مجلة الرسالة/العدد 994/اتجاه الأدب الحديث إلى الطبيعة
مجلة الرسالة/العدد 994/اتجاه الأدب الحديث إلى الطبيعة
للأستاذ أنيس المقدسي
الطبيعة
إذا كان الأدب القروي يعيني خاصة بحياة الفلاح والبيئة التي يعيش فيها فإن أدب الطبيعة يعني بتصوير المشاهد الطبيعية والتعبير عما تثيره في نفس الإنسان. وليس وصف الطبيعة جديدا في الأدب العربي فد عرفته جميع العصور الأدبية واشتهر به كثيرون من شعرائها.
والوصف الطبيعي القديم وثيق الاتصال بالبيئة البدوية من قفار ورياح وأنواء ونبات وحيوان وما إلى ذلك. وهو عادة دقيق يميل إلى شرح الجزيئات؛ فإذا أراد الشاعر وصف حيوان كالناقة مثلا أو كالحمار الوحشي صور لك أعضاءه وألوانه وأوقفك على جميع حركاته وساكناته.
ومن خصائص الوصف البدوي الصدق وعدم التصنع، فهو عموما عرض واقعي لا يعمد إلى الزخرف اللفظي والتأنق الصناعي الذي نراه ضائعا في عصور الحضارة. يرى الشاعر شيا فيعرضه كما هو بلغة قد نراها غريبة ولكنها جارية مع سجيته منبعثة عن طبيعة بيئته.
وقد تطورت البيئية العربية بعد استقرار الملك العربي في الشام والعراق ومصر والأندلس فتطور معها الشعر الوصفي، وهكذا انصرف عن الصحراء وأحوالها إلى الحواضر الجديدة وما تحويه من بساتين ومتنزهات وفواكه ورياحين ومجاري مياه وما إلى ذلك من ظواهر الحياة المدنية. ولا بد لنا هنا من التنبيه إلى فرق واضح بين أسلوب الوصف البدوي القديم وهذا الوصف الحضري المولد. ففي الأول كما ذكرنا آنفات يغلب الصدق والبساطة في التصوير. أما الثاني فتبرز فيه الصناعة الفنية التي تتحرى إلباس الموصوف برداً قشيباً من الخيال. ولقد تمادى المولدون في حرصهم على ابتداع المعاني البيانية حتى طغت الصناعة عندهم علة صدق العاطفة فأصبحت الطبيعة في كثير من الأحيان وسيلة لإظهار براعتهم الفنية ومقدرتهم على التوليد.
على أننا إذا أنعمنا النظر في وصف القدماء عموما للطبيعة وقابلناه بما استجد في أدبن الحديث من ذلك وجدنا من الفرق بينهما مالا نجده بين الشعر القديم أو الجاهلي والشعر المولود في العصر العباسيوالأندلسي. فالطبيعة في الشعر القديم لم تتخذ موضوعاً خاصا وإنما كان الشعر يعرض لها في سياق غرض آخر كالغزل أو المديح أو الفخر، وكان يكتفي بأشكالها الخارجية لا يتجاوز الأفق الحس المشاهد إلى ما هو أبعد وأعمق. وبكلمة أخرى لم ير في الظواهر الطبيعية ما يحمله على التأمل العميق وما يوحي إليه من المعاني الخالدة والأفكار السامية، ولم يتغير الموقف في الشعر المولد تغيراً يصح أن يسمى اتجاها عاما، فظات الطبيعة عند المولدين وسيلة لا غاية ومعرضا لمشاهد جميلةلا مصدراً لأبحاث روحية. أما الأدب الحديث فلم يقف عند حد المشاهد التي تبهج النفس بل اتجه اتجاها عاما إلى ما للطبيعة من وجود معنوي يلذ للخيال الجولان فيه ويروق للفكر أن يسمو إليه.
