مجلة الرسالة/العدد 994/عود على بدء

مجلة الرسالة/العدد 994/عود على بدء

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 07 - 1952



الاستعمار البريطاني في الملايو

عرض وتحليل

للأستاذ محمد جنيدي

هناك في الشرق الأقصى على بعد آلاف الأميال من قلب العالم الإسلامي يربض شبه جزيرة الملايو ربضة الأسد المتحفز للوثبة الكبرى للتحرر من قيود الذل والاستعباد.

هناك وعي قومي منبعث من النفوس الحرة، ثائر على الأوضاع الاستعمارية. يمثل القوى القومية المناهضة للقوى الاستعمارية. يضع الخطوط الرئيسية الأولى لبرنامج قوى لإعداد قوى الأمة لجهاد طويل مرير، وكفاح شاق عنيف. تسفك خلاله دما زكية، وتبذل أموال طائلة، حتى يتحقق الأمل القومي المنشود.

لقد أتقضى أكتر من ثلاثة قرون للحكم البريطاني في الملايو تخللتها تطورات في أنظمة الحكم، وتغيرات في شؤون المال والاقتصاد. ولا يزال الحكم البريطاني فارضاً سلطته على الشعب الملايوي مستغلا جهوده. وملايا قطر شرقي يقع في جنوب شرق أسيا، يطل على المحيط الهندي. اشتهر في العصر الحديث بإنتاجه الزاخر من المطاط والقصدير، وبقاعدته الحربية (سنغافورة) واهم إنتاجه المعدني القصدير. وفي جزيرة سنغافورة القاعدة الحربية البريطانية اكبر مصفاة لتصفية القصدير الخام في العالم تملكها الشركات البريطانية. ير د القصدير الخام على الناقلات البحرية من سائر أنحاء العالم لتصفيته ثم تصديره إلى الأسواق العالمية. وأما أهم إنتاج ملايا الزراعي فهو الأرز. وتنتج غاباتها الكثيفة أنواعا مختلفة من الأخشاب. ويصدر المطاط والقصدير والأخشاب وزيت جوز الهند والأناناس والكوبرا إلى البلدان الأجنبية. وتستغل الشركات البريطانية والأوربية والصينية المزارع الواسعة التي تفيض بأحسن المنتوجات. ويتحكم البريطانيون في إنتاج المطاط وفي تقرير سعره. والمطاط هو الدافع العظيم لبقاء بريطانيا في الملايو. فقد تخلت عن بعض مستعمراتها في الهند الشرقية لهولندا إزاء تنازل هولندا عن بعض مستعمراتها في الملايو. . . ففي عام 1824 تنازلتبريطانيا عن ولاية في جزيرة سو مطرا لهولندا وتخلت هولندا لها عن مقاطعة في الملايو. ويظهر لنا من خلال هذا التبادل مدى اتحاد الحكومات الغربية في سبيل استبعاد الشعوب الشرقية الضعيفة. وفي سبيل الاستعمار والاستغلال تأتلف القوى الغربية الحديثة وتقف جبهة متحدة أمام القوى المناوئة لها. وأبرز مظاهر التعاون الاستعماري الغربي الحديث: الحرب الكورية والقتال في الهند الصينية والحركات العسكرية في الملايو. فقد اتحدت الدول الاستعمارية الكبرى على القضاء على الحركات التحريرية المنبعثة من البلدان الشرقية التي لا تزال تتجرع علقم الاستعمار الغربي. كما تعاونت تعاونا تاما فيما بينها على احسن الطرق التي يجب على كل منها أن تتبعها إزاء توارت الأفكار الحرة التي تطالب بالحرية والاستقلال ولا تزال نيران المعارك التحريرية مندلعة في أنحاء الشرق للقضاء على الاستعمار الغربي.

