مجلة الرسالة/العدد 987/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 987/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 06 - 1952



مذكرات واعظ أسير

تأليف الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي

للأستاذ كامل السيد شاهين

ما كان لمحنة الإخوان المسلمين أن تمر بغير تسجيل، وما كان لهذا العسف الوبيل الذي نالهم أن يذهب دون أن يدفع هؤلاء الذين بطشوا بهم دفعاً بليغاً!.

وهذا الكتاب الذي أخرجه لنا الشيخ الشرباصي، وإن كان مذكرات؛ والمذكرات عادة تبرز فيها الذاتية، وتختفي الجماعية، إلا أنها ليست مذكرات في أيام طبيعية، بل في أيام عصيبة شاذة، مفرطة في الحلوكة والشذوذ - ومن ثم كانت تدور مع شخص كاتبها على الأحداث العامة والأوضاع المنحرفة، وكانت عين صاحبها يقظى لا يفوتها فائت، وكانت نفسه مرهفة لا يمر بها الحوادث دون أن تتردد فيها، وتمتزج بها، ثم تحكم عليها الحكم الذي ترتاح له.

لقد كان قلم الشرباصي في هذه المذكرات مصوراً. فهو يصور الحجز الكريه وما يجد المحجوز فيه من كرب عظام، وما تقاسى فيه الإنسانية من ذلة وامتهان، وما يسمع البرءاء فيه من دروس تخلق روح الإجرام وتغري بالفساد. وهو يصور جماعة (البوليس) فئة لا يعوذ بها البريء فتحميه، ويستجير بها الخائف فتجيره، ولكنها أداة صماء مسيرة يحركها الباطن كيفما يشاء. فئة لا تفهم من القانون إلا أنه الغطرسة الكذوب والاستعلاء المقيت والاستبداد بالمجرم والبريء على السواء. وفوق أنها مفتونة بمكانتها، مجنونة بطغواها - تجدها تتضامن للرشوة، وتباع ذمتها بالمال، وتلفق وتزور، وتداجى وتنافق. لقد حدثنا عنهم الأستاذ حديثاً منثوراً: حدثنا حديثهم في التفتيش، وحديثهم في القسم، وحديثهم في الطريق إلى المعتقل، وحديثهم في المعتقل نفسه. . فمن كان بخعاً نفسه أسفاً على شيء فعلى وضع هؤلاء وضع الصيانة والحفظ، والتحكم في مصائر الناس فليفعل!.

وهو يصور لنا الاضطهاد المرير الذي يلقاه المعتقلون: من تأخر الطعام، ومنع الزائرين، وتكويم الفضلات يفرح فيها الذباب الجسور، وأذى خاص للذين يكبرون ربهم، أو يؤذنون للصلاة، أو يعكفون على القرآن وكتب الحديث، أو يخطبون للجمعة، أو يوقظون إخوانهم ليجتمعوا على أداء حق ربهم!

وهو يصور لنا في سخرية أولئك المتطفلين من المستغلين الذين ينهرون الناس ليظهروا بمظهر الغيرة الدينية، أو يحاولون أن يثبتوا تدينهم بشتم الذين تقعد بهم أعذار قاهرة عن القيام الباكر لصلاة الفجر، وأولئك الذين يجلسون مجلس الفتيا وبضاعتهم كلمة من شيخ أو خطبة من واعظ أو فتوى من عالم. وما أكثر ما تجد هؤلاء، وما أكثر ما تجد منهم، وما أكثر ما يجنون على أنفسهم وعلى غيرهم وعلى دينهم أيضا.

وهو يصور لنا أفاعي اليهود، يتمتعون في معتقلاتهم ويسمرون ويشربون ويقيمون الحفلات راقصة معربدة، وهم في خفارة رجال الأمن، وربما أشركوهم معهم في الطرب والفجور. فأما الإخوان المسلمين، فتصادر حرياتهم، وتقطع على ظهورهم بطون السياط، ويذهب بهم إلى الطور صاغرين واجمعين، ويوقفون صفوفاً أمام شرطي صغير يأمرهم وينهاهم فلا يردون له أمراً، ولا يخالفون له نهياً، وترد إليهم معونات وإغاثات من أهليهم فلا يصل إليها أيديهم.