ولهذا النظر الحديث إلى الطبيعة خصائص نحاول شرحها فيما يلي:
قد يقال أن الوصف ألحي للطبيعة يمتاز بملاحظة مالا يؤبه له عادة كانحناء السنبلة وتفتح البراعم وتبعثر أوراق الخريف وربوض البقرة تحت الشجرة واختباء الفراخ تحت جناحي أمها وتجاوب الأجراس في الواديولون العشب الذاوي وغير ذلك من مشاهد طبيعية متواضعة، وأنه يرتاح إلى الطبيعة الساذجة (البرية) دون المصطنعة المنمقة. فهو يؤثر الغاب على البستان، وشواهق الصخور على أسوار الحصون، وبحيرات الجبال على برك القصور. ورمال الشواطئ والصحاري على الساحات المعبدة في المدن والنوادي، والمجاري الطبيعية المتدفقة بين السهول والهضاب على الترع المحفورة لري الحقول والمزارع. بل إنه ليرى روعة خلابة في ما كان يهول القدماء كصخب العواصف وطغيان السهول وانقضاض الشلالات ووصف الرعود وتجهم الفدافد ووحشة الدياجي وتلاطم اللجج وما أشبه. وفي هذا القول شئ كثير من الصحة، على أن ذلك عند التحقيق ليس الفارق الرئيسي الذي يميز آداب الطبيعة في هذا العصر عنه في العصورالسابقة وإنما يميزه ما تقدمت الإشارة إليه من أن الأدب الحديث ينظر إلى الطبيعة نظراً معنويا يتجاوز أفق المشاهدات.
ومما لاشك فيه أن التصور المعنوي الذي تثيره المشاهد الطبيعية هو أقوى وأعم في أدبنا الحديث منه في أي عصر من عصورنا الماضية. ولهذا التصور أو النظر المعنوي نزعات نجملها في النزعتين التاليتين:
النزعة الحيوية:
وهي اعتبار الطبيعة ذات حياة وروح يمكن مخاطبتها ومناجاتها ومبادلتها الأفكار والعواطف.
وليس من الصواب القول أن الأدب القديم خلو من مثل هذا النظر أو الشعوب. فقد طالما وقف القدماءعلى الطلول فبثوا لها أشواقهم وسألوها عن أحبابهم، وإنما فعلو ذلك في الأغلب تمهيداً لبعض أغراضهم وجريا على اتباع السنة الشعرية التي كانت تقتضي الابتداء بالغزلومنهم من انطق الطبيعة ونسب أليها التأمل والتفكير كم فعل ابن خفاجة الأندلسي في قصيدة بصف جبلا فيقول فيه:
وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي مفكر في العواقب
على أننا نعيد القول أن تجده من ذلك فيما مضى لم يبلغ أن يكون اتجاها عاما أو بابا مستقلا يلجه الأدباء ليتصلوا بالطبيعة فيسجدوا في هيكلها ويحملوا إلينا منه ما توحيه من جمالها وأسرارها، أو على الأقل لم يبلغوا في هذا السبيل شأن زملائهم في القرن العشرين.
أن الطبيعة في الأدب الحديث (حيوية) عالقة يحس بضربات فؤادها ويسمع رخم إنشادها ويلذ له التحدث إلى أنهارها وغابتها وجبالها ووهادها. وممثل لك ذلك جبران جبران إذ يقف أما (الأرض) مقابلا محاسنها بقبائح الإنسان فيقول (ما أجملك أيتها الأرض وما أبهاك). ما أتم امتثالك للنور وأنبل خضوعك للشمس. ما أظرفك متشحة بالظل وما أطول أناتك! نحن نضج وأنت تضحكين. نحن نذنب وأنت تكفرين. نحن نجدف وأنت تباركين. نحن ننجس وأنت تقدسين نحن نكلم صدرك بالسيوف والرماح وأنت تغمرين كلا منا بالزيت والبلسم. نحن نستودعك الجيف وأنت تملئين بيادرنا بالأغمار ومعاصرنا بالعناقيد. نحن نتناول عناصرك لنصنع منها المدافع والقذائف وأنت تتناولين عناصرنا وتكونين منها الورود والزنابق!)
