مجلة الرسالة/العدد 987/إن إلهكم لواحد. .
مجلة الرسالة/العدد 987/إن إلهكم لواحد. .
للأستاذ قطب
عجيب هذا القرآن! يقرؤه القارئ ويعيده، ويحفظه ويرتله، ويفسره ويفهمه، ويخيل إليه أنه قد استوعب معانيه، وأدرك مراميه، ويمر بالنصوص بعد هذا مرا عابرا، غير متوقع أن يجد فيها جديدا غير ما فهمه منها ووعاه.
وفجأة يتلو أو يستمع، فإذا إنبثاقات جديدة عجيبة للكلمة وللآية تلتمع في الذهن والحس والقلب، لم تخطر من قبل أبدا؛ وإذا آفاق من التأملات والمشاعر والتأثيرات تتفتح، لا يدري أين كانت مخبوءة في النص الواضح البسيط!
وهكذا يبدو أن رصيد هذا الكتاب العجيب الخالد لا يغني ولا ينتهي، وأن معين الإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض، وأن الدنيا ستظل تكتشف فيه آفاق، كلما استعدت طاقاتها لتلقي ما فيه من إيحاءات: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
تلك الآية البسيطة القصيرة التي عنونت بها هذه الكلمة (إن إلهكم لواحد). . كم من مرة تلوتها، وكم من مرة سمعتها، وكم من مرة ضمنتها. . ولكنني أنتفض فجأة على لمسة منها لروحي وحسي ومشاعري جميعا. لمسة لم أعهدها من قبل فيها، على طول صحبتي للقرآن، وعلى طول عيشي في ظلال القرآن. .
إن إلهكم لواحد. .
إنه مفرق الطريق في حياة البشرية. . أنه الانقلاب الأكبر في خط سيرها الطويل. . الانقلاب من العبودية إلى الحرية، من الخوف إلى الأمن، إلى الهدى والنور والنظام. أنه إعلان وجود الإنسان، الذي لا يستذل لإنسان مثله، كائنا من كان.
وإنني لأنظر إلى البشرية في تاريخها المتطاول، قبل أن توحد الإله، فأطلع على صحائف من الهوان، وعلى أودية من الحيرة، وعلى ألوان من القلق. . الأوهام تسحقها، والمخاوف ترهقها، والعبودية تطحنها. . وإن هي إلا جملة واحدة. جملة مشحونة بما يملأ صفحات وكتبا. بل بما يشغل أجيالا وقرونا. جملة واحدة تغير وجه التاريخ، وطبيعة الحياة، وضمائر الملايين، وعلاقات الأفراد والجماعات؛ وتلغي كتاب البشرية كله لتخط صفحة خالدة في كتابها الجدي إن إلهكم لواحد. .
هو وحده القادر، وهو وحده القاهر. . لو اجتمع أهل هذه الأرض على أن يضروا أحدا من خلقه بغير إرادة منه ما قدروا؛ ولو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوا من خلقه بغير إرادة منه لما استطاعوا: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب)
إن إلهكم لواحد. .
لا تعنو الحياة إلا له، ولا تتوجه القلوب إلا إليه، ولا تنحني الهامات إلا لجبروته. . فإذا عفرت له الجباه مرة فقد عزت أمام الجبابرة. وإذا ركع له الراكعون مرة فقد نصبوا هاماتهم أمام الطغاة، وإذا عبده العابدون فإن العزة لله ولرسول وللمؤمنين.
إن إلهكم لواحد. .
هو وحده والكل سواه نمال. هو وحده والكل دونه ضئال. هو وحده يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير)
إن إلهكم لواحد. .
عقيدة ما أحوج المكافحين إليها. . تشد من عزائمهم، وتمنحهم القوة التي لا تصمد لها قوة، وتصلهم بالواحد الأحد الذي يجير ولا يجار عليه.
ما أحوجنا إلى هذه العقيدة - ونحن نجتاز امتحاناً عسيراً، سقطت فيه رجولات كثيرة. رجولات زائفة مموهة، خدعت الكثيرين. حنى إذا جاء دور الامتحان تهاوت تحت مطارقه، وتساقطت ذابلة صفراء كأوراق الخريف.
ما أحوج الذين جبنوا بعد تشجع، وتخاذلوا بعد تماسك، وأحجموا بعد إقدام. . . ما أحوجهم جميعا أن يتدبروا تلك الآية القصيرة، وأن تلمس قلوبهم جذوتها المقدسة، فيرتد الجبناء شجعاناً، والمتخاذلون أقوياء، والمحجمون أجرياء،. ويستشعروا كرامة الإنسان التي تأبى ذل الإنسان.
ألا كم سقطت رجولات مزيفة في غمرة الامتحان. . سقط بعضها تحت مطارق الخوف، وبعضها تحت مطارق الطمع، وبعضها تحت مطارق الحرص، وبعضها تحت مطارق الجشع، وبعضها تحت مطارق الذل، وبعضها تحت مطارق الإرهاب. . . وكلها. . كلها ما كان أحوجها إلى لمسة من ذلك الروح، تنفض عنها الخوف والمطامع، وتطهرها من الحرص والجبن، فتتطلع إلى أعلى دون انحناء، وتعتز بالجبار القاهر فلا تعفو منها الجباه.
انتفضت كل هذه المعاني انتفاضة مفاجئة في نفسي، وأنا أمر مروراً عابراً بتلك الآية القصيرة الواضحة البسيطة. . فإذا جبابرة الأرض كلهم في عيني أقزام. . وإذا طغاة الأرض كلهم في حسي أوهام. . وارتسمت في نفسي بحروف من نور كلمات أخرى من ذلك القرآن.
(أأرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار؟)
لا بل الله الواحد القهار، الله أحنى له الرأس مرة، ثم أنظر من عل إلى جميع الرؤوس. الله أسجد له مرة، ثم أنهض لأحتقر الجبارين، الله تستمسك يدي بعروته، ثم ليكن بعد ذلك ما يكون.
بعض من يختانون أنفسهم، ويخونون الإنسانية كلها معهم، يراودوننا على أن نفقد هذا الإله بعدما وجدناه! يراودوننا على أن نجرد نفوسنا من هذه القوة الكبرى. يراودوننا على أن نواجه قوة الشر والظلم دون سلاح.
إنهم يختانون أنفسهم، وإنها لخيانة للبشرية كلها في كفاحها الطويل، كفاحها ضد الظلم والشر، كفاحها ضد الحرص والجشع، كفاحها ضد الهوى والشهوة، كفاحها ضد الضعف والترهل، كفاحها ضد العبودية التي استبدت من قبل بالإنسان.
إنها معركة طويلة الأمد، فما أحوج الإنسان فيها إلى إله، إله واحد لا معبود للناس سواه.
سيد قطب