مجلة الرسالة/العدد 99/الجمال في الشعر والحب

مجلة الرسالة/العدد 99/الجمال في الشعر والحب

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1935



(المرأة)

للأستاذ الحوماني

صاحب مجلة العروبة البيروتية

الجمال وحي الطبيعة يلهمه الشاعر من أبنائها ليكون صلة بينهم وبين المثال الأعلى في حياة. فهو رسول أمة الطبيعة يرسل بنات أفكاره إلى قومه فترفع بيمينها حجاب الغفلة عنهم، ثم تمر بها على أعينهم فتمسح عنها غشاء الجهل، وتقابلهم يسارها بمرآة الحياة فيتبينوا فيها من نفوسهم الماثلة رموزاً تشير لهم إلى مثُل الحياة العليا.

والشاعر ينشد الجمال في كلُّ شيء فيفتتن بكل جزئي منه، ولكنه أشد اقتناناً بما هو إلى الروح أقرب منها إلى المادة، ولا أقرب إلى الروح من هذا يشاركه الشعور بالحياة وينشد معه ذلك الجمال.

يفتن بالمرأة التي هي رمز الجمال التام في الحياة، يفتتن بها للجمال، ويفتتن لها بكل ما في الحياة من جميل يشعر به. فالجمال التام علة لفتنة الشاعر بالمرأة، أما المرأة فهي علة ولفتنته بكل ما يشير إلى هذا الجمال الكلي من جمال جزئي في نبات أو جماد، فالشاعر ينشد الجمال في الحياة ولن يظفر به كما يشاء إلا عن طريق الحب:

وهل المرأة إلا رمز الحب الخالد؟

الشاعر كالطائر يحلق في أفق الجمال، وكما يقع الطائر على الشجرة يفتش عن الثمرة الناضجة ليتقوم بها، حتى إذا بلغها وقف حيالها يداعب الروض من على فننه، هكذا يقع الشاعر على المرأة آلهة الجمال يستلهما الشعر فيشخص إليها وهي بعينه تمر على وجهه بيدها البضة، وتمسح عينيه ببنان يحس روحها من ورائه ترف على أهدابه.

فهو من أجلها (يصعد الرابية)، والقمر يهبط من عليائه، فيفترش الترب، ويتوسد الصخر، يصغي إلى نجيء الكواكب فيستوحي منها الشعر ثم يلهمه الطبيعة؛ حتى إذا تنفس صبحه، وهبط إلى الأودية فهام فيها عائماً في بحر ضبابها ينشد هذا الجمال، وقفت به آلهة الشعر بين الرياض، والصبح لما تخمد أنفاسه، فأحنى على الورد يلثمه، وعلى النرجس يمس دمعه، يضع خده تحت الزهرة ويده فوق كبد يكاد يعصرها دمعاً ينحدر على وجناته).

وهو من أجل آلهته تلك (يمسك الماء، ويقبض على الريح، سعياً وراء الجمال في الحياة، وهو هائم به، ولعل الروح التي تخفق بين جنبيه، والشعر الذي يحوم على شفتيه).

يستحيل على الشاعر وهو رسول الجمال، أن يكتم شعوره، فما بينه وبين إبلاغ رسالته إلا أن يشعر، وربما بلّغ هذه الرسالة بدمعه:

وإذا الحزين بكى ولم يك شاعراً ... فالشعر ما نطقت بهِ عبراته

(أو ما تراه، وقد جلس إلى ظل سرحة، أو إلى جنب صخرة، على رابية يراقب منها نزاع الشمس بين يديه المغيب، فتحس كأن شعوره يغيب معها في ظلمات الحزن؟؟؟

وقد يحنو على الزهرة في حر الظهيرة يقيها لفح الهاجرة بنفسه، فكلما ألوى بها الذبول شاطرها جفاف الرونق وشحوب اللون، وربما لصقت بالأرض فغسلها بدمعه وود لو واراها في حنايا ضلوعه).

ذلك هو الشاعر الصامت، لم يخلد بشعره لكن بروحه الشاعرة، ولم يشعر بلسانه لكن بقلبه المتفجر عيوناً تفيض بالدمع على خديه.

يفتن الشاعر في وصف المرأة وتأثير جمالها لا ليعلن هذا الجمال إلى الملأ ولا ليلفت إليه الغافل عنه فحسب، وإنما يريد بذلك إلى تأدية ما حُمّل من أمانة، أن ينادي على جمال نفسه بما أدرك من جمال، ثم ليثبت في نفس السامع ما يحمله على عذر في الهيام به، من أجل ذلك يعمد في وصفه الجمال إلى التفصيل دون الإجمال

فلن تستطيع أن تبث في نفس سامعك دعايةً لهذا الجمال وأنت تجمل في وصفه حتى تأتي على جزيئاته مفتنَّا في إثباتها على مرآة النفس الشاعرة عن طريق القلب.