ولشكر الله الجر قصيدة في شلال البرازيل يدعى (تيجوكا) وهي أيضا من باب الوصف التأملي الذي تشعر فيه بحيوية الطبيعة. ومن أداورها:
غسلت بمائك عيني وعدت فأبصرت ما الناس لا تبصر فبالله قل لي إلام تنظر كذلك تجتاحك الأعصر
وأنت تكر كرور الزمان ... فلا تستقرر ولا تفتر
وهذا الوجود كما كان قبل شعوب تجئ وأخرى
تروح
ودنيا تضج بسكانها ... فهذا يغني وهذا ينوح
وذلك مستلم للقدر
وكثيرة هي وقفات الأدب الحديث على الطبيعة الملاحية من جبال وأودية وأنهار وصحار ونجوم ورياح وبحار حتى ليتعذر حصرها.
وكما شغف الأدب الحديث بالطبيعة الملاحية فأحياها وجعلها ذات شعور وأدراك ونظراً مستوحياً منها الأفكار والخواطر والعبر، شغف أيضا بالطبيعة الحية من نبات وحيوان فجعلها موضعاً لتخيلاته وتأملاته، ووسيلة للتحدث عما يتجلى له في حياته.
ففي عالم النبات مثلا يقص علينا جبران جبران حديث البنفسجية التي كانت تطمح أن تكون وردة.
وممن استخلص من البنفسجية موضوعاً إنسانياً خليل شيبوب إذ وصف جمالها وتواضعها فقال.
قد التحفت أوراقها وتطامنت ... على نفسها في ورق وتواضع
مكحلة الأجفان يقضي حيائها ... عليها بإغضاء اللحاظ الخواشع
وهل كبرياء الدوح تعدل نظرة ... للمومة ثوبها المتواضع
وفي غابة من غابات البرازيل يمر الشاعر القروي مرة فيرى دوحة عظيمة قد طرحتها الأرض يد الإنسان فيحدثنا حديث تلك (الدوحة الساقطة) وشكواها من جور الإنسان. وفي هذا الحديث تذكر لنا الشجرة شيئاً عن حياتها ونشأتها وكيف نمت حتى أصبحت كثيرة الأغصان وأرفه الظلال تأوي أليها الطيور ويقصد ظلالها طلاب الراحة. ثم نصف عالم النبات وأنه هو موطن المساواة والخير، لا عالم الإنسان الموبوء بالطمع والفساد القائم على التعدي والتدمير. وبعد أن تنعى نفسها إلى أشجار الغاب يتناول الشاعر الحديث مستطرداً إلى وصف الدوحات البشرية (أي النوابغ) وما يصيبهم بين الناس من هوان وعناء. ومن الشعر التأملي المستوحي من عالم النبات قصيدة (الورقة المرتعشة) لرشيد أيوب. . يرى الشاعر ورقة من أوراق الخريف فتثير فيه - وقد دنت شمسه للمغيب - خواطر وذكريات ويخاطبها بقوله:
أبنت الربيع استريحي غداً ... فكل الهناء لمن لا يعي
قضيت الربيع وكل الحيا ... ة زمان الربيع فلا تجزعي
فماذا أتقول أنا في الشتاء ... وصوت العواصف في مسمعي
أبيت الليالي أرعى النجوم ... وان نمت نامت همومي معي
والشعر الحديث المستوحى من الطبيعة النباتية شعر كثير ومثله المستوحى من الطبيعة الحيوانية عالم الطيور والحشرات وحيوانات البر والبحر وإليك منه بعض الأمثلة:
ينظر الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل إلى الغراب وهو واقف على غصن شجرة من أشجار النخيل، فيتصوره (راهباً) كبير السن واسع الاختبار (وعوضاً عن أن يتطير منه كما يفعلون عادة بتلطف في الاقتراب إليه ثم يلقى عليه أسئلة عما لم يستطيع فهمه من أسرار الحياة راجياً منه لأن يجلو له أسرارها ويكشف أستارها. وهذه الأسئلة ليست في الحقيقية إلا ما يساور نفس السائل لدى تأمله في حياة الناس وأحوالهم. وقد أتخذ الغراب وسيلة للتحدث عنها والتعبير عن رأيه فيها.