وأبشع ما يطالعك من هذه الصور هذا الذي يشيع في الكتاب كله، من فوضى القساوة التي يلاقيها المعتقلون، فكل أحد يستطيع أن يغيظهم وأن يسطو بهم وأن يتحكم فيهم: متعهد الطعام، ومندوب الصحة، وقومندان المعتقل، وحراس الأبواب، وكل من اتصل بهم بسبب قريب أو بعيد.

والعجيب أن يتمالأ هؤلاء جميعاً على النكاية بهذه الصفوة المختارة، فإن دل ذلك على شيء، فعلى تغلغل روح الفساد والانتهاز في طبقات الأمة دون استثناء. وأعجب من هذا أن تكون الأحكام العرفية - في بعض الأحيان - أداة لخلق الفتنة، ورد الأيدي في الأفواه، والجريمة الكبرى أن يدعي البطشة الفجرة أن بغيهم وعدوهم إنما هو استجابة لرغبة كريمة. فلعمري ذلك اللؤم المضاعف!

الصور لا تنتهي. . فأينما رميت ببصرك في هذا الكتاب طالعتك صورة معتمة مؤلمة. وأنت بين ذلك واجد صوراً مشرقة وضيئة في صور التعاون والتضامن الذي تخلقه المشاركة الوجدانية في المحن الرازئة، وصور الإبداع والاختراع الذي تظهره الحاجة الملحة، وصور الصفاء الروحي والمراقبة التي يدافع إليها العجز المطلق وضيق الحيلة والأمل في القوة الغالبة التي تعنو لها القوى جميعاً، وصور الحنين إلى الحرية التي يوحي بها الأسر الظالم والبطش الغاشم. وصوراً أخرى لا يبلغها الإحصاء وكلها واضحة ناطقة أبلغ النطق، صادقة أنصع الصدق، مؤثرة أبعد التأثير!

وفي الكتاب على ذلك مآخذ لولا أن الأستاذ صديق عاقل لأعفيناه من الخوض فيها. . مآخذ لا تشين الكتاب، ولو أنها تورث هذه الصور كلما من بعض الجوانب. . فالأستاذ حريص الحرص كله على أن يذكر دائماً بأنه رجل خطيب وأن له جهوداً ملحوظة في نشر الدعوة، وأن له أتباعا وأحباء. . وشهد الله أن ذلك صدق خالص، ولكن الكريه فيه أن يكون حديثا على لسان صاحبه وبقلمه، وقبيح بمثل الأستاذ أن يذكر بذلك ويكرره حتى يجد القارئ في نفسه استكراها وملالة من معاودته، وأخشى أن أقول أنه ربما أفضى به هذا الإلحاح العنيف إلى إصغار الكاتب والتهوين من أمره، ومثل هذا العيب جار في كتب كثيرة للأستاذ؛ نرجو أن يبرأ منه في كتاباته المقبلة إن شاء الله.

وأحسب أن من ذلك ما ذيل له كتابه من تقريظ مهما يقل فيه، فهو غال غلوا شديداً ليس من السداد إثباته، وليس هو بالأثر الأدبي حتى يغتفر للأستاذ وصله بكتابه النافع، فسائر هذه التقريظات غاية في الغثاثة والتفاهة، ومن ذا الذي يكتب كتاباً أو مذكرة ثم لا يجد من طلبته - وهم كثر - من يقرظه بمثل قول (الشاعر) فيما يقول الأستاذ للمؤلف: -

أالقلب فيك متيم لنضالكم ... وكفاحكم للحق والإخلاص

أهلا بمطلعك السعيد عزيزنا ... أهلا فضيلة (أحمد الشرباصي)!

لا أظن أنني أقف الأستاذ على جديد إن أنا زعمت له أن ذلك شين عائب لكتابه هذا. ولا أظن أنني أذكر منه ناصيا، إن أنا لفته إلى أن الكتاب حق القارئ، وليس حقا له حتى يشجع صغار تلاميذه على حساب القراء!

