مجلة الرسالة/العدد 996/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 996/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1952



وحدي مع الأيام

للشاعرة الآنسة فدوى طوفان

للأستاذ كامل السوافيري

اعتقدت أني لست بحاجة إلى أن اقدم للقراء الشاعرة الآنسة فدوى طوفان صاحبة ديوان (وحدي مع الأيام) الذي أصدرته لجنة النشر للجامعيين، وهي الكوكب اللامع في سماء الشعر، والنجم الساطع في أفق الأدب، والبلبل الصداح في دوحة العروبة الذي غنى فأشجى القلوب، وهز النفوس.

عرفت فدوى منذ فترة تزيد على عشرة أعوام مما قرأته لها من قصائد ومقطعات على صفحات الرسالة الغراء، والأديب الزاهر وقد اختصتها بطائفة كبيرة من أنتاجها الشعري، فهزني شعرها وأطربني غناؤها، لا لأنه شعر نسائي ظهر في فترة أقفر فيها الشعر الحديث منه، لا لأن صاحبته آنسة تستحق المجاملة والتشجيع، ولكن لأنه صادرة عن شعور صادق، وموهبة فطرية. وكنت أتيقن أن يوماً قريبا آت تتبوأ فيه الشاعرة الناشئة مكانتها في موكب الشعر. وقد حققت الأيام ذلك وأصبحت فدوى طوفان شاعرة لا لفلسطين وحدها؛ بل لدينا العرب والعروبة.

وليس ديوان الشاعرة ألا مجموعة من القصائد المتناثرة هنا وهناك تخيرتها الشاعرة مما نظمت وضمتها إلى بعضها، لوجود وحدة نفسية بينها فهناك شعر كثير لم يتضمنه الديوان وأملها تنشره في ديوان آخر.

وأستميح صديقي الكاتب المعروف، والناقد اللامع الأستاذ أنور المعداوي العذر إذ أنوه بإشرافه الفني على إخراج الديوان. وأنا أعلم انه لن يرضيه هذا التنويه. ولكنه يرضي الفن والأدب، والى المشرف يرجع الفضل في الحلة الأنيقة التي ظهر بها الديوان أهدت الشاعرة الفاضلة ديوانها إلى روح شقيقها الشاعر المرحوم إبراهيم طوقان الذي قصف يد المنون غصنه الرطيب وهو ريان الصبى، ربق الشباب، وكان للشاعر الأخ والوالدة والأستاذ، فأحدث موته في قلبها فاجعة لم تستطيع الأيام أن تسدل عليها ستار النسيان، وشق في فؤادها جراحا لم تندمل وفجر فيها ينابيع الحزن والآسى، فصاغت من دموع العين، ودماء القلب، المراثي تزخر باللوعة، وتفيض بالألم، وهي في حزنها عليه ورثائها له تلتقي بالشاعرة المخضرمة الخنساء في بكائها على أخيها صخر، ورثائها له، ويبدو أن فجيعة فدوى إبراهيم كانت فوق ما يحتمله قلبها، فأحالت حياتها الهانئة الوادعة إلى مأتم دائم ودموع لا تجف وزفرات لا تنقطع، وطبعت شعرها بطابع الأسى والحزن، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائدها من الحزن الدفين، والحرقة اللاذعة.

أستمع أليها في قصيدتها (حياة) ص 39 من الديوان التي مطلعها:

حياتي دموع

وقلب لوع

وشوق، وديوان شعر، وعود

إذ تبكي أحبائها الراحلين إلى عالم الخلود، وتصور اللوعة على فقدهم، فتناجي روح المرحوم والدها، ثم تتجه إلى شقيقها إبراهيم الذي كان لها نبع حياة وحب، وضياء العين والقلب، وإذا برياح الموت العاتية تطفئ شعلته وتصبح الشاعرة وحيدة في ظلام الوجود، حائرة في قفار اليأس، ولا نور يهديها ولا أمل يناغيها

وفي ليل سهدي

يحرك وجدي

أخ كان نبع حياة وحب

وكان الضياء لعيني وقلبي

وهبت رياح الردى العاتية

وأطفأت الشعلة الغالية

وأصبحت وحدي

ولا نور يهدي

ألجلج حيري بهذا الوجود

ومن قصيدة (على القبر) ص 115 تناجي قبره فتحس أن للقبر إشعاعا من النور، وأنه أجمل القبور لان دنياها فيه، وفي قلبها مأتم دائم.

آه يا قبر. . له إشعاع نور

لا أرى اجمل منه في القبور

فيك دنياي وفي قلبي الكسير

مأتم ما أنفك مذبات لديك

قائما يأخذ منه بالوتين

وهنا أقف لحظة لأسجل أن فدوى قد بلغت القمة في هذا الفن؛ أقصد فن الرثاء من ناحية الصدق والشعور؛ والصدق الفني وأقصد به الصياغة اللفظية التي تتجلى واضحة في شعر الشاعرة. مما يدل على تمكن من لغة عدنيان، وإحاطة بإسرار بيانها، واستعمل مفرداتها. وللشاعرة في رثاء أخيها شعر كثير لم يتضمنه الديوان.