وفي الخريف يرى أبليا أبو ماضي فراشة وقد دنا أجلها فيجعلها موضوعاً لقصيدته (الفراشة المحتضرة) ومن هذه القصيدة قوله مخاطباً تلك الفراشة:
فالزهر في الحقل أشلاء مبعثرة ... والطير - لا طائر إلا جناحاك
يا روضة في سماء الأرض طائرة ... وطائراً كالأفاعي ذا شذا زاك
مضى مع الصيف عهد كنت لاهية ... على بساط من الأحلام ضحاك
تمسين عند مجاري الماء نائمة ... وللأزاهر والأعشاب مفداك
يا نغمة تتلاشى كلما بعدت ... إن غبت من مسمعي ما غاب معناك
ويسمع احمد رامي طائر يغرد تغريداً شجيا وهو يتنقل من غصن إلى غصن فيغبطه لأنه بعيد عن الناس ويقول له:
واصدح فصوتك في الفؤاد صد ... للغابر المدفون من زمني لك انه في الليل خافتة ... تسري إلى قلبي بلا أذن
هبني جناحك كي أطير به ... وأحط فوق شواهق الفتن
وأطل فوق الكون مبتهجاً ... بجماله المتناثر الحسن
ومن هذا القبيل موشح الشاعر العراقي محمود الحبوبي استوحاه من تغريد طائر على شجرة فحداه ذلك دلك إلى وصف الحياة والناس، متمنيا لو كان للبشر نصيب من حياة الطائر المرحة الوديعة لعلهم يرجعون إلى صوابهم وينبذون ما أفسد عليهم سعادتهم.
ولو أردنا أن نعدد الأمثلة على ما للطبيعة الحية من أثر في أدبنا الحديث لطال بنا سفر الكلام.
النزعة التاريخية:
ولم يكتف أدباء هذا العهد بمناجاة الطبيعة وبثها ما يشعرون به، بل كثيراً ما تراهم ينظرون من خلالها إلى التاريخ حيث يتجلى لهم جلال القدم وحوادث الزمان. والذي يلاحظ أن هذه النزعة تكاد تكون مفقودة في أدبنا الماضي. ومن أمثلتها قصيدة احمد شوقي (أيها النيل) ومطلعها:
من أي عهد في القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من ... عليها الجنان جداولا تترقرق
وفي هذه الوقفة التاريخية يصف النيل مسهباً ذا كراً ما قام على ضفافه من ممالك وأديان ومن مشى عليها من أنبياء وفاتحين، وأنه كان مهد الحضارة والعلم وموئل الحكمة ومصدر النور.
ومن الأنهار الشرقية الموحية للذكريات التاريخية: الفرات ودجلة والأردن والعاصي وبردى واليرموك ونهر الكلب قرب ببيروت وسواها. ومن البحيرات طبريا والبحر الميت.
ولا تقتصر الوقفات التاريخية على الأنهار والبحيرات، بل تتناول أيضا الجبال والأودية كجبل الشيخ والكر مل وطور سينا ووادي موسى وسواها.
وكما يتأثر الأدب الحديث بالطبيعة الشرقية يتأثر بالطبيعة الغربية. وقد نشر الشاعر محمد عبد الغني كلمة في مجلة الرسالة موضوعها (شعراء الشرق والطبيعة الغربية) ذكر فيها أن كثير من شعراء الشرق الذين عرفوا أن البلدان الغربية تغنوا بمحاسن الطبيعة هناك ومنهم ايليا أبو ماضي وميخائيل نعمة وشكر الله الجر وبشر فارس والشاعر القروي وفخري أبو السعود وأشار إلى بعض قصائد له نشرت في مجلة المقتطف سنة 1935، وإننا نضيف إلى ما ذكر الوقفتين التاليتين: (على نهر التامس) في لندن و (على نهر السين) في باريس.
وفي أدب المهاجرين وغير المهاجرين أقوال كثيرة من هذا القبيل.
أنيس المقدسي