مجلة الرسالة/العدد 993/زعماء التاريخ
مجلة الرسالة/العدد 993/زعماء التاريخ
مصطفى كمال أتاتورك
للأستاذ عبد الباسط محمد حسين
(لم يكن مصطفى كمال رجلا من رجال المصادفة والحظ. . يرفعه إلى الزعامة غباء الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضم الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل. والحيوية للشعب الذي يأبى أن يموت.)
الزيات بك
- 6 -
انتهى الكفاح المسلح. . . وخرجت تركيا من الحرب منتصرة ظافرة. . وبذلك بدأت الحياة تدب في قلب الوطن التركي من جديد. . واضطر الحلفاء أن يعترفوا باستقلال الأتراك. . ويعيدوا إليهم حريتهم المسلوبة. . وأراضيهم المحتلة
ومن عجيب المتناقضات. . أن هول هذه النكبة التي حاقت باليونانيين. . كانت أكبر سبب في إزالة العداء بينهم وبين الأتراك. . وإنشاء علاقات ودية بين حكومتي أنقرة وأثينا. وهكذا نفذ مبدأ تقرير المصير عن طريق السيف والنار. . والذبح والتدمير
وإن الباحث في تاريخ الحركة الكمالية يرى أن هناك ظروفا - لم تخل من مزايا - ساعدت مصطفى كمال وأتباعه. . على الوصول إلى هذه النتيجة الباهرة. . التي لم يكن يتوقعها الأتراك أنفسهم
وهذه المزايا يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولا: نجد الترك في سنة 1919 - 1920 قد تخلصوا - إن طوعا وإن كرها - من عبء إمبراطوريتهم. . وكانت عبئاً أثبتت الحوادث أنه لم يكن لهم طاقة بحمله
ثانياً: في الحروب الماضية لم تنفذ الأطماع الأوربية إلى أرض الوطن التركي نفسه. أما عند نهاية الحرب العالمية. . فقد قسمت تركيا إلى مناطق نفوذ بين الدول الكبرى. . فكان لذلك أثر كبير. إذ دبت في صدور الأتراك عاطفة وطنية قومية. . تهدف إلى استقلال الوطن. . لا إلى استبعاد الغير. .
ثالثاً: أنهكت الحرب العالمية قوى المتحاربين جميعا لا فرق في ذلك بين المنتصرين والمنهزمين. . ولذلك لم يعبأ الرأي العام في الغرب بغضب رجال السياسة. . ولم ينل اليونانيون مساعدة جدية. . من جانب الحلفاء. . . مما ساعد الكماليون في حركتهم القومية
رابعاً: عملت الحكومة البلشفية في روسيا على تشجيع الكمالين ومساعدتهم. علهم يتمكنون من إجلاء الحلفاء عن القسطنطينية. . وسد المنافذ للبحر الأسود
ويرى الأستاذ محمد شفيق غربال. . أن هذه المزايا الأربع. . كانت عظيمة الأثر. . كبيرة الخطر. . ولكن لا يقلل هذا من عظمة مصطفى كمال. . وحسن بلاء أتباعه. . إذ لم تكن إذ ذاك واضحة وضوحها لنا الآن. . وكان قيامه بالحركة كله جرأة وإقدام وبعد نظر
وإذا أردنا أن ندرك عظمة الجهود التي قام بها مصطفى كمال. . فلنرجع إلى خطابه الذي ألقاه أمام حزب الشعب سنة 1927م. . والذي جاء فيه. . (وهناك أمران مهمان في صدد هذه الفترة. . أولهما: أنه كان يسود في الأذهان فكرة وجوب عدم إغضاب الدول الكبرى المنتصرة. أثناء البحث في وسائل الخلاص. . وكانت فكرة عجز الأمة عن الوقوف أمام واحدة منها. . فضلاً عن الجميع. . . راسخة رسوخا قويا في الأذهان. . ولم يعد منه شيء أبعد عن المنطق والعقل في نظر الناس من الوقوف في وجه قوى الحلفاء
أما ثانيهما: فهو الارتباط التام بمقام السلطان الخليفة انسياقا وراء التقاليد الدينية والوطنية التي مرت عليها الأجيال. . ولم يكن أحد قادرا على فهم معنى الخلاص من غير الخليفة. وكان من يشذ عن هذا المفهوم. . يتهم باللادينية. . واللاوطنية. . والخيانة. . .)
ومع هذا الفساد في الحكم. . والتشاؤم من المستقبل المظلم القاتم. . وفقدان الثقة بعظمة الأمة التركية وحيويتها. . كانت خطب الزعيم مصطفى كمال. . وأقواله المأثورة منذ أوائل الحركة النضالية وفي أثنائها. . وبعدها. . تدل على أن ما صدر عنه من توجيهات. . وأعمال قضائية. . وسياسية. . وانقلابية. . وإصلاحية. . في مختلف النواحي. . لم يكن مرتجلا، وإنما كان يدل على عظمة حقيقية
بعد أن انتهى مصطفى كمال من تحقيق غرضه الأول. . وهو الحصول على الاستقلال الوطن التركي. . بدأ ينظر في حالة البلاد الداخلية. . فكان أول عمل قام به هو الفصل بين السلطنة والخلافة. . وإلغاء السلطنة نهائياً من البلاد أخذ يخطب في المؤتمر الوطني. . وقال للنواب: (إن السلطنة شئ. . والخلافة شيء آخر. . ولابد من الفصل بينهما وإلغاء الأولى. .)