تلك هفوة. . وأخرى أن الأستاذ ربما ظن أنه وقف موقفا كريما بدفاعه عن الأزهر. وشر ما فعل بهذا الدفاع الذي لا يرعى الحق. فالإخوان يقومون بلب اللباب من رسالة الأزهر. ومجاد الأزهر كادت تلفها الالتفاف لولا هبة الإخوان. فإذا لم يرفع الأزهر صوتا بالاحتجاج، ولم يستطع إظهار غضبته من أن يكون التدين سبة وداعية للاضطهاد والعسف. . فإنه من الخسة والدينية أن يسخر الأزهر وعاظه في أن ينالوا من الإخوان ويحكموا قيود البطش. . ألا أنه قليل للأزهر أن يلام، وقليل لرجاله أن يتهموا بالخور والضعف والتدليس وحب الدنيا. . وإذا كانت فعلتهم في النكر ما هي، فإنه لأنكر منها أن يدافع عنها ويوقف إلى جانبها.

وآخره ما آخذه على الأستاذ هفوة أدبية - ولو أنها ليست في موضوع الكتاب إلا أنها جاءت متصلة بموضوعه:

فالأستاذ يرى أن المتنبي كان مرغما على مدح كافور الإخشيد. . ولست أدري ماذا أرغمه، ولم جاء إلى مصر إن لم يكن قصده المديح. . المتنبي رجل مداح لا أقل ولا أكثر. فإن ذهب إلى الشام فلمدح أمرائه قصد، وإن جاء إلى مصر فلمدح حاكهما أراد فيه أنه أرغم على مدح كافور؟. .

ويحدث عن كافور أنه كان عبدا بليدا. . فأما العبودية فليست مما يعاب به الإنسان كإنسان ولا يسب بها من ربى تربية بريئة من روح الجاهلية، وأما البلادة. . فالحكم بها على كافور أمر يدعو إلى الضحك الذي تمسك منه البطون، فأين وجدها الشرباصي، وكيف ألصقها بها الحاكم الذكي الداهية. . لقد هجا المتنبي كافورا بما لم يسمع بمثله فلم يقل قط أنه كان غبيا، وعندما تهيأ لمدحه لم يجد أفقاً أوسع للكلام من أفق ذكائه ودهائه:

مجربا فهما من قبل تجربه ... مهذبا كرما من غير تهذيب

حتى أصاب من الدنيا نهايتها ... وهمة في ابتداءات وتشبيب

يدبر الملك من مصر إلى عدن ... إلى العراق فأرض الشام فالنوب

ويقول الشرباصي إن الناس كانوا يسخرون منه عندما يلقبونه (مولانا الأستاذ)، والذي يظهر لي أن الأستاذ (أحمد لا كافور) لا يعلم أن كافور كان قبل توليته الملك، يدبر بيت الإخشيد. . وأن كلمة أستاذ كلمة فارسية من معانيها (المدبر). . فهذا لقبه؛ فهل - بعد ذلك - يكون من السخرية أن ينادي المرء بلقبه.

ويستدل الشيخ الشرباصي على غبائه وقلة فهمه بأن المتنبي كان يذمه ويهزأ به وهو لا يفهم، وآية ذلك عنده أمه قال فيه: -

وما طربي لما رأيتك بدعة ... لقد كنت أرجو أراك فأطرب والبيت - في الحق - محتمل للسخرية، محتمل للمدح، ولو سيق للمدح كان ضعيفا. . ورأيي أن المتنبي لم يقصد إلا المدح، وأن هذا من ضيق باعه لا من سوء قصيده، ودليلي عل ذلك عتيد. . دليلي من القصيدة نفسها، وشاهدي في سوابق هذا البيت ولواصفه. . قبل هذا البيت أبيات فيها رجاء ضارع، وخنوع ذليل، والتماس وضيع، وسؤال ملحف. أفيكون من المعقول أن يقف الإنسان موقفا يمرغ فيه حر وجهه في التراب ثم يكون ساخرات في الوقت نفسه؟ لا: أسمع إذن وتصور أبا الطيب: -

