مجلة الرسالة/العدد 99/قصة المكروب
مجلة الرسالة/العدد 99/قصة المكروب
14 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثة
وصل الفائت: أثبت بدستور أن تخمر عصير العنب وفساد اللبن واللحم مرجعها كلها إلى وجود أحياء صغيرة يحملها تراب الهواء، وإنه كلما قل تراب الهواء قلت الأحياء التي فيه حتى تكاد تعدم. واليوم نقص كيف طبق علمه على حالتين ونجئ به صناعتين كان مآلهما الخراب: صناعتين الخمر وصناعة الخل، فأثبت للناس كيف يلي العلم دعاء هم في شدة المحنة وظلمة اليأس.
وبدأ مرة أخرى يرى فرنسا كلها كيف يستطيع العلم أن يوفر المال لصناعتها. فحزم صناديق ملأى بالأواني والأجهزة الزجاجية، وحزم معها مساعداً نشيطاً من مساعديه أسمه (ديكلو)، وسافر مسرعاً إلى بلده القديم (أدبوا) ليدرس أمراض الخمور وما نزل بهذه الصناعة من الدمار. واتخذ معمله في مكان مقهى عتيق. واكتفى عن مصابيح الغاز بموقد من الفحم النباتي قام (ديكلو) عليه يؤجج جمراته بمنفاخ في يديه شغله طويلاً في غير ملل أو كلل. وكانا كلما أراد الماء ذهب (ديكلو) إلى مضخة القرية يستقي منها. أما ما احتاجوه من الأجهزة فصنعه لهم نجار القرية وسمكاريها في غير أناقة كبيرة، وذهب بدستور إلى معارفه الأقدمين يسألهم بضع زجاجات من الخمر، المرة، والخمر الهلامية، والخمر الزيتية، واختصاراً من كلُّ خمر فاسدة مريضة. كان بستور قد أيقن من أبحاثه السابقة أن الخمائر هي التي تصنع من عصير العنب خمراً، فلما جاء اليوم يبحث أدواءها وقع في نفسه أن هذه الأدواء لا بد ترجع إلى أحياء مكرسكوبية أخرى.
وما أسرع ما تحققت نبوءته! فما كاد يصوّب عدسته إلى الخمر الهلاميّة حتى وجدها تعجّ بمكروبات جديدة غريبة غاية في الصغر يتصل بعضها ببعض كالعقد النظيم. ونظر إلى الخمر المرّة فوجدها مليئة بنوع جديد من الأحياء. ونظر في الخمر الفاسدة الأخرى فوجد بها أحياء أخرى. ثم جمع زراع العنب وصناع الخمر وتجار الإقليم، وأعتزم أن يفتنهم بسحره.
صاح فيهم: (هاتوا لي ست زجاجات من خمر أصابتها ستة أمراض مختلفة، ولا تخبروني بنوع مرضها، فأنا أدلكم عليه بالنظر إليها). فلم يصدقه منهم أحد، وتغامزوا وتلامزوا عليه وهم في طريقهم إلى إحضار خمورهم المريضة، وضحكوا من أجهزته الغريبة في ذلك المقهى القديم، وتفاكهوا بحاله تفاكههم بمخبول جاد غير هازل. وجاءوا بين الخمور المريضة بخمر صحية ليخدعوه ويضلوه. فقام فيهم يملأ قلوبهم عجاباً وإعجاباً. فأخذ أنبوبة دقيقة من الزجاج وإدخالها في إحدى قوارير الخمور ورفعها بقطرات فيها ووضعها بين قطعتين منبسطتين من الزجاج وانحنى فوق الغمزات. ومضى زمن وصاحبنا في تحديقه، وأصحابنا يزدادون بمر الدقائق جلبة ونكاتاً. . .
وبغتةً رفع بستور رأسه وقال: (ليس بهذه الخمر مرض. أعطوها للذواق وانظروا هل يؤمن على قولي.)
وذاقها الذوّاق , ثم رفع أنفه الأحمر فتجمّد، واعترف أن بستور صدق فيما ذهب إليه. وجرى بستور على صف الزجاجات واحدة واحدة. وكان كلما رفع رأسه عن المجهر وصاح (هذه خمر مرة) أمن على قوله الذوّاق. وكلما قال هذه (الخمر هلامية) أكد ما وجد الذوّاق.
وانصرف الجماعة من عنده مكشوفي الرؤوس تلهج ألسنهم بالثناء وتتعثر بالشكر. (لا ندري ما يصنع بهذه الخمور ليتعرفها. ولكنه رجل ماهر غاية في المهارة) هكذا قال بعضهم لبعض، وهو اعتراف لعمر ربي منا الفلاح الفرنسي ليس بالهين اليسير. .
وبعد انصرافهم أخذ بستور ومساعده ديكلو يعملان في هذا المعمل الخرب، وقد شد النصر عزائمهما وقوّى النجاح قلبيهما. وأخذا يدرسان كيف يمنعان هذه المكروبات الغريبة من الدخول إلى الخمور السليمة، وخرجا على أنهما إ ذا سخنا الخمر، ولو تسخينا هينا دون درجة غليانها بكثرة، فإن هذا التسخين يقتل تلك المكروبات الدخيلة فلا تفسد الخمر بعد ذلك. وهذه الحيلة اليسيرة التي جاءا بها هي التي تعرف اليوم (بالبسترة) نسبةً إلى اسم صاحبها بستور، وعلى مقتضاها تعالج الألبان اليوم فتعقم فتنجو من التخثر طويلاً.
وما كاد يطمئن الفرنسيون في شرق فرنسا على خمرهم، ويتعلمون كيف يمنعون الفساد عنها، حتى علا الصراخ في المقاطعات الوسطى يهتفون ببستور ليأتيهم فينجي صناعة الخل لديهم من البوار. فأجاب بستور دعاءهم وسافر مسرعاً إلى مدينة وكان في هذا الوقت قد ألف البحث عن المكروب والعثور عليه حيثما كان، فلم ينفق في التحديق وراءه ذلك الجهد الكبير والزمن الطويل اللذين أنفقهما أولاً. ولما اقترب من البراميل التي فيها تستحيل الخمر خلا، رأى على سطح سائلها زبداً غريب المنظر. فصاح به الخلالون: (هذا الزبد لا بد منه لتخليل الخمر) وقضي بستور بضعة أسابيع في البحث فوجد أن الزبد إن هو إلا ملايين بعضها فوق بعض من خلائق مكرسكوبية. فأخذها، فامتحنها، فوزنها، فصنع بها ما لا يُصنع. وأخيراً جاء إلى جمع من الخلالين وزوجاتهم وأولادهم وأقاربهم فأخبرهم أن الذي يحيل خمرهم إلى خل إنما هي مكروبات صغيرة، وأنبأهم أن هذه المكروبات تحيل من كحول الخمر إلى حامض الخل مقادير تبلغ عشرات الألوف من أوزانها. (فانظروا واعجبوا من ضخامة العمل الذي تقوم به هذه الأحياء الضئيلة. ماذا تقولون لو أن رجلاً زنته مائتا رطل قام يقطع خشباً فقطع مليوني رطل في أربعة أيام!) وبهذه التشبيهات الساذجة، أدخل بستور هذه المكروبات الصغيرة في حياة هؤلاء السذج فأكبروها واحترموها. وبستور نفسه ظل يفكر طويلاً في جسامة ما تقوم به من الأعمال حتى ألف الفكرة واعتيادها.
وخطر له أن المكروب على ضآلته قد يدخل جسم الثور العظيم أو جسم الفيل أو جسم الرجل فيميته، فلم يجد في هذا الخاطر استحالة أو غرابة. وقبل أن يرحل عن بلدة (تور) علم أهلها كيف يربون هذا المكروب النافع ويعنون به حتى يحسن استلاب الجوأ كسجينه لأكسدة الكحول في خمرهم فيملأ بذلك جيوبهم بالملايين من الفرنكات.
وبهذا النجاح وأمثاله زاد بستور ثقة بالتجربة أداةً لكشف الغامض من الأمور. وأخذ يحلم الأحلام الطويلة العريضة المستحيلة عن فتوحات المستقبل التي سيأتيها في تقفي آثار هذه الخلائق الضئيلة ولم يحبس هذه الأحلام على نفسه، بل وصفها في خطبه ونادى وبشر بها كما بشر الرسول يوحنا المعمدان بالنصرانية، سوى أن صاحبنا كان أكثر حظاً من يوحنا الرسول، لأنه قدر له أن يعيش يتحقق ولو قليلاً من نبواته.
وتلت ذلك فترة قصيرة قضاها بستور في معمله بباريس يشتغل هادئاً ساكناً. فلم يبق له من الصناعات ما ينجيه. وظل في هدوئه حتى يوم من أيام عام 1865، ففي هذا اليوم جاء القدر يدق بابه. وما كان الطارق إلا أستاذه القديم دوماس، جاءه يتطبب لدود القزّ المريض. فقال بستور دهشاً: (وما الذي دهى دود القزً، فما كنت أعلم أن المريض يعتريه؟ على أني لا أعرف عن هذا الدود شيئاً، وإن شئت المزيد ففي الحق أني لم أر دودة قزّ واحدة في حياتي).
(يتبع)
أحمد زكي