فليس لقول القائل:

أبصرت دون شعاب مكة مصبحاً ... سبعاً أجزن وكلهن جميل

من التأثير البالغ في نفس السامع ما لقول الآخر:

وتملكت قلبي ثلاثٌ كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان

للفرق بين إجمال الأول وتفصيل الثاني.

وقد يفتن الشاعر في وصف من أحب لمجرد البث والتغلب على اليأس كما يكون للنفس عزاء وسلوة.

وقد يشعر بما يحب للشعر، كما قد يحب فيما يشعر للحب وليست ميزة الشاعر في النداء على جمال من يفتن في وصفها وإنما الميزة في إثبات ذلك الجمال في نفس السامع والذهاب بها في اللذة مذاهب تتركها وفقاً على جمال ما تسمع حتى كأنها تنظر إليه وتلمسه وتشمه فتشعر به شعور من وقفها عليه، وليس من ذلك للإجمال يد طولى وهو يمر بالنفس لمحاً بينما الشعر يمعن في تمكينها منه عن طريق التفصيل.

أفلا تبصر بقوله:

بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العِذابا

والذي ألبس خدي ... ك من الحس نقابا

والذي أودع في في ... ك من الشهدِ رضابا

والذي صير حظي ... منك هجراً واجتنابا

ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟

كيف يهز النفس بما فيه من روعة لم تكن لتتوفر في كلماته لو أجمل فقال:

بالذي أفرغ في قا ... لبك الحسن الُجابا

ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟؟؟

فإن في تعداد جزيئات الجمال في الأبيات الأولى ما يشغل النفس في تصورها، فيثبت فيها جمال الوصف والواصف ثم الموصوف آخر الأمر، وهي في مجموعها مصداق البيت الأول من البيتين الآخرين وهما كما ترى.

تحب في المرأة وأنت شاعر خلاف ما تحبه منها وأنت لا تشعر، فالشاعر يحب المرأة لجمالها الذاتي، وغيره يحبها لجمال ما يحف بها، فقد يعبدها الغبيُّ لما لها، وقد يستغويه ما يمت بها إلى نسب عريق، وربما كان علمها سبباً في أسر هواه، أما الشاعر فلم يكن ليحب المرأة يغمرها المال، ويزهوها النسب، ويسمو بها العلم، وهي بعيدة عن روحه الهائمة بالجمال. ومقياس هذا الشعور شدةً وضعفاً تجده في جمال ما يحب كمالاً ونقصاً.

فلم تستطيع أن تحكم على الشاعر بما يهيم به من جمال، ولكنك، وأنت تحكم عليه، يجب أن تكون شاعراً لئلا يفوتك من أسرار الجمال ما تشعر به وأنت غافل عنه.

فقد يقف في طريق الشاعر إلى حب المرأة أن يشم منها ما يكره، وهي قطعة من جمال الحياة، روحاً وجسداً لولا أنها أهملت جسدها أن تتعهده بالنظافة فكان ذلك حائلاً دون خلوصه إلى روحها إذ كان نقصاً بيناً في جمال هذه الروح.

وربما هام الشاعر بالمرأة، وهي ناقصة الجمال، لتضاؤل ما يبدو من نقصها في عينه إلى جنب ما امتازت به من جمال يأخذ العين والأذن بما فيه من سحر، فهو إذ ذاك أعمى عن كلُّ ما ينقصها لما تفتن في تنمية هذه الناحية فيها وصرفه عن الشعور بما عداها.

وكثيراً ما تستطيع المرأة أن تسبغ جمال روحها على ما يشين جسدها من قبيح فتتغلب على شعور الهائم بالجمال بما امتازت به من خصائص النفس، فللشاعر إذ ذاك العذر في قصر هواه على جمالها الناقص.

وله هذا العذر أيضاً في محيط نماه وليس فيه من ربات الجمال التام من يهيم بها فلجأ إلى الجمال الناقص يهيم به ويسبغ عليه فنه الخالد إذ كان هو الجمال التام عنده.

وهكذا هو مع المرأة التي مُني بها قبل أن يشعر وهي ناقصة الجمال، فلما دق شعوره بالحياة نظر إليها نظرة شاعر فوقف منها على ما خفي عنه من قبل، ورأى أن في العدول عنها عذاب الضمير ثم التياث الغرض من وراء ذلك كله، فحمل نفسه على القنوع بها وأغضى عما يعترضه من جمال خارج، فكانت عروس خياله تجلو عليها آماله وينفحها من شعره بما تخلد به إلى جنبه

الحوماني