وتترك فدوى التي هدها الحزن وأضناها الأسى على إبراهيم. . إلى فدوى الشاعرة الوطنية التي ترى بلادها المقدسة تخر صريعة أمام العدوان الاستعماري الظالم - ولا أقول الاستعمار الصهيوني فنحن نعلم من يقف وراء الصهيونية - وتشاهد الكارثة المريعة تدمر بناء أمتها وتدك مجدها فتثور عاطفتها الوطنية، وترسل صيحتها الشعرية تستصرخ أبطال العروبة وتستنهض همم العرب ليدفعوا عن فلسطين العدوان ويدرءوا عنها العدو؛ فتقول من قصيدة (بعد الكارثة) ص 127

يا وطني مالك يخنى على ... روحك معنى الموت معنى العدم

أمضك الجرح الذي خانه ... أساته في المأزق المحتدم

لا روح تستنهض من عزمهم ... لا نخوة تحفزهم، ولا همم

ولا يلبث الأمل أن يداعب قلب الشاعرة فتحس أن الغمرة ستنجلي، وإن هذا الليل المظلم سيعقبه فجر مشرق، وإن السحاب المركوم سيتبدد عن صفحة الجو، فلا يزال في الأمة العربية شباب أحرار من الذين يأبون الضيم، ويحاربون الهون أن يقعدوا عن ثأرهم.

ستجلي الغمرة يا موطني ... ويمسح الفجر غواشي الظلم

هو الشباب الحر ذخر الحمى ... اليقظ المستوفز المنتقم

لن يقعد الأحرار عن ثأرهم ... وفي دم الأحرار تغلى النقم

ولقد عاصرت فدوى مراحل جهاد العرب في فلسطين ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني الآثمة. وشهدت قوافل أبطال الحرية المتتابعة، الذين قدموا أرواحهم رخيصة للدفاع عن أوطانهم منذ البطل المجاهد المرحوم عز الدين القسام. إلى الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936. وشهدت جبلي جرزيم وعيبال يموجان بالمجاهدين من أبطال جبل النار، فكان كل ذلك من أكبر العوامل التي جعلت من فدوى شاعرة وطنية تؤجج في النفوس عاطفة الدفاع عن الوطن. وتضرم فيها النخوة والحمية، وتذكر المجاهدين العرب بصفحات البطولة اللامعة التي سطوها التاريخ لأجدادهم الغابرين.

وتقع الكارثة عام 1948 وتهوى البلاد إلى حضيض الاستعباد وتهيم جيوش اللاجئين من أبناء فلسطين على وجوههم يبحثون عن المأوى فلا يجدون ألا المغاور والكهوف والأودية والشعاب والخيام المهلهلة التي لا ترد الحر والقر فيتخطفهم الموت زمرا لا فرادى. ويوحي هذا المنظر المريع الشعر في قلب فدوى فتنشد من قصيدة (مع لاجئة في العيد) ص 129

أختاه هذا العيد رق سناء في روح الوجود

أشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد

وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالا شقيا

متهالكا يطوى وراء هموده ألما عتيا

يرنو إلى اللاشيء. . . منسرحا مع الأفق البعيد

وأترك هذين الفنين الشعريين من الفنون التي حلقت فيهما الشاعرة الحديث عن فدوى الإنسانة التي لا تقف برسالتها الفنية عند تصوير عواطفها، وبث آلامها وأحزانها. شأن الشعراء الذين يتحدثون عن ذواتهم ولا يحسون بإحساس أمتهم ومشاكل مجتمعهم، ولأقرر أن فدوى فنانة وإنسانة تشاطر البائسين آلامهم، وتدعوا البشرية لتجفيف دموعهم. وتنادي بالعدالة الاجتماعية حتى لا يكون في الناس جائع ولا محروم. تقول من قصيدة (مع سنابل القمح) ص 26

كم بائس، كم جائع كم فقير ... يكدح لا يجني سوى بؤسه

ومترف يلهو بدنيا الفجور ... قد حصر الحياة في كأسه

لم تحبس السماء رزق الفقير ... لكنه في الأرض ظلم البشر

بقي أن أقوال بعد ذلك أن هناك ظاهرة واضحة تطالع النقاد في شعر فدوى: وليست تلك الظاهرة سوى فراغ الحياة. أوسمها إن شئت الحرمان. الحرمان من العطف والحنان. الحرمان القاتل الذي جعل الحزن يرين على نفسها، ويستحوذ على قلبها فيشعرها بأنها تحيا غريبة في دنيا الناس. ولعل اسم ديوانها أكبر دليل على ذلك حيث أضنتها الحيرة، وأستبد بها القلق، فرغبت عن الحياة وتمنت أن تنطق روحها من الأرض إلى السماء.

تقول في قصيدة (أشواق حائرة) ص 32

وهناك تومى لي السماء وبي ... شوق أليها لاهف عارم

فأود لو أفنى وأدمج في ... عمق السماء ونورها البلسم

وقد كررت الشاعرة هذا المعنى في قصائد متعددة من الديوان وقد أوحى أليها بهذا القلق بالتساؤل عن حقيقة الموت والبعث والخلود.

تقول قصيدة (خريف ومساء) ص 12

عجبا ما قصة البعث ... وما لغز الخلود؟

هل تعود الروح إلى الجسم ... الملقى في اