مجلة الرسالة/العدد 993/دراسة وتحليل

مجلة الرسالة/العدد 993/دراسة وتحليل

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 07 - 1952



لجواهري شاعر العراق

للأستاذ محمد رجب البيومي

- 3 -

أما الأوضاع الاجتماعية في الشرق العربي فقد شغلت الشاعر شغلاً عنيفاً حتى أتعبته، فقد دار بعينيه فيما حوله فوجد العطب يدب في كل مكان، والظلم يخنق الرقاب بقيد حديدي ثقيل، وقد تعددت مظاهر الفساد، فلم تقتصر على شكل واحد، واختلفت أماكن الداء فلم تخيم في بقعة واحدة ولكنها سلاسل ممتدة مشدودة، لا تجد الرقاب ولأيدي والأجل منها بعض الفكاك، والجواهري لا يفرد النواحي الاجتماعية بقصائد خاصة تكشف عن مساوئها الخاطئة، بل يقرن الشغب السياسي بالفوضى الاجتماعية في قصائده الملتهبة، فلولا الانحطاط الاجتماعي الشائن في الشعوب المحتلة، ما وجد المستعمرون وأذناهم ماء عكرا للصيد، ولولا فساد الساسة وأنانية القادة ما رزحت الدول تحت كابوس ثقيل من الجهل والمرض والحرمان! وكان شاعر الفرات يتأوه تأوها مريرا لما تقابل به صيحاته من دس واتهام، فقد علم المستعمر أذنابه أن يقاوموا حركات الإصلاح في كل شعب، فكل ناصح مخلص ثائر مخرب، وكل مدافع عن دينه ووطنه هدام ثوري يدين بالمبادئ الخطيرة المتطرفة، حتى التبس الأمر على السواد، ودفعهم الجهل إلى التردد في قبول النصائح وإحلالها محلها من القبول والانصياع.

فالوعي بغي والتحرر سبة والهمس جرم والكلام حرام ومدافع عما يدين مخرب ومطالب بحقوقه هدام

وقد كانت الشيوعية - ولا زالت - أقرب تهمة وأيسرها على المحتلين وأشياعهم، فما يكاد أحد في الشرق العربي ينطق بكلمة في الاصلاح، حتى يتهم اتهاما خطيرا بما لا يقصد إليه بحال، واضطر الساسة جريا وراء مآربهم الذاتية أن يربطوا عجلتهم الضعيفة الوانية، بعجلة إنجلترا القوية السريعة، ووقف الدب الروسي رمزا للخوف والهلع والازعاج، كأن الأسد البريطاني المتوحش لا يؤذي أحدا من الضعفاء من أن ضحاياه في الشرق من تسعين عاما قد ملأت المقابر بالأشلاء، والطرق بالدماء. ولا يزال المغرضون يفيئون إلى حنانه الكاذب وعطفه المزعوم.

شدوا بذيل غراب أمة ظلت ... تطير أن طار، أو تهوى إذا وقعا

وخوفوها بدب سوف يأكلها ... في حين تسعين عاما تألف السبعا

وضيقوا أفق الدنيا بأعينها ... بما استجدوه من بغي وما ابتدعا

وذاك معناه أن بيعوا كرامتكم ... بيع العبيد بتشريع لكم شرعا

ورغم هذه التهم الكاذبة شق الشاعر طريق الإصلاح في صلابة وإيمان، وقد حارب ببراعة المكافح في جبهات متعددة، وحمل المشعل في يده يطارد الظلام في كل مكان ساخرا بالعواصف، متحديا جميع الصعاب!

ففي جبهة أولى يقف أمام الفقر فيحلل أسبابه، ويكشف عن علله، ويرمي بنظره في هذه الكتل المتراصة في الشوارع وقد كسرها الجوع لباسا أصفر شاحبا هزيلا تمد الأيدي السائلة وتتبع الفتات في القمامات كما تتبعه الحيوانات، وتقف أمام القصور الشامخة منحية ذليلة تتطلب الكفاف مما يرمي إلى الكلاب المدللة!! وقد مسح الفقر من نفوسها معاني الكرامة والعزة والإباء، وفي داخل القصور الممردة نفوس تبترد بالخمور، وتتجمل بالحلي والعطور، وأخونة تمتد بالطيبات من المطاعم، وليالي حمراء مرنة بالقصف والرقص، مغردة بألحان الفتيان، مضيئة بوجوده الكواكب الحسان! فشتان بين أولئك وهؤلاء

عجب لخلق في المغارم رازح ... يقدم ما تجنى يداه لغانم

وأنكأ من هذا التغابن قرحة ... غباوة مخدوم وفطنة خادم

لو اطلعت عيناك أبصرت مأتما ... أقيم على الأحياء قبل المآتم

إذا أقبل الشيخ المطاع وخلقه ... من الزارعين الأرض مثل السوائم

قياما على أعتابه يمطرونها ... خنوعا وذلا بالشفاه اللوائم

حنايا من الأكداح تلقى ظلالها ... على مثل جب باهت النور قاتم

أمبتردات بالخمور تثلجت ... وبالماء يغلي بالعطور الفواعم

ومفترشات فضله في زرائب ... يوسدها ما حولها من ركائم

أمن كدح آلاف تفيض تعاسة ... يمتع فرد بالنعيم الملازم سياسة إقفار، وتجويع أمة ... وتسليط أفراد جناة غواشم

وفي جبهة ثانية يحارب الجهل فيعلن أنه أس المصائب وشر لمحن، فلولاه ما نهش الجوع نهشا في النفوس الكادحة، ولولاه ما حيكت الدسائس والمؤامرات للشعوب في ظل من الخداع والابتسام، ولولاه ما وطد المستعمر قلاعه وأقام بناءه الراسخ، ولولاه ما أقفلت المصانع والمتاجر وأصبحت الوظيفة الحكومية مناط الآمال ومبعث الرجاء، ولولاه ما قيدت الجموع اللاغية حفاة عراة لراكب، ولولاه ما حاز أشباه الجهلة من المتعالين أسمى المناصب، وأعظم الألقاب، ولولاه ما كمت الأفواه الناطقة، واحتجزت الألسنة الصارخة عن كشف المثالب والهنات!! وأخيراً لولاه ما تدهورت الشعوب العربية إلى ما انحدرت إليه من ذلة وهوان

غزا الجهل أرض الرافدين فحلها ... كثير السرايا مستجاش الكتائب

طليعة جيش للمصائب هددت ... كرامته، والجهل أم المصائب

وما خير شعب لست تعثر بينه ... على قارئ من كل ألف وكاتب

تمشي يجر الفقر ردفا وراءه ... وأتعس بمصحوب وأتعس بصاحب

فكان لزاما أن تحوز عصابة ... تزينت بزي العلم أعلى الرواتب

وكان لزاما أن تتم سيادة ... عليه لأبناء الذوات الأطايب

وكان لزاما أن تعطل صنعه ... وأن يصبح التوظيف أعلى المكاسب

وكان لزاما أن تقاد جموعه ... حفاة عراة مهطعين لراكب

وأوجع ما يصمى الغيور مقاصر ... أطلت على محجورة في الزرائب

يبين على الحيطان شرخ نعيمها ... وتغمرها اللذات من كل جانب

وتحيا ليالي الرقص فيها خليعة ... تكشف عن سوق الحسان الكواعب

وتلك من الأدقاع تتسد الثرى ... يلاعب جنبها دبيب العقارب

والجواهري قد حارب الجهل كما تقدم محاربة عنيفة، يحمل سوطه في يده ويهوى به على النشء المثقف من المتعلمين! فيعجب القارئ بادئ ذي بدء لهذا الثائر الذي لا يرضى عن أحد، ولكنه ينصب للشاعر فيجده صاحب حق في جميع أقواله، فلا تناقض بين ما يقوله في شئ، إذ أن النشء المثقف في العراق وغيرها لم يحققوا الآمال المعقودة عليهم فقد رأوا كثيرا من الخرافات فلم يجلوا ظلامها الحالك عن النفوس، وشهدوا الأوضاع الظالمة - في عالم السياسة والاجتماع - فلم يحاولوا أن يقفوا أمامها وقوفا ينذرها بالتصدع والانهيار، بل ربما ساروا في ركابها سيرا مشينا، وقذفهم التيار إلى لحجها الزاخرة، فهزوا مع الغواة وأساموا سروح اللهو حيث اساموه، والشاعر يرجع ذلك كله إلى التربية نشأ عليها التلميذ في مدرسته، فقد وجد من الأساتذة من لا ينير طريقه ويكشف ليله، ومن المناهج قشورا بالية يعني وضعها المستعر، فليست خلقا أو تحيى كرامة، بل تخلق فتى مائعا بهندامه كلبسه، ويتشبه بالنساء في عطوره وزينته، ويمشي متخاذلا مدلا تغمره الأحاسيس الناعمة. وتقوده العواطف الرقيقة وقد يتناسى رجولته فيلجأ إلى التخنث والتبذل والعربدة، فخطرات النسيم تحرجه، ولمس الحرير يكلم راحته، وقد مات شعوره فلم يفكر في ضحايا قومه، وصرعى معشره، كأنه ليس عنهم وليسوا منه! فيصير هؤلاء المماسيخ المشوهون خلقا وعقلا ومعقد آمال ومبعث حياة، أم يسيرون بأمتهم إلى الوراء مئات الأميال، ويهوون بها إلى الحضيض السحيق في أغوار الظلام!

