مجلة الرسالة/العدد 99/مستشرق إسباني

مجلة الرسالة/العدد 99/مستشرق إسباني

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1935



في طليعة علماء إسبانيا الحديثين يظهر أسم جوليان ريبيرا العالم البحاثة المؤرخ المتغلغل في قلب تاريخ إسبانيا في جميع أطواره ومراحله. وهو متضلع من اللغة العربية ومطلع كلُّ الاطلاع على تاريخ آدابها وله فيها أبحاث جليلة. وليس ريبيرا من اللغويين الذين يقصرون همهم على درس قواعد اللغة العربية شأن أكثر المستشرقين الأسبان باستثناء العالمين غايانكوس وكوديرا، بل جاوزه إلى التاريخ والثقافة العربية فعني بهما عناية البحَّاثة المدقق والعالم المحقق.

اعتبر ريبيرا أن للتاريخ الإسلامي كما لتواريخ بقية الأمم وجهين. السياسي والأدبي. وقد اكتفى المستعربون الأسبان قبل ريبيرا بدرس الحوادث السياسية دون أن يهتمُّوا بسواها. وأن لهذه الإهمال عذره وأسبابه، فالبحَّاثة التاريخي يبدأ بدرس الناحية السياسية لأن حوادثها أكثر وضوحاً وأسهل درساً وأقرب منالاً من درس تاريخ الثقافة وكيفية نشوئها وتطورها مما يقضي البحث في أخلاق الأمة وعاداتها وطرق معيشتها ونظمها الأدبية والاجتماعية والدينية لكي يتمكن من تفهُّم ما نعّبر عنه بكلمة - تمدن - التي هي لباب التاريخ، ولكي نتوصل إلى الإلمام بكل هذا وجب علينا أن نبدأ بما هو أبسط وأجلى وهو الوجه السياسي أي الخارجي.

إن درس التاريخ يخضع للقاعدة ذاتها التي يخضع لها درس الفلسفة، إذ لا يمكن البحث فيما وراء الطبيعة إلا بعد فهم علم الطبيعة. وعلى من شاء درس تاريخ التمدن درساً وافياً أن يكون مراقباً بصيراً ومدققاً حصيفاً يتمكن من فهم الحوادث وتمحيصها وغربلتها، لأن الحقيقة كثيراً ما تختفي وراء نقاب شفاف من الظواهر الخدَّاعة. وينبغي له أن يكون ذا قدرة على جمع الحوادث ووصلها واستنطاقها والمقابلة بينهما. وأخيراً أن يكون ذا ضمير حي فيما يرتئيه ويعلله.

لم يقدم ريبيرا في أواسط القرن الماضي على درس تاريخ التمدُّن الإسلامي الشرقي عامة والأندلسي خاصةً إلا بعد أن اجتمعت فيه كلُّ هذه الصفات الأساسية الضرورية، فولج وحده هذا الباب الذي لم يطرقه عالم قبله. وبعزيمة صادقة توغل في مجاهل هذا البحث وأكتشف حقائق كانت مجهولة أودعها كتبه القيّمة التالية: (تاريخ التدريس في الإسلام). (تاريخ المكاتب والمدارس الفقه في الإسلام). (تاريخ الفلسفة الإسلامية). (تاريخ شيوع اللغة الأسبانية بين عرب الأندلس). (تاريخ أصل الشعر الغنائي والشعر الحماسي). (تاريخ الموسيقى العربية وتأثيرها على الموسيقى الإسبانية).

وكفى بهذه المؤلفات شهادة تفوق ريبيرا في التاريخ الإسلامي، وعلى جهوده التي تحله في المقام الأول بين كلُّ العلماء الذين عنوا بدراسته. ويمتاز ريبيرا على كثير من هؤلاء بأنه شق لنفسه طريقاً جديدة في أبحاثه، غير مثقف آثار من تقدموه من البحاثين الذين يتبعون خطوات من تقدموهم، ويحتذونهم في كلُّ شيء تقريباً. ولا غرو أن يتبوأ أحد المراكز الأولى بين العلماء الذين درسوا التاريخ والآداب الإسلامية. ومن أظهر مميزاته تحري الحقائق المدعمة بالبراهين، وإثباتها بعد أن يحللها تحليلاً عقلياً ومنطقياً. وحجتنا على هذا أبحاثه في التعليم الإسلامي في الشرق والأندلس، فهي تطلعنا على أنه كان مقيداً وخاضعاً للسلطة في الأقطار الشرقية الإسلامية، على حين كان حراً طليقاً من كلُّ رقابة في الأندلس. وترينا أن أسلوب التعليم الإسلامي كان في عهده قدوة ومثالاً للتعليم في مدارس أوربا المسيحية التي أخذت عنه رتبها وألقابها وتنظيم صفوفها وطريقة امتحانها.

وإذا كان قد درس بإسهاب كيفية تأسيس القضاء وتنظيمه في مملكة أراغوان، فلكي يبرهن أن نظامها القضائي ككثير من الأنظمة القضائية نسخته إسبانيا المسيحية عن الإسلام، كما أن شكل القضاء في الإسلام هو نسخة طبق الأصل عن نظام القضاء الفارسي القديم. وما درس موشحات (ابن قزمان) التي هي منبع الأغاني العربية الأسبانية إلا لكي يفتش بين تقاطيعها وأوزانها وتراكيبها ومعانيها عن المثال الذي نسجت على منواله الأغاني الأسبانية العامية المعروفة (بالبروفينسيال). وقد كان مؤرخو الآداب الأسبانية يعتبرون هذه الأغاني وليدة بيئتها حتى جاء ريبيرا وكشف عن حقيقة أصلها العربي الأندلسي؛ وقد أوصلته أبحاثه إلى اكتشاف ذاته فيما يتعلق بالقصائد الفرنسية الحماسية إذ أن أقدمها عهداً هو أحدث من الملاحم الأندلسية، فضلاً عن التشابه الموجود بين أبطالها ومواضيعها، وأبطال ومواضيع الشعر الحماسي الأندلسي الذي نبشه ريبيرا من بطون النسيان.

(العصبة)

أديب سعادة