مجلة الرسالة/العدد 987/فضل المدنية العربية على المدنية الغربية
مجلة الرسالة/العدد 987/فضل المدنية العربية على المدنية الغربية
للدكتور فيليب حثي
أستاذ التاريخ بجامعة برنجستون بالولايات المتحدة
خلاصة موجزة لسبع محاضرات ألقاها الأستاذ باللغة
الإنجليزية في جامعة سان باولو
1 - في الأدب
هنالك جسور ثلاثة اجتازت عليها المدنية العربية بعناصرها الأدبية والعلمية والفلسفية والفنية من الشرق العربي إلى الغرب الأوربي: وهي سورية في العهد الصليبي (1098 - حوالي 1300) وصقلية في عهد الأغلبيين (831 - 1091) ثم النور منديين، وإسبانيا في عهد الإسلام. والذي نعنيه بالأدب العربي ما أنتجته بالأكثر قرائح الشعوب السورية واللبنانية والعراقية والفارسية وتضمنته اللغة العربية. وأهم هذه الجسور إسبانيا التي أقام العرب فيها نحو ثمانية قرون (711 - 1492) ومن مدنها طليطلة التي أصبحت في القرن الثاني عشر مركزاً هاما للترجمة من العربية بفضل رئيس الأساقفة ريموند. وعقب طليطلة كاستيل وليون برعاية الملك ألفونسو الحكيم (1253 - 4) الذي أولع ولعاً خاصا بالأدب العربي. حتى بعد أن طرد الأسبان العرب من البلاد بقي المورسكو لمدة طويلة يكتبون الإسبانية بأحرف عربية وينشئون الأدب المعروف بالأب الأعجمي
أهم مادة في الأدب العربي إنما هي المادة الدينية. نعم إن القرآن الكريم ترجم إلى اللاتينية (1141) ومنها إلى الفرنسية ومن هذه إلى الإنكليزية (1649) ولكنه لم يكن له أثر بين في الأدب الغربي لما اتصف به أبناء الغرب من التعصب الديني ضد الإسلام. ولعل من أهم أثر هو قصة (المعراج والإسراء) المشار إليها في القرآن من طرف خفي (سور 1: 17) والتي توسع في شرحها والإضافة إليها القصاص وأصبحت مثلا تحداه الشاعر الإيطالي الخالد دانتي في ملحتمه (الكوميديا الإلهية). والظاهر أن دانتي تأثر بكتابات الشاعر الفيلسوف السوري المعري (توفي 1075) والشاعر العربي الصوفي الأسباني أبن عربي (توفي 1240).
ولعل المقامات التي أنشأها بديع الزمان الهمداني (توفي 1008) وتبعه فيها الحريري وغيرها أغنى كنز أدبي بعد القرآن. وبفضل العرب الأسبان دخل هذا الطراز من الأساليب الأدبية الجديدة إلى أوربا الغربية فقلده الكتبة الأسبان والطليان ولا سيما في القصص المسماة فيجارو وكانت أول قصة إسبانية من هذا النوع وفيها ما يماثل القصص جحا.
أتخذ الشعر العربي في إسبانيا ميزة جديدة قوامها وصف الطبيعة والتغني بجمالها. ومن هذا القبيل بعض أشعار عبد الرحمن الداخل (755 - 88) وابن زيدون (توفي 1071)؟
ومن المواضيع الجديدة التي عنى بها الشعر العربي الأسباني الهوى العذري الذي يرافق المجتمع المتصف بانعزال الحريم وتحجب النساء. فنسج على منوال هذا الأسلوب الجديد شعراء مسيحيون في إسبانيا وفي أوائل القرن الحادي عشر انتقل هذا الأسلوب إلى جنوبي فرنسا وظهرت آثاره في أدب
وهناك ضرب من الشعر القومي أنشده الشعراء العاميون من مسلمي إسبانيا بداهة مما يذكرها بأناشيد القوالين اللبنانيين المعاصرين. وكان من أهم أنواعه الزجل والموشح اللذان نسج على منوالهما شعراء إسبانيا والبرتغال، ومن إيبيريا سار هذا الأسلوب إلى فرنسا. وكان المنشدون الجوالون المدعوون تروبادور من جملته. ومن أول شعراء الزجل وأعظمهم ابن قزمان القرطبي (توفي 1160). ومجموعة الأناشيد التي جمعها ألفونسو الحكيم تحت عنوان والمحسوبة من أطرف المجموعة الشعرية في القرون المتوسطة إنما أوزانها من نوعي الزجل والموشح. وكذلك الأغاني المسيحية المعروفة ب من هذا الطراز. وكان المستعربون من أهم نقلة هذا الشعر.