هلمو إلى النشء المثقف واكشفوا ... حجابا يغطي نفسه وقناعا

تروا كل مفتول الذراعين ناهدا ... قصيرا إذا جد النضال ذراعا

وكل أنيق الثوب شد رباطه ... إلى عنق يمشى العيون لماعا

يموع إذا مس الهجير رداءه ... كما انحل شمع بالصلاء فماعا

تراه خلي البال أن راح داهنا ... وان قد ذكا منه الأريج وضاعا

وليس عليه ما تكامل زيه ... إذا عرى الخلق الكثير وجاعا

وان راح سوط الذل يلهب أمة ... كراهية يستاقها وطواعا

ولم تشجه رأيا وسمعا قوارع ... يسوء عيانا وقعها وسماعا

ورب رءوس برزة عششت بها ... خرافات جهل فاشتكين صداعا

بها نومتنا الأمهات تخوفا ... وما أيقظتنا الحادثات تباعا

وكما حنق الجواهري على المثقفين من بني وطنه، حنق على بعض رجال الدين من ذوي العثانين الممتدة، والعذبات الطويلة، إذ أن رجل الدين الصادق في رأيه هو الذي يغير المنكر بيده ولسانه وقلبه، فيكون ثائرا أن دعا الأمر للثورة، وصائلا حين يتحتم الصيال، وقد تزين بلباس الدين أقوام من مشايخ الطرق وأصحاب الأذكار والأولاد، هم لايفهمون قليلا عن روح الشريعة ولباب الإسلام، وصادفوا من العامة ثقة غالية ومنزلة رفيعة فحرفوا الكلم عن موضعه، وابتدعوا البدع ابتداعا، وجسموا الأوهام تجسيما يدعو إلى الذعر والهلع، ومسخوا روح الدين من النفوس، وساعدوا الطغاة والآثمين، فكانوا مطاياهم السريعة في التنويم والتخدير، وزاد الكارثة هولا أن هؤلاء الأدعياء لا يتورعون عن الآثام في حقير أو جليل، فهم يقترفون الموبقات، وينتهكون المحارم! ويتصيدون الرشى والأموال من سبل مريبة، حتى فاح النتن الآسن منهم على الناس، ولابد لهذه الشرذمة من نقد عاصف يكشف زيفها الخاتل، ويطمس بريقها الأخاذ، فأندفع الجواهري يندد بهم في قصائده الثائرة كأن يقول

تحكم باسم الدين كل مذمم ... ومرتكب حفت به الشبهات

وما الدين إلا آلة يشهرونها ... إلى غرض يقضونه وأداة

وخلفهمو الأسباط تترى ومنهمو ... لصوص ومنهم لاطة وزناة

وما كان هذا الدين لولا ادعاؤهم ... لتمتاز في أحكامه الطبقات

أتجبي ملايين لفرد وحوله ... ألوف عليهم حلت الصدقات

وأعجب منها أنهم ينكرونها ... عليهم وهم لو ينصفون جباة

والشاعر لا يترك سبيلا للتنديد بهم إلا سلكه وأغل فيه، ولو لم تكن مناسبة الكلام قوية ملحة، فعندما احتفلت البلاد بالذكرى الألفية لأبى العلاء المعري، وذهب الشاعر إلى دمشق ليلقي قصيدته باسم العراق، لم يشأ أن يقصر الحديث على روائع الفيلسوف وآثاره، بل حلل آراءه الاجتماعية تحليلا شعريا يمس اللباب الخالص، ويشع مومضا بمختلف الإيحاء والإلماع، وكأن الشاعر الفرات يجد الراحة الهانئة في التنفيس عن مشاعر الممتزجة بمشاعر أبي العلاء، والناس هم الناس في كل زمان ومكان، فما أغضب المعري من أوضاعهم الشائنة قد أغضب الجواهري بعد ألف عام!! وكان لأدعياء الدين نصيبهم الوافر من النقد والتجريح، فحفلت قصيدة الجواهري بقوارس لاذعا تسيل دماءهم وتحطم كبريائهم، وتوغر صدورهم، وما عليها وقد وافق أبا العلاء في رأيه، وجرى معه في سنن واحد حين أهدى إلى روحه هذه الأبيات وهؤلاء الدعاة العاكفون على ... أوهامهم صنما يهدونه القربا

لحابطون حياة الناس قد مسخوا ... ما سن شرع وما بالفطرة اكتسبا

والقاتلون عثانينا مهرأة ... ساءت لمحتطب مرعى ومحتطبا

والملصقون بعرش الله مانسجت ... أطماعهم بدع الأهواء والريبا

والحاكمون بما توحي مطاعمهم ... مؤولين عليها الجد واللعبا

على الجلود من التدليس مدرعة ... وفي العيون بريق يخطف الذهبا

أوسعتهم قارصات النقد لاذعة ... وقلت فيهم مقالا صادقا عجيبا

صاح الغراب وصاح الشيخ فالتبست ... مسالك الأمر أي منهما نعبا

يتبع

محمد رجب البيومي