وحينما طال الاجتماع - وكثرت المناقشات. . ضجر مصطفى كمال من طول الانتظار. . فاقتحم القاعة وقال. (لقد اغتصبت السلطنة العثمانية السلطنة من الشعب. . ومن حق الشعب أن يستردها. . ويفصل بين السلطنة والخلافة. . ويجب عليكم أن توافقوا على هذا القرار. . وإلا كلفتكم المعارضة ثمنا غاليا هو. . . رؤوسكم. .) وما أسرع ما وافق الأعضاء. . وألغيت السلطنة. . وعزل السلطان وحيد الدين. . ونصب مكانه عبد المجيد خليفة للمسلمين. . دون أن تكون له صفه سياسية. . وبعد فترة قصيرة. . أعلنت الجمهورية. . وأصبح مصطفى كمال رئيسا لها. . ورئيسا لأركان حرب الجيش. . ورئيسا لحزب الشعب. . .)
نظر مصطفى كمال بعد ذلك إلى منصب الخلافة. . وكان يعتقد بعبث وجوده. . خصوصا وأن زعماء المعارضة بدءوا يتخذونه محورا لحركاتهم. وعملوا على تقويته بمختلف الوسائل، وكانت خطتهم تقضي بإعادة السلطة الزمنية للخليفة، وجعله سلطانا على الأتراك وفي سنة 1924، قرر المؤتمر إلغاء الخلافة وحرمان الخليفة المخلوق، وأفراد العائلة العثمانية ذكورا وإناثا، من الإقامة داخل حدود الجمهورية إلى الأبد
عمل مصطفى كمال بعد ذلك على إلغاء الطرق الصوفية، لأنه رأى ما لمشايخ الطرق من تأثير على الجمعيات والاجتماعات السرية، والدعوة إلى المظاهرات، وأثارت العصبية الدينية ضد العهد الجديد، وفي سنة 1925، صدر قانون بإلغاء الطرق، وإغلاق الزوايا، ومما قاله مصطفى كمال في ذلك، (إن هذا الظرف كان من خير الظروف للقضاء على هذه المخلوقات البغيضة التي شوهت الدين ومبادئه، وجعلت أماكنه أوكار جهل وعبث وفساد. .) كما أصدر تشريعا يقضي بمنع الإسراف في الأعراس، ومما جاء في هذا التشريع، (منع إقامة الأفراح لأكثر من يوم واحد، ومنع إقامة مآدب أفراح عامة، ومنع إهداء العروس أكثر من ثوبين. . .)
وعمل أيضاً على منع تعدد الزوجات، وتعليم البنات، وقد نص الدستور على التعليم الإجباري للأنثى كالذكر تعليما ابتدائيا، ويعتبر هذا التشريع خطوة كبرى أدت إلى سفور المرأة التركية، وخروجها إلى ميدان الحياة، ولم يقتصر على ذلك، بل نادي بتغير الزي بما يتناسب وروح العصر، وجعل القبعة غطاء الرأس لجميع أفراد الشعب التركي. . كما أصدر قانوناً بإلغاء الرتب والاقاب، واكتفى بأن جعل لكل عائلة لقبا تعرف به، وبذلك عرف باسم (أتاتورك) أي والد تركيا
حقا: لقد كان مصطفى كمال، والد تركيا، وزعيمها الأكبر، فإليه يرجع الفضل في نهضتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهو الذي جدد معالمها، وخلقها آخر، وجعلها من أقوى الدول الشرقية
ومما عرف عنه، أنه كان يكره أن يعزى إليه كل الفضل في بناء صرح النظام الجديد، بل يعزو نجاحه إلى وطنية الشعب التركي، وإخلاص رفاقه القائمين معه بأعباء الدولة، وكان يكره أيضاً أن يوصف عهده (بالكمالي)، أو أن يقال أن الشعب التركي ينتمي إلى الحزب الكمالي، وذلك لأنه يعتقد أن ليس في البلاد حزب كمالي، وحزب غير كمالي، لأن الشعب كله حزب واحد، هو حزب الوطن، يسعى لخير الأمة، ويعمل على رفع منارها
ولقد كان للأتراك في مصطفى كمال ثقة عمياء، وقد سئل أحدهم عنه مرة فقال (انه صفوة الرجولة التركية، ونموذجها المعصوم عن كل خطأ) لقد كمال زعيما وطنيا مخلصا، أحيا وجاهد، واصلح وشرع. . . (ولم يكن رجلا من رجال المصادفة والحظ، يرفعه إلى البطولة خلو الميدان، ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة، وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل، والحيوية للشعب الذي يأبى أن يموت. . .)
الإسكندرية
عبد الباسط محمد حسن