بدأ الاستعمار البريطاني في القرن السابع عشر يبسط نفوذه على الملايو. فقد مهدت (شركة الهند الشرقية) البريطانية السبل أمام الحكومة البريطانية لاستعمار الملايو. والاستعمار البريطاني للملايو بدأ أولا عن طريق الفتح الاقتصادي حيت تغلغلت شركة الهند الشرقية البريطانية في حياة الشعب الملايوي الاقتصادي. وغدت المرافق العامة في قبضتها، واستغلت جهود الشعب الملايوي في الإنتاج، كما استغلت سوء الحكم الإقطاعي الذي تميز به ذلك العصر في ضم الحكام البريطانيين إليها. حتى تركزت قدمها وانتشر نفوذها. وغدت الحياة الملايوية الاقتصادية تحت إشرافها. فرجال الاستعمار البريطانيون رجال ذوو خبرة وكفاءة ممتازة في أعمالهم، وذوو معرفة بعلم النفس استعملوا كل وسائل الأغراء والنفاق في جذب النفوس واستمالتها، والوسائل الاستعمارية البريطانية قد وضحت لدى الشعوب الشرقية، ورغم معرفتها لها، فإن التدخل البريطاني في شؤون الشرق لا يزال مستمراً، وإذا حققنا الأسباب التي جعلت بريطانيا تتدخل في شؤون الشرق منذ ثلاثة قرون إلى اليوم. برزت لنا من خلال هذه القرون الطويلة مآس دامية طوحت بالمثل الإنسانية العليا وبالكرامة والشرف، فصفاء القلب، ونقاء النفس، ونزاهة العمل، مفقودة عن بعض الزعماء للشرقيين الذين نصبوا أنفسهم زعماء على شعوبهم، فأصيبت بلادهم وشعوبهم بالخسران المبين جزاء لما اقترفوه من أثم. ثمكانت الطامة الكبرى. والبلية العظمى. بلية الاستعمار والاستعباد. ولم يدر بخلد الزعماء الشرقيين أن يدرسوا حياة القادة الأوائل الذين أقاموا صروح المدينة الشرقية التي غابتها سعادة الإنسانية وخدمة البشرية، فاحتفظوا بحرية أوطانهم قرونا عديدة، حتى انهارت ممالكهم بخروج خلفهم عن السياسةالمرسومة التي وضعت لحفظ تراث المدينة الشرقية، أو يدرسوا حياة القادة الغريبين الذين فرضوا نفوذ حكوماتهم على الشرق، وكيف كانت نفوسهم تسموا على الصغائر. . لكن تصفو قلوبهم، وتنقى نفوسهم من ادرأن الحكم. فيسعوا متحدين لخلق قوة شعبية تناصرهم في منع التدخل الأجنبي في شؤون أوطانهم. وهذه الأمور المعنوية هي السبب الذي أوقع البلاد الشرقية تحت الاستعمار الغربي. وأوقع الملايو ضمنها. وملايا - كما عرفناها - قطر صغير مقسم إلى عدة أقسام يشرف على كل منها حاكم يلقب بالسلطان كان يحكم بلاده حكما إقطاعياً. وقد زال هذا الحكم بانتشار الوعي القومي بين الشعب الملايوي، وبانتشار النفوذ البريطاني في مصالح الدولة.

أوجد الاستعمار البريطاني في الملايو إصلاحا عمرانيا. فقد جيش الوطنيين في إصلاح الطرق وإنشاء الكبارى. واستغل جهودهم في التعمير والبناء. فخطوط السكك الحديدية تقطع ملايا من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غر بها. وغدت بعض بلدانها مراكز هامة للتجارة الدولية. وقد اشتهرت (سنغافورة) خلال القرن الرابع عشر بمركزها التجاري للشعوب القاطنة على سواحل المحيط الهادي والهندي. واستمرت شهرتها التجارية حتى الآن، كما اشتهرت بمركزها الإستراتيجي. وفي سنغافورة جاليات أجنبية كثيرةمن شعوب مختلفة. هاجرت أليها ابتغاء المعيشة. وفتحت بريطانيا أبوابها أمام شعوب العالم لتغدو مدينة تجارية حرة في الشرق الأقصى. ثم اشتهرت بعد سنغافورة (ملقا) في القرن السادس عشر، وأصبحت مركزا تجاريا دوليا وخشيت بريطانيا أن تنافس ملقا جزيرة سنغافورة من ناحيتها التجارية فأغلقت أبوابها أمام التجارة الدولية. وأمست ذات مركز تجاري ثانوي. . ولا نغمط الاستعمار فضله في إنشاء ملايا وتعميرها؛ فقد قبل الاستعمار الأوربي قطعة ارض تمسها يد الإصلاح. ولما دخلت في عهد الاستعمار الغربي أحالها إلى قطعة جميلة توفرت فيها وسائل الترفيه والكمال. وغدت مدنه الكبرى في مستوى البلدان الراقية في الشرق ولم يعمل الحكم البريطاني على نشر الثقافة والتعليم بين الشعب الملايوي. ويعد القارئ الكريم أن من مبادئ السياسة الاستعمارية الغربية في الشرق عدم نشر التعليم بين المستعمرين لان العلم والاستعمار لا يتفقان. وأما التعليم الذي نشره الاستعمار البريطاني في ملايو فهو تعليم بسيط لفئة قليلة من الوطنيين لخدمة الحكم البريطاني في مصالح الدولة. وسنتكلم في نهاية البحت عن الثقافة في الملايو منذ بدأ الحكم البريطاني فيها. وعن مجهود الوطنيين في نشر التربية الوطنية والثقافية بين مواطنيهم.

تنقسم ملايا طبيعيا إلى إحدى عشر ولاية ومقاطعة وهي: =

1 - سنغافورة2 - ملقا3 - بيراك4 - سيلا نجور5 - نجرى سبيلان 6 - فاها نج7 - كد 8 - ييرليس 9 - كلانتان10 - ترنجانو11 - جوهور.

وقد قسمتها الحكومة البريطانية إلى ثلاث وحدات سياسية كل واحدة منها منفصلة عن الأخرى تمام الانفصال. ولكل منها حكومة محلية يشرف عليها مستشار بريطاني يتصل بالمندوب السامي البريطاني وهذا يتصل بوزارةالمستعمرات البريطانية وهذه الوحدات هي: -

1 - مستعمرات البرفاز وتتكون من ثلاث مقاطعات هي: - (1) سنغافورة (2) فينا نج (3) ملقا وهذه المستعمرات ليس لها سلطان وطني لذلك اعتبرتها بريطانيا فيما بعد من ممتلكاتها فيما وراء البحار.

وهذه المستعمرات متقاربة فيما بينها، والحركات التجارية فيها، عظيمة، ويمكن اعتبارها من البلدان التجارية الهامة في جنوب شرق أسيا، وقد جعلها الاستعمار البريطاني مراكز دولية في الشرق الأقصى، ففيها جاليات أجنبية كبيرة، وفيها مؤسساتها والاقتصادية، والحياة فيها تقوم على شؤون التجارة الدولية.

2 - ولايات ملايا المتحدة وتتشكل من أربع ولايات كبيرة هي: - (1) بيراك (2) سلانجور (3) نجرى سبيلان (4) فاهانج والرئيس الوطني لكل ولاية هو السلطان وفي عام 1909 - أنشأت الحكومة البريطانية لهذه الولايات مجلسا اتحاديا للأشراف على شؤون الولايات العليا، ويرأسه المندوب السامي البريطاني، وقد اختبر أعضاؤه من سلاطين الولايات الأربعة المتحدة، ومن كبار الأعيان فيها، ومن البريطانيين والصينيين الذين ليسوا في خدمة الحكومة المحلية، وقد أظهر سير الحياة في الملايو أن هذا المجلس ما هو ألا صورة خيالية أرادت به بريطانيا أن تظهر للملايويين مسايرتها الذي يحدث في ملايا.

3 - ولايات ملايا اللا متحدة وتتكون من أربع ولايات هي (1) كدة (2) برليس (3) كلانتان (4) ترنجانو، ولكل ولاية من هذه الولايات سلطان وطني عليها. ويذكر التاريخ الحديث أن ولايات (كدة وكلانتان وترنجانو) كانت خاضعة لمملكة سيام البوذية، وفي عام 1909 عقدت بريطانيا وسيام اتفاقية بمقتضاها انضمت هذه الولايات الثلاثة تحت علم الاتحاد البريطاني وأمست خاضعة للحكم البريطاني، وسميت بولايات ملايا اللا متحدة، ثم في عام 1914 - انضمت ولاية (جوهور) إلى الولايات الملايوية اللامتحدة، وقبلت مستشارا بريطانيا لها، وهذه الولاية في مقدمة الولايات الملايوية تقدما وعمرانا.

لنلق نظرة خاطفة على التقسيمات الإدارية التي أجرتها بريطانيا في ملايا لنستشف من ورائها ما تخبئه السياسة الاستعمارية البريطانية من غايتها تقسيم ملايا إلى ثلاث وحدات سياسية، لكل منها أسلوبها الخاص في سياسة الحكم.

أن سياسة فرق تسد لا تزال الحكومة البريطانية تتبعها في مستعمراتها، فهذه التقسيمات الحكومية لملايا حاجز منيع أرادت به بريطانيا أن تضع ستارا بين كل ولاية وأخرى يضعف العلاقات القومية بين كل منها. فتصبح الولاية غريبة عن الثانية. ليس هناك عامل قومي يربط بين سكانها وأوجدت السياسة الاستعمارية البريطانية بجانب هذه التقسيمات الإدارية حصارا شديدا على للملايويين منعهم عن مباشرة حقوقهم الشرعية في إنشاء المؤسسات السياسية والثقافية التي تهيئ الشعب لحياة الحرية والاستقلال، فمنذ بدأ الحكم البريطاني للملايو إلى أن وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها كان الاشتغال بالسياسة محرما على الشعب الملايوي. ولما بدأ الاحتلال الياباني للملايو في فبراير عام 1942 نفخ اليابانيون في أبواق الدعاية اليابانية (آسيا العظمى) و (الرخاء الآسيوي) فدب النشاط الفكري في المجتمعات الملايوية: وأقبل اليابانيون على تدريب الشبان للملايويين على الأعمال العسكرية: فشعر الملايويون بحياة جديدة أساسها التقشف والخضوع.

لقد نهجت الحكومة البريطانية هذه السياسة في إدارة شؤون الملايو. وهي سياسة استعمارية بحتة تتناف مع الحياة في عصر النور.

كنا في ديسمبر عام 1941 والقوات اليابانية تكتسح القوات الاستعمارية في الشرق الأقصى وتطردها عن هذه البقعة التي يسيطر الاستعمار الأوربي منذ ثلاث قرون. فالقوات اليابانية الصفراء تنتقل من نصر إلى نصر في معاركها ضد القوات المتحالفة في الباسيفيك وفي جنوب شرق أسيا. وفي 8 ديسمبر عام 1941 قذفت القوات اليابانية السائرة نحو جنوب أسيا أول قنبلة على (سنغافورة) تم تابعت سيرها على الملايو لإقصاء القوات البريطانية عنها. وفي 15 فبراير عام 1942 وهو يوم تاريخي في حياة الاستعمار البريطاني في الشرق الأقصى عقدت وثيقة تسليم سنغافورة إلى القوات اليابانية حيت اجتمع الجنرال مع الجنرال الأول ممثل من الحكومة البريطانية: والثاني عن الحكومة اليابانية في ووقعا على وثيقة تسليم ملايا إلى القوات اليابانية وغدت ملايا محتلة يابانية.

لقد دخلت ملايا في عهد جديد من حياتها العامة فالسلطات اليابانية المحتلة فرضت نظامها العسكري على الشعب الملايوي ذلك النظام الذي أحال الحياة في الملايو إلى جحيم.

ضمت الحكومة اليابانية الملايو إلى جزيرة سو مطر. وكونت منهما دائرة واحدة لها حكومة خاصة تحت أشراف قائد عسكري. ولما صفيت الملايو من القوات البريطانية، وانتشى اليابانيون بخمرة النصر، واصبحوا سادة الشرق الأقصى قدموا بعض الولايات الملايوية هدية إلى مملكة سيام البوذية جزاء للأعمال الجليلة التي قامت بها سيام نحو القوات اليابانية خلال زحفها إلى الملايو. فعندما كانت المعارك الطاحنة تدور بين القوات اليابانية والقوات البريطانية خلال الحرب العالمية الأخيرة في الشرق الأقصى لم تجد القوات اليابانية منفذا لها لاكتساح الملايو. فأفسحت سيام المجال أمامها بالدخول من أراضيها والتغلغل في الأراضي الملايوية. وجزاء لهذه الخدمة الحربية التي قدمتها سيام لليابان سلمت الحكومة اليابانية ولايات (كدة. برليس. كلانتان. ترنجانو) الملايوية إلى حكومة سيام لتستعمرها وتستعبد أهلها. . .

دار الزمن دورته ودارت عجلات الحياة في الملايو تحت احتلالها. فقد قامت بأعمال تتضاءل أمامها أعمال الشياطين. . . وفي 10 أغسطس عام 1945 ترنح ذلك القزم الشرقي الجبار تحت تأثير قنبلتين ذريتين ألقيتا عليه واستسلم للقوات المتحالفة. وهنا تتحرك السياسة الاستعمارية البريطانية لوضع نظام الحكم الجديد للملايو. ففي 15 سبتمبر عام 1945 بسطت السلطة العسكرية البريطانية نفوذها على الملايو. وعاد الشعب الملايو تحت الاستعمار البريطاني مرة ثانية. .

وهنا نتساءل لماذا خضع الشعب الملايوي للاستعمار البريطاني مرة ثانية؟

هناك عدة أسباب هامة أجبرت الشعب الملايوي على قبول الأمر. بوقوع بلادة مرة ثانية تحت النفوذ البريطاني وتتلخص هذه الأسباب فيما يلي: -

1 - أن الجيش البريطاني قد بدأ بغزو الملايو قبل الغزو الياباني، وأنه تكمن من احتلال بعض مناطقها وفرض سلطتها عليها.

2 - أن الشعب الملايوي فقير في الرجال والقادة الذين يثبتون أمام الكوارث والخطوب. يقودون أمتهم لخوض غمار معارك التحرير، ويقفون أمام المستعمرين يناضلونهمويكافحونهم في ميدان السياسة والاقتصاد.

3 - أن الجيش الياباني لم يترك سلاحه في الملايو كما في بغض البلاد التي احتلها. فأصبح الشعب الملايوي أعزل من السلاح.

4 - أن في الملايو أكتر من مليون صيني. وهؤلاء يكونون جبهة متحدة للمطالبين بسيادتهم على الملايو. وهم رجال تجارة وأعمال.

5 - أن الشعب الملايوي تنقصه الدعاية الخارجية لعرض قضيته أمام العالم الحر، وجذب عطف الشعوب المحبة للحرب إلى جانبه.

6 - أن القيادة الداخلية للحركات التحريرية لم توسع نطاق أعمالها في جميع أنحاء الملايو لكي ينصف الشعب الملايوي في وطنه الذي لاقى الأمرين من الاستعمار الغربي، وأن الدعاية الوطنية لم تنتشر الانتشار المطلوب بين للملايويين ليشعروا بواجباتهم الوطنية نحو وطنهم.

فهذه الأسباب التي أمكننا استنتاجها من الحياة الملايوية هي بعض من أسباب كثيرة جعلت الشعب الملايوي يخضع للأمر الواقع.

رسم السياسة البريطانيون القابعون في مكاتب وزارة المستعمرات البريطانية بلندن السياسة الجديدة التي ستتبع الحكومة البريطانية في الملايو بعد أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها. فأصدرت الحكومة البريطانية (الكتاب الأبيض) وفيه المناهج الجديدة لنظام الحكم الملايو. وفي أكتوبر عام 1945 وصل السير هارولد مكميل من رجال وزارة المستعمرات البريطانية إلى الملايو. وقدم مذكرة إلى سلاطين ملايا ليوقعوها. وتنص هذه المذكرة بأقرار الموقعين عليها تسليم سلطتهم إلى ملك إنجلترا. . ثم في أول أبريل عام 1946 ظهرت على مسرح الحياة في الملايو الحكومة الجديدة التي أوضحت في الكتاب الأبيض. وهي حكومة (ملايا المتحدة) شملت جميع الولايات والمقاطعات الملايوية وهي حكومة مركزية تولى رئاستها الحاكم البريطاني وهو السير أدوا رد جنت. ويستمد سلطته من حكومة لندن. وبظهور هذه الحكومة توحدت أجزاء ملايا. واصبح لملايا حكومة واحدة لا ثلاث حكومات كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية، وخسر سلاطين ملايا مركزهم العالي وهو سلطتهم.

أنشئت حكومة ملايا المتحدة مجلساً تنفيذا وآخر تشريعيا يعاونان الحاكم البريطاني في إدارة شؤون الدولة وأنتخب أعضائها من البريطانيين ذوي المراكز العالية في الحكومة الجديدة ومن ممثلي طبقات الشعب. وأنشأت أيضا مجلسا تنفيذيا لمقاطعة سنغافورة وآخر تشريعيا. وانتخب أعضائها من أتنين وعشرون عضوا نصفهم بنتيجة الحاكم من أعضاء الحكومة البارزين والنصف الآخر من ممثلي الأحزاب السياسية ويشترط فيهم أن يكونوا من رعايا بريطانيا ومولودين في المستعمرات الجديدة وقد قامت حركات وطنية ضد الحاكم الجديد وقامت الأحزاب السياسية بتنوير أذهان الشعب حول الحكم الجديد وما يخبئه لمستقبله. واتحدت كلمة الشعب الملايوي على رفض النظام الذي سلب كل حق كان يتمتع به سلاطينه.

مضى النظام الجديد في عمله ما يقرب من عام واحد وهو يترنح تحت ضغط الشعور القومي الملايويالذي ناصبه العداء منذ مولده. وقد كان هذا النظام تجربة استعمارية لمعرفة مدى قبول الشعب الملايوي للاستعمار البريطاني في وضعه الجديد وقد باءت بالفشل. فالشعب الملايوي التف حول زعمائه لدفع الحكم الجديد الذي أظهر مناوأته للحياة الملايوية الجديدة الرامية إلى مقاومة الاستعمار وإزالته عن ملايا وفي فبراير عام 1947 شيع الحكم الجديد إلى مقبرته وظهر بعده حكم آخر أساسه الاتحاد فقد أستبدل الاستعمار البريطاني حكومة ملايا المتحدة بحكومة أخرى هي حكومة الاتحاد الملايوي وضمت كافة الولايات الملايوية عدا مقاطعة سنغافورة. فإنها بقيت خارج الاتحاد. حيث اعتبرت التاج البريطاني.

فما هو الجديد في الحكومة الجديدة؟ لقد أعاد الحكم الجديد إلى سلاطين ملايا نفوذهم بعد ما سلبته الحكومة السابقة. وصاروا يتمتعون بسلطتهم كما كانوا قبل الحرب العالمية الأخيرة. وأفسح الحكم الجديد المجال لممثلي الشعب الملايوي بإيجاد مقاعد لهم في مجلس التنفيذ والتشريع الجديدين. وتولى بعض الوطنين مناصب الوزارة وإذا دققنا النظر في الحكومة الجديدة يظهر لنا أنها حكومة استعمارية، فقد ترأسها حاكم بريطاني برتبة مندوب سام وأشترك الأجانب في التمثيل. فمجلس التنفيذ والتشريع مكون من خمسة وسبعين عضوا منهم أربعة وعشرين عضوا من موظفي الحكومة ذوي المناصب العالية وتسعة وزراء ممثلون عن مجالس الولايات التي شكلت الحكومة الاتحادية وعضوان عن مقاطعة فينانج وملقا، وخمسون عضو، منهم اثنان وعشرين من الوطنين، وأربعة عسر من الصينيين وخمسة من الهنود وسبعة من الأوربيين، وعضو واحد من السيلانيين، وعضوا واحد أيضا عن المولدين.

هذه هي تشكيلات الحكومة الجديدة، وقد قبلها الشعب الملايوي مكرها وخلال هذه التطورات السياسية في أنظمة الحكم نشطت الحركات القومية التحريرية في جميع أنحاء ملايا لمقاومة الاستعمار البريطاني في ثوبه الجديد.

أنشأ الأحرار الوطنيون الأحزاب السياسية للسعي لاستقلال الملايو، وهي أول خطوة سياسية فعالة في جيل الاستقلال والأحزاب السياسية كالماء والهواء للشعوب المستعبدة لا تستطيع الاستغناء عنها فهي تكافح الاستعمار وتنشر الروح الوطنية وتلهب المشاعر والاحساسات القومية، وتجعلها شعلة نار متوقدة، وأهم الأحزاب السياسية الملايوية هي:

1 - حزب الاستقلال الملايوي، 2 - الهيئة الشعبية الملايوية المتحدة، 3 - حزب العمال، ولكل من هذه الأحزاب برامجها الخاصة في الكفاح والنضال لتحرير ملايا من الاستعمار وأقوى الأحزاب وأعظمها نفوذا هي (الهيئة الشعبية) فهي التي تقف أمام الحكومة الاستعمارية لتدافع عن حقوق الشعب المهضومة، وتطالب الحكومة البريطانية باستقلال ملايو، وتنتشر فروعها في جميع أنحاء ملايا، ولها منظمات كثيرة للشبان فهم سواعد في الكفاح والجهاد، ويؤيد الطلبة الملايويون المنتشرون في الشرق الأوسط والأدنى الهيئة الشعبية في مطالبها الوطنية وجهاد المقدس. وهؤلاء هم طلائع الدعاية الوطنية الملايوية في أنحاء الشرق. وقد بعثوا بمذكرات إلى الحكومة البريطانية يؤيدون فيها مطالب وطنهم، ويطالبون الحكومة البريطانية بتسليم السلطة في ملايا إلى الوطنيين. وتدل الحياة اليوم في الملايو على نشاط الأحزاب السياسية الملايوية في حركتها التحريرية، وهو نشاط ينبئ بالنجاح في تحقيق الحرية والاستقلال لملايا أن أمام الملايوين الأحرار مشاكل ومصاعب شتى تعترض سبلهملتحقق استقلال ملايا في زمن قصير وتتطلب هذه المشاكل رؤوسا مفكرة عاملة لحلها، وقد أبرزت الحياة الملاوية الحديثة زعماء ومفكرين يعملون في الحقل الوطني، وأنتجت أعمالهم شعور الطبقة المتعلقة من الشعب الملايوي بالواجبات الملقاة على عواتقها نحو وطنها. وتكونت منها دعامة قوية من دعائم الاستقلال، تقوم عليها ملايا في بناء حياتها الحديثة. والبناء هو أول ما تطلبه ملايا - اليوم - في حياتها الجديدة، وهو شامل لكل مناحي الحياة لشعب اعترض سبيله الاستعمار قرونا لكي ينهض ويسير في ركاب الحياة، وتنشر التعليم بكل وسائله المعروفة يؤدي إلى فتح آفاق واسعة من المعرفة بين جمهور الشعب، وقد كان الاستعمار خلال عهده الطويل في الملايو مبعدا الشعب الملايوي عن مناهل العلم، فخلال الحكم البريطاني الطويل استمر ثلاثة قرون حتى أوائل الحرب العالمية الثانية لم تخرج المدارس الحكومية في الملايو مهندسا أو محاميا أو طبيبا. فما معنى ذلك؟

لست أجيب القارئ عن هذا السؤال فهو اعلم بأسبابه مني.

لقد قامت الهيئات التبشيرية والأوربية والأمريكية في الملايو بفتح المدارس والمعاهد، وكما قامت الهيئات والمنظمات الصينية أيضا بفتح المدارس لأبنائها. وأنشأ الملايويون في الأيام الأخيرة مدارس لتثقيف أبنائهم بالثقافة الوطنية التي ترتكز على حب الوطن والعلم والمعرفة. وفي الملايو اليوم مدارس ثانوية وعالية تابعة للحكومة المستعمرة والجاليات الأجنبية وللوطنيون وأشهرها كلية السلطان إدريس للمعلمين، وكلية البنات الملايوية، ومدرسة الهندسة بكوا لا لمفور: ومدرسة الزراعة بسلا نجور، وكلية رافلس للمعلمين الإداريين. وكلية الطب، وهاتان الكليتان هما نواة للجامعة الملايوية. هذه هي المدارس الثانوية والعالية في قطر يزيد عدد سكانه علة خمسة ملايين نسمة، نصفهم من الوطنيين، والنصف الأخر من الأجانب. وفي البلدان الشرقية طلاب ملايويون منتسبون لمعاهدها العالية وجامعاتها، وهم النواة الأولى للطلبة للملايويين الذين سيحملون مشاعل الحرية إلى وطنهم ليقيموا له حياته الجديدة على أيساس العلم والمعرفة.

محمد جنيدي