أبا المسك، هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغنى منذ حين وتشرب

وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب

إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب

أفهذأ قول ساخر؟ أيتفق أن يكون المتنبي في هذه الذلة الذليلة ثم يقول ساخرا من كافور إنني لما رأيتك شاع في نفسي السرور فأنت مما يتسلى ويتلهى به الناس؟ أما أنه لو جاء هذا البيت فريدا مسلوخا من سوابقه ولواحقه لكان سخرية خالصة! ولحق لابن جني أن يقول للمتنبي: ما زدت على أن جعلت الرجل (أبازنة) يعني قرداً!. وإن أحيل الأستاذ إلى ما كتبه الدكتور طه حسين في كتابه (مع المتنبي) عن هذه الأبيات ليرى إن كان المتنبي ساخر حقا. . وإن حاله كانت تستحق أحر الرثاء!

فأما قصيدته التي يزعم الأستاذ الشرباصي متابعة لمتأولة النحاة أنها جائية على التوجيه محتملة المديح والهجاء التي أولها:

عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران

فإنما يذهب بها مذهب الاحتمال أو التحميل أولئك الذين يتحاذقون بقدرتهم على التأويل والتخريج، فأما أحرار الأدباء والنقاد فليسوا من هذه الدعوى في شيء. . فلا يتم للأستاذ ما زعم أنه كان يمدح كافورا بهذه الموجهات إلا إن كان من عشاق التأويلات العقيمة التي لا وزن لها في شرعة الأدب الصحيح!.

وأعجب مما رأيت أن يقول لنا الشيخ الشرباصي أن المتنبي في هذه النونية مدح شبيباً مدحاً بليغاً في حضرة عدوه وقاتله كافور، وهذا أمر نوافقه عليه، ثم قال إن هذا المدح البليغ كان من المتنبي استجابة لدواعي الرجولة والبطولة، وهذا ما نراه فيه قد سقط، وإليك أولا الأبيات:

برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان

كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسى وأنت يمان

وما كان إلا النار في كل موضع ... تثير غبارا في مكان دخان

فنال حياة يشتهيها عدوه ... وموتا يشهي الموت كل جبان

وقد قتل الأعداء حتى قتلته ... بأضعف قرن في أذل مكان

أهتز الشيخ أحمد كما يقول اهتزازا عنيفا لهذا الموقف، ففيه - على ما يدعي - جرأة وشجاعة، وفيه صدع بكلمة الحق لوجه الحق، وهو - أي الشيخ أحمد - رجل مولع بعظائم الأعمال فيما قال أو كما قال!

يا لك من رجل طيب القلب، ماذا كنت تنتظر من المتنبي في مدح كافور بعد قتل شبيب؟ أكنت تنتظر أن يقول له: لقد قتلت شبيبا الجبان الحوار الذي كان يفرق من قتل دجاجة!. . لو قال ذلك لكان أجهل الناس بأسلوب المديح، ولكان قتل شبيب عملا تافها ساقطا لا وزن له، ولكان المتنبي لم يأت في مدح كافور بشيء. . ولكن المتنبي عمد إلى رفع شبيب وإعظام شأنه، والإشادة ببطولته، ونصب حوله هذه القلاع المحصنات فجعله صديقا للسيف، وأبرزه نارا مجتاحة لا تثير الدخان ولكنها تثير الرماد. . ثم تهيأ له بعد أن جعله أمنع من بيض الأنوق أن يقول إن كافورا صاده بأيسر صلاح وبأدبي جهد، فجعل كافورا بطلا أقوى وأعز وأمنع، وعاد بهذا اللباس الذي حاكه بد يا لشبيب، فألبسه لكافور (بعد أن عززه ومنعه) زاهيا سابقا! وبعد:

فقد قدمت أن هذا ليس من موضوع الكتاب، وأملي أن يسير المؤلفون من النقد الاجتماعي في هذا السير الحميد الذي سلكه الشرباصي. وإنني أعد هذا بدء الطريق للوصول إلى سلامة المجتمع ونظافته.

كامل السيد شاهين