ومعظم الأدب العربي من النوع القصصي ومن أبكر أمثلته (كليلة ودمنة) المترجمة عن السنسكريتية. هذه المجموعة العربية ترجمها ألفونسو فكانت من أول الكتب النثرية بالأسبانية ومن أول الكتب القصصية في هذه اللغة، وبعد القرن الثالث عشر أخذ الكتبة الأسبان والبرتغاليون ينسجون على منوالها، وتبعهم الكتبة الفرنسيون. ومما حبب الأسلوب القصصي العربي إلى أبناء الغرب ألوانه الزاهية وخياله الفني وتضمنه أمثولات أخلاقية لمنفعة السامع والمطالع، ويدخل في هذا الباب (مختار الحكم) الذي وضعه الأمير السوري مبشر ابن فاتك زهاء حوالي 1053 والذي ترجم إلى الإسبانية بعنوان وطبع بالإنكليزية عام 1477 فكان أول كتاب طبع في هذه اللغة.
أما ألف ليلة وليلة وهي أهم مجموعة قصص عربية فجاءت متأخرة ولم تظهر بشكلها الحالي حتى القرن الخامس عشر، ولكن منها قصص كقصة السندباد البحري وصلت شفاها إلى الأسبان وترجمت إلى لغتهم. ومما لا ريب فيه أن بعض قصص شوصر بالإنكليزية وقصص بوكاشيو بالإيطالية ترجع إلى ألف ليلة وليلة الشفهية. يذهب المستشرقون إلى أن الرواية الحديثة على ما يعرفها أبناء الغرب ترجع إلى قصة ابن سراج بالأسبانية
أما الروائي الشاعر الأسباني العظيم سرفانتس فالمعروف عنه أنه بقي أسيراً في أيدي قرصان عرب من الجزائر نحو خمس سنوات وهو يدعي في مقدمة مؤلفه الرائع بأن كتابه من أصل عربي.
2 - في العلوم
لم يكن لأبناء الجزيرة العربية لدى ظهور الإسلام علم بالمعنى الاصطلاحي، ولكنهم بعد أن تغلبوا في القرن السابع على الهلال الخصيب. وفارس ومصر أخذوا عن الشعوب المغلوبة من سورية ولبنانية وعراقية وغيرها، العلوم الحقيقية، وكانت العلوم السورية مؤسسة على اليونانية والآرامية والسامية القديمة. أما عصر الترجمة من اليونانية إلى العربية فيتناول نحو قرن (750 - 850) وكان مركزه بغداد وقوامه العلماء السوريون الذين كانوا يتقنون اليونانية منذ فتوح الاسكندر في القرن الرابع قبل المسيح.
وفي هذا القرن جاءت من الهند مخطوطة في علم الفلك فترجمت إلى العربية في بغداد وأصبحت مصدراً للزيج الفلكي الذي نشره الخوارزمي (توفي نحو 850) وكذلك جاءت من الهند مخطوطة رياضية دخلت بفضلها الأرقام الهندية إلى العالم العربي بما فيها الصفر.
ومن الأدب الفارسي نقل ابن المقفع في بغداد قصص كليلة ودمنة كما نقل أبناء بختيشوع، الأسرة السورية المسيحية، مبادئ الطب الفارسي الذي كان قد تأثر بالطب اليوناني.
ولكن أهم مصدر وأعزره نقل عنه العرب في ذلك العهد إنما كان المصدر اليوناني وذلك كان بفضل نشاط علماء سورية المسيحيين وشيخهم حنين بن أسحق (توفي 873) الذي كان له ولتلاميذه اليد الطولى في نقل كتب جالينوس الطبية ومؤلفات أرسطو العلمية والفلسفية. وكانت عملية النقل من اليونانية إلى الآرامية أو السريانية لغة سورية يومئذ ومن هذه إلى العربية. أما السوريون غير المسيحيين وهم الصابئة عبدة النجوم في حران فإن اهتمامهم اقتصر على علمي الفلك والرياضيات؛ فنقلوا من اليونانية إلى العربية مؤلفات إقليدس وأرخميدس وكتاب بطليموس في الفلك والجغرافية وهو (المجسطي).
وعقب عصر الترجمة عن الهندية والفارسية والآرامية واليونانية عهد الإبداع. فلم يكتف العلماء العربيون بنقل تراق الأجيال السابقة؛ بل أضافوا إليه الكثير من نتائج تنقيباتهم وأبحاثهم وأغنوها من عندهم قبل أن يورثوها لخلفائهم.
ففي الطب نشاء الرازي (توفي 925) الذي كان أول من ميز بطريقة علمية بين الحصبة والجدري. وترجمت كتبه إلى اللاتينية في طيلطلة من أعمال إسبانيا بهمة جيرارد الكريموني توفي (1187) وبعد ذاك في صقلية. وأصبحت كتب التدريس. المعول عليها في كليات الطب الأولى في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. كذلك ترجم جيرارد كتاب (القانون) في الطب لابن سينا (توفي 1037) ولعله أول كتاب يقول بعدوى السل. أما الطبيب الدمشقي ابن النفيس (توفي 1288) فإنه وصف الدورة الدموية قبل سرفيتس البرتغالي المنسوب فضل هذا الاكتشاف إليه بنحو ثلاثة قرون.
وفي إسبانيا زها أبو القاسم الزهاوي القرطبي (توفي 1013) أعظم جراحي عصره. وكتابه في الجراحة ترجم إلى اللاتينية في طليطلة وأصبح الكتاب المعول عليه للتدريس في جامعات أوربا وبقي كذلك في جامعة أكسفورد حتى عام 1778. وزها بعده أبن رشد (توفي 1198) المشهور بفسلفته الأرسطالية الذي كان أول من لاحظ أن من مرض بالجدري لا يمرض بهذا الداء ثانية، والذي كان أول من فهم وظيفة شبكة العين. ومعاصر ابن رشد وصنوه في الفلسفة ابن ميمون اليهودي (توفي 1204) كان أيضاً طبيباً، ولعله أول من وصف الطعام النباتي للمصاب بالبواسير. أما ابن الخطيب (توفي 1350) المعروف بأدبه فإنه كان أحد الأطباء القليلين الذين أدركوا أن الطاعون المعروف بالموت الأسود الذي اجتاح أوربا يومئذ وكاد يتركها خلوا من السكان إنما كان ينتشر بالعدوى من المريض إلى السليم لا بأمر الله.
وهنالك علمان مساعدان للطب ورقاهما العرب إلى حد غير مسبوق: النبات والكيمياء. من هو أعظم عالم نباتي وصيدلي أنجبته القرون الوسطى في العالم المتمدن؟ هو بلا ريب أبن البيطار (توفي 1248) من مواليد ملقا بأسبانيا ودفين دمشق الشام. ففي كتابه (الأدوية المفردة) وصف ابن البيطار 1400 نبة منها 200 لم يسبقه أحد إلى وصفها. أما علم الكيمياء فيكفي القول أن هذه الكلمة دخلت اللغات الأوربية عن طريق العربية وأن ابا هذا العلم هو جابر بن حيان الذي زها في العراق حوالي 776.
وفي الكلمات العربية الكيماوية والطبية التي تسربت إلى اللغات الأوربية من العربية - كالإكسير والسودا والشراب والقلي والكحول والأئمد والأنبيق - دليل ساطع على ما هو مدين به العلم الغربي للعلماء العرب.
وفي علمي الرياضيات والفلك لمع العالمي الفارسي الأصل البغدادي الإقامة الخوارزمي (توفي حوالي 850). فهو أول من صنف كتابا في الرياضيات وعنونه (الجبر) ولما ترجم كتابه في توليدو في أواخر القرن الثاني عشر دخل هذا العلم إلى أوربا ودخل معه اسمه. وبفضل ترجمة هذا الكتاب دخلت (الأرقام العربي) بما فيها الصفر إلى اللغات الأوربية. وكلمة صفر في اللغات الأوربية الحديثة مأخوذة عن الكلمة العربية. والخوازمي هو أيضاً واضع الزيج الفكلي الذي نقله ألقونسو الحكيم ملك قشتالة وليون (توفي 1284) إلى الإسبانية وأصبح أساساً للزيج الفرنسي الموضوع بعدئذ في مرسيلية وانتشر شرقاً حتى الصين.
ويكفي للدلالة على فضل علماء العرب على أبناء الغرب أن عدداً من أسماء النجوم - كعقرب والجدي وذنب - لم تزل لليوم في اللغات الأوربية محتفظة بأسمائها العربية.
البقية في العدد القادم
فيليب حثي