مواعيد حضوره وغيابه.

وقد يبدو أن هذه (الملاحظة) ليست على شيء من الأهمية، أو الخطورة والعكس - في نظرنا - هو الصحيح. فإن هذه (الفوضى) تكون قد حرمت الكثير، الفرصة للاستفادة من (المواعيد) ولذلك تضطرهم إلى البقاء داخل هذه (الجوامع) أعواما أطول.

وثاني هذه (الملاحظات) أن هذه (الجوامع) تسرف كثيرا في مناقشة (الآراء) المتضاربة أو ما يسمونه بأقوال (الحواشي) وهي أقوال عديمة الفائدة، وتؤثر في نفسية (الطالب) تأثيرا خطيرا ينتهي به إلى (الفناء) وسط تلك (الحواشي) ويبعده عن الجوهر والعرض.

وهناك غيرهما من (الملاحظات). غير أننا لسنا بصدد الدراسة الخاصة. وفي هذا القدر الذي أثبتناه ما يكفي للتعريف بأحوال (المجامع) ونظام دراستها.

وظهرت في هذه الأثناء (المدرسة الحديثة) وهي تختلف تمام الاختلاف عن نظام الدراسة في تلك (المجامع العلمية). وأولى هذه المدارس هي مدرسة (الدباغ) في المكلا. وكان قد دعا إلى تأسيسها السيد (حسين آل الدباغ) وهو من الحجازيين الذين فروا على أثر الحملة النجدية الوهابية.

وأنشأت (مدرسة الدباغ) في المكلا فرقة للكشافة، كانت أول فرقة منظمة. كما قد أجازت تعليم (الجغرافيا) و (التاريخ) و (الأشياء) وهي العلوم التي كانت (العامة) تعتقد أنها تفسد الدين، وتؤذي (الأسلاف). .

وعلى أثر ارتقاء عظمة السلطان (صالح بن غالب القميطي) عرش السلطنة القميطية، تغيرت الحياة العلمية تغيرا كبيرا. واقترن عهده (الزاهر) بالنهضة الحديثة التي سنأتي على وصفها في النبذة التالية: -

وقبل الإفاضة في الحديث عن مقومات النهضة الحديثة نعود إلى ذكر الحكومات السياسية المعاصرة التي تحكم (حضرموت). وهي الحكومات التي ترتبط و (الدولة البريطانية) بمعاهدة التحالف والصداقة، وأكبر هذه الحكومات نفوذا، وأوسعها رقعة. هي الحكومة (القميطية). ويتولى عرش هذه الحكومة، عظمة السلطان (صالح بن غالب القميطي) وهو يحكم القطاع الساحلي، ومناطق أخرى في البلاد الداخلية؛ وأشهر مدنها (المكلا). وهي من الموانئ الهامة في جنوب الجزيرة العربية، وعاصمة الحكومة القائمة. و (الشحر) وهي المدينة التاريخية القديمة. و (الفيل) وهي من المناطق الزراعية، ومركز النهضة العلمية الحاضرة. و (شيام) وهي مدينة التجارة.

وثاني هذه (الحكومات) هي الدولة الكثيرية. وهي من الحكومات القديمة التي يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثامن الهجري. ورئيس الحكومة الحالي هو السلطان (حسين بن علي بن منصور الكثيري) و (تريم) و (سيئون) وهما من المراكز العلمية والأدبية في تاريخ النهضة - يخضعان (للحكومة الكثيرية) والأولى من المدة التاريخية القديمة، والثانية عاصمة الحكومة الحاضرة، ومهبط الأدباء، والمؤرخين من المحدثين.

وهناك غيرهما من الحكومات. وهو ما نسيمه بالحكومة القبلية. ولكن هذه الحكومة آخذة في الزوال بفضل سياسة دار المستشار البريطاني المقيم التي دأبت على نشر الأمن العام والقضاء على العصاة، من الخارجين عن الحكومتين، الفعليتين.

ولعل من أبرز مقومات النهضة الحديثة، في بلدان السلطنة القعيطية، هو تلك الجهود الصادقة التي يبذلها عظمة السلطان لتشجيع الحركة العلمية والاقتصادية. فقد ظل يتغشاهما برعايته ويتعدهما بتوجيهه وإرشاده. وكان قد عهد إلى دار المستشار البريطاني المقيم في وضع تقرير شامل لإصلاح التعليم. ووضع هذا التقرير، عميد معهد التربية بالسودان المستر (قرفت) بدعوة من الحكومة القعيطية، ووكل المستر قرفث إلى الأستاذ (القدال) تنفيذ تلك المقترحات. وهو من المواطنين السودانيين.

والأستاذ القدال هو الذي تولى بعد ذلك، سكرتارية الدولة القعيطية. بعد أن أمضى عشر سنوات، في خدمة التعليم بحضرموت، وتم في العشر السنوات الماضية 1939 - 1951 توحيد المنهج العام وترميم المدرسة الوسطى. وإنشاء مدرسة المعلمين والثانوي الأصغر والمعهد الديني الجديد. ووسعت خزينته الدولة الإنفاق على هذه المشاريع العلمية، كما استجلبت عددا من الموظفين السودانيين للعمل على تنفيذ توصيات المستر قرفت بشأن تقدم التعليم.

وقد تم في السنوات الخمس الماضية إيفاد المبعوثين من خريجي التعليم الأوسط، إلى المدارس الثانوية في مصر، والسودان، وسرويا، والعراق. وقد عاد بعض هؤلاء إلى حضرموت والتحقوا بالمصالح الحكومية في الدولة.

ومن المآثر الطيبة التي خلدها عظمة السلطان، هو تأسيس المكتبة السلطانية بالمكلا، وهي من المكتبات الشهيرة، وتضم من المؤلفات القديمة والحديثة ما يربو على الثلاثة الآلاف في مختلف الفنون والعلوم.

وعلى الرغم من النقص المالي الذي تعانيه خزينة الدولة الكثيرية فإنها لم تقصر في العناية، بالشؤون التعليمية. فقد أنشأت المدرسة السلطانية في سيئون. وتولى إدارتها على التوالي، السيد محمد بن هاشم العلوي والسيد علي بن شيخ بلفقيه، وتدرس الحكومة الحاضرة مشروعا جديدا. لإنشاء نظارة للمعارف. وأعربت دار المستشار البريطاني عن استعدادها لتقديم الإعلانات المالية لهذا الغرض. ويقوم السيد علي بن شيخ بلفقيه في هذه الآونة بدراسة نظام التعليم الحالي في مدارس الدولة القعيطية، وهو من المتحمسين للفطرة والداعين إلى الوحدة.

وهناك غير هذه المدارس الرسمية في الحكومتين المدارس الأهلية، وهي تسير وفق مناهج خاصة، مقتبسة من مناهج التعليم في البلاد العربية، ولا يزال التعليم الأهلي يفتقر إلى الجهود الكثيرة، والإعانات المالية، ليؤدي رسالته العامة على الوجه الصحيح.

ويقترح الأستاذ صلاح عبد القادر البكري في كتابه الجديد عن رحلته في جنوب الجزيرة العربية، أن يقوم المسئولون، في نظارة المعارف على إجراء تعديل شامل، في المنهج السوداني ليتمشى والأحوال الطبيعية، والتربوية في حضرموت.

هذا هو تاريخ الحركة العلمية الحديث. في حضرموت. أجملناه في هذه الصفحات. وهو تعريف بأوجه النشاط العلمي والثقافي في الخمسين عاما الماضية من تاريخ حضرموت. نرجو أن يفيد في التعريف، بهذه البلاد العربية، التي تسعى حثيثا إلى النهضة والرقي.

أحمد عوض باوزير