مجلة الرسالة/العدد 996/الحاجة إلى الجذور

مجلة الرسالة/العدد 996/الحاجة إلى الجذور

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1952



الدكتور عمر حليق

في تراث الماضي ورواسخه ذخيرة من الطمأنينة الروحية جيلنا المثقل بالأعباء في حاجة أليها. وفي النفس رغبة ملحة لأن تعادل في نباهة بين ما تتشوق إليه في الحياة اليومية من هناء وطمأنينة واستقرار، وبين ما يكتنفها من قلق وفتنة وتشويش مبعثه تسيار الحوادث وطبيعة التيارات الفكرية التي تعصف بالمرء في طور الفتوة العقلية في حاضر جيل كجيلنا مشحون بشتى أنواع الصراع

فهذا الجيل عجيب بين أجيال التاريخ. ولد في أهوال الحروب، ورضع من دم الثورات، وشب في عهود الفتن والانقلابات، وفي عواصف الفوضى الثقافية والعاطفية التي تنقلها إليه مواصلات فكرية سريعة ربطت أركان المعمورة بعضها ببعض فأصبحت كالدف تنقر عليه من أي ناحية فينقل الصدى إلى السامعين.

وقد فرض على هذا الجيل مسؤوليات جسام، فوجد نفسه مشوش التفكير موزع الأهواء، فقد اتسعت مداركه بالعلم الحديث وازدادت احساساته بالتجارب فأصبح يبحث عن استقرار وحرية الانطلاق، لا كترف يزين به رجولته، ولكن كمعول لتحقيق الطمأنينة في مفاهيمها العديدة - اقتصادية وسياسية وثقافية - لعله مستطيع تلبية حاجاته، وهي تفوق في ماهيتها وكميتها حاجات الأجيال السابقة.

وفي إبان يقظة هذا الوعي يواجه جيلنا ألوانا من المغريات فينساق معها المرة بعد المرة راميا بمسؤولياته إلى الجحيم، ولكن سرعان ما تجذبه هذه المسؤوليات أليها في عنف وشدة لتذكره بان المغريات في هذا الجيل لا تنال اختلاسا، ولا تستطيع أن تمنع المتعة الحقة ألا إذا توافرت أسبابها الاقتصادية وأوسطها الاجتماعية ودون ذلك ستائر كثيفة نساجها من مقدمات البيئية وتركز الثروة وسوء توزيعها، وما أولدته من أنظمة الطبقات واختلال الميزان الاجتماعي وما نتج عن ذلك من كبت للمواهب وقضاء على الفرص والإمكانيات، وعلى كل هذه عقبات منيعة لا مفر لجيلنا المدرك لحقوقه وواجباته أن يجاهد للتغلب عليها.

وفوق هذه المشاكل الاقتصادية والسياسة والاجتماعية مشكلة أهم بتخبط فيها جيلنا حين يحاول أن يوفر للنفس ذخيرة ثقافية تعينه علة مواجهة هذا التحدي. فبين النفس واستقرارها فوضى ثقافية تسربت إلى جيلنا من بلبلة برامج التعليم وتنوع الغذاء العقلي والروحي الذي يغزونا من كل الجهات، من تراث الماضي وقوته التي تهيمن على بيئتنا وتكويننا الخلقي، ومن تيارات فيها من عناصر التشويش والتناقض ما يفرض على عقولنا واحساساتنا صراعا لا رحمة فيه، ندفع إليه مسيرين لا مخيرين رغبة منا في أن نحقق لأنفسنا نهجا في السلوك وسبيلا إلى الطمأنينة تتناسب مع ما تشعبت به عقولنا وعواطفه من مبادئ وما تولد في أنفسنا من حاجة إلى العيش الشريف في عالم تشعبت مطالب العيش فيه وازدادت في مجال الموازنة مع مطالب الأجيال السابقة.

هذا والكثير من أشباهه بعض ما نواجهه من تحد. ومن ثم ألمت بشخصية جيلنا ألوان من القلق وضروب من المسؤوليات تفرض عليه أن يجد لمواجهتها حلولا سليمة

فمنا من ينساق إلى مغريات التطرف فيثور على النظم والمجتمع وبيئته وثقافته، ويعتقد بأنه واجد الخلاص في اعتناق هذه النظم والمبادئ المتطرفة التي يخيل إليه إنها ستوفر لأزمته أقرب الحلول وأقصر المسالك. وتاريخ الإنسانية ملئ بهذا النوع من أفراد المجتمع الذين يسأمون من بطأ التطور، فيلجئون إلى التغلب عليه بسلاح التطرف في العمل والتفكير.

ومنا من ينكر على جيله تعدد المطالب وتشعب المسؤولية فيختار العيش في الماضي المحافظ ويمتزج امتزاجا كليا في تقاليده وتراثه وبيئته لعله قادر على أن يحقق مطلب النفس من الطمأنينة والاستقرار الذي يبدو له أن الجيل السابق والأجيال التي أتت قبله قد استطاعت أن تنعم بها.

ولكن أكثرنا لا يرضى عن هذين الاتجاهين، فهو لا يستطيع أن يعيش في الماضي المحافظ في عزلة عن تيارات الفكر والتطور الذي ألم بالحياة وبالمجتمع الأكبر. فكل شيء في الحياة والمجتمع تلح عليه أن يواجه العصر بأسلحة العصر. ولكن أكثرنا مدرك كذلك بان التطرف والثورة على النظم ليست كفيلة بان توفر لهم ولقومهم ما هم في عوز إليه من عدالة واستقرار

فالثورة والاندفاع المتطرف في عالم تكتنفه الذئاب لا يحقق لجيلنا ما يطمحون إليه من أسس ومبادئ ألا إذا ارتضى لنفسه ولقومه أن يصبحوا فريسة لطبقة من المجتمع أو لدولة من الدول التي تتحين ميلاد الأوضاع الثائرة فتزحف لتملأ (الفراغ) بدعوى حفظ الأمن والاستقرار. ولنا في اختباراتنا واختبارات غيرنا في كوريا وغير كوريا أمثلة وافية على ذلك.

وحين يحاول أكثرنا في صدق ونباهة أن يدفع عن نفسه القلق وإن يواجه مسؤوليات السياسة والاجتماعية والفكرية يجد نفسه تنزلق في مسلك وعر.

ففريق يندفع إلى الاعتقاد بان جوهر الأشكال هو توفير الحرية الديمقراطية خالية من سيطرة الذين ورثوها مع ما ورثوه من مال وعقار. ومن ثم يتجه هذا الفريق إلى النشاط الحزبي مدفوعا إلى ذلك برغبة تلح في أن يصلح الأداة السياسية فيحقق لنفسه ولقومه العدالة والطمأنينة في مفاهيمها العديدة، واثقا من أن الحرية السياسية (على نحو ما تفسرها الديمقراطية الغربية) ستوفرها له على أتم الوجوه وأحسنها. وهذا الفريق أميل إلى تجاهل العناصر الأخرى التي تشارك الحرية السياسية في الأهمية والقوة.

وفريق آخر يختار التفسير الاقتصادي لأزماته ومسؤولياته فيجد العلة الكبرى في تركز الثروة وفقدان التوازن في النظام الطبقي ويتحمس لاعتناق تعاليم (ماركس) وغيرة من أبناء الشيوعية ودعاة الاشتراكية على علاتهما. وهذا الفريق أميل في المراحل النهائية إلى الشك في صلاح هذا التفسير الاقتصادي منه إلى الثقة به. فأنبياء الشيوعية ودعاتها لم يتطرقوا إلا من طرف غير مباشر إلى ألوان العقد والمشاكل والمسؤوليات التي يواجهها جيلنا مجتمع عربي إسلامي هم بحكم البيئية والتراث والمقدمات وبفضل دوافعه الروحية والمادية يختلف في أوجه عديدة هامة عن المجتمعات التي عالج مشاكلها ماركس وفلاسفة الاشتراكية الأوربيون. ومثل هذا الفريق مثل الطبيب الذي يعالج أمراض المناطق الحارة بالأدوية والوصفات التي تعالج بها أمراض القطب المتجمد الشمالي. وهناك فريق ثالث يشارك أقرانه في مواجهة التحدي وملاقاة المسؤوليات التي فرضت عليه ولكنه لا يسمح لنفسه أن تقتنع بأي حل من الحلول التي أقتنع بصلاحها الفريقان الآخران. فهو لا يؤمن بان الحرية السياسية كما تبشر بها ديمقراطيات الغرب كافية وحدها لبناء المجتمع الجديد. فهذه الديمقراطيات نفسها ساعية لتطعيم أنظمتها بعناصر مستجدة من تطور الفكر والوعي في الجيل الجديد. وهذا الفريق الثالث لا يستطيع كذلك أن يتجاهل العناصر التقليدية الراسخة - الدينية والثقافية والاجتماعية - التي تعيش عليها بيئته عندما يبحث عن الحلول في تعاليم الشيوعيين والمبادئ والنظم الأخرى التي وضعها المصلحون لمجتمعاتهم التي أن شابهت مجتمعنا في وجه فإنها تختلف عنها في أوجه أخرى.

وفي هذا الفريق نزعة كامنة - سمها ما شئت دينية أو قومية تصر على أن يرعى تراث الماضي وذخيرته، وهذه المقدسات والعناصر الخالدة التي تطفح بالروعة وتمتلئ بالطمأنينة والاستقرار في عالم يكتنفه التفكك والعقد والأزمات الروحية والمادية.

وهذه النزعة ليست لونا من الترف العقلي أو نوعا من المخدرات الروحية التي ما أكثر ما يتهم بها الراغبون في مواجهة التحدي في ترفع عن صرخات الاجتهاد الخاطئ للذين اعتقدوا بأنهم وجدوا الحلول لمسؤولية الجيل. بل الحق أن هذه النزعة ضرب منا الاجتهاد الجاد للبحث عن معقل للإيحاء الروحي والفكري لا ينضب معينه - وهو معقل لابد لكل من أحاطت به مسؤولية أو ألمت به أزمة من أن يلجأ إليه ليستمد منه القوة والشجاعة والرأي السديد

فجيلنا أشبه بالجيش المنهزم يواجه المعركة الفاصلة على حدود بلاده فهو لا يجد الحكمة في أن يغامر بما تبقى لديه من قوة ومناعة ليظفر بجزء من عتاد الأعداد وذخيرتهم ليتسلح بها في الموقعة الفاصلة، بل الحصافة في أن يجمع ما استطاع جمعه من ذخيرة وقوة محلية من طول البلاد وعرضها. فيقتلع أسلاك الحدائق وبوابات القصور وقضبان النوافذ ليصهر ويصنع منها سلاحا يتحصن فيه خندق مكين إلى أن يستعيد من بأسه ويجند قوته الكامنة في عزم شديد

وجيلنا في عراكه مع المسؤوليات الجسام التي تتحداه لا يستطيع أن يضمن لنفسه النصر إذا اختار المغامرة في المعركة الفاصلة فاندفع بجمع ذخيرته من فتات الآراء والمبادئ يلتقطها من أطراف الميدان الذي يسيطر عليه العدو الملاحق. بل أن طبيعة هذا العراك تفرض على جيلنا أن يختار لنفسه حصنا منيعا يجمع فيه ما استطاع اكتشافه من ذخيرة فكرية وتراث روحي من صميم المجتمع الذي نصب نفسه مدافعا عن حماه ساعيا إلى تحويله إلى مجتمع افضل

فكما أن آلة الحرب في أزمنة الصراع لا يمكن لها أن تقتصر في استعدادها على ما تستورده من ذخيرة وعتاد وإنما تسعى جادة لإنشاء المصانع في أرض الوطن بعد أن تتيقن من أصناف المواد الخام المتوفرة في تربتها؛ فإن عراك الجيل يجب أن لا يقتصر في استعداده على ما يستورد من بضاعة فكرية مصادرها عديدة وإلا كان أشبه بالجيش الذي يتسلح ببندقيات بريطانية رصاصها بلجيكي وطائرات روسية لا يصلح لإدارتها ما يتوفر لهذا الجيش من غاز معكر.

فالمهم أن نعكف قبل كل شيء على إحصاء ما يتوفر لدينا من مادة خام - من بيئة ومقومات وتراث روحي - قبل أن نختار القوالب الفكرية المستوردة التي نطمح في أن نجهز بها أنفسنا وعقولنا لمواجهة مسؤوليات الجيل.

فبنا حاجة ماسة إلى الجذور؛ جذور الفكر وأحوال التراث ودعائم البيئة التي نشأنا فيها وطبيعة المقدمات الخلقية والثقافة التي يعيش عليها مجتمعنا.

ومن هنا أخذ فريق منا يندفع باحثا عن همزة الوصل بين تراث الماضي وذخيرته ومسؤولية الجيل الذي نحن منه

وبفضل ذلك وجد كاتب هذه السطور نفسه راغبا في أن يشارك قراء الرسالة في متعة نعم بها مطالعته لكتاب أصدرته المطابع الغربية مؤخرا لمؤلفة فرنسية شابة كلفها رجال المقاومة السرية في فرنسا إبان الاحتلال النازي أن تدرس الأسباب التي آدت التي أدت إلى انهيار فرنسا السياسي والعسكري وتقلص الروح المعنوية بين الكثرة الساحقة من أبنائها، وإن تستوحي من ذلك من ذلك أسسا للمجتمع الجديد الذي ألقيت مسؤوليات تعميره على عانق الجيل الذي هي منه.

فجاء هذا الكتاب سجلا لكثير مما يسود حاضر هذا الجيل من قلق وانفعال؛ وإيجاد صادقا لما تعتقد هذه الكائنات القديرة بأنه عون على مواجهة مسؤولياته الجسام.

وقد شغفت هذه المؤلفة سنوات طوالا بمعالجة موضوعات فلم تكترث للسل الذي كان يمتص حيويتها ولم تضع القلم ألا بعد أن تمت البحث فتلقف الناس الكتاب وزحفت هي إلى القدر لتقد رقدتها الأخيرة.

واسم المؤلفة (سيمون وايل) وقد توفيت عن (33) عاما أما الكتاب فترجمة عنوانه (الحاجة إلى الجذور) وهي الترجمة التي أختارها الناشر الإنجليزي.

فلنصاحب هذا الكتاب في عدد الرسالة القادم.

للكلام صلة

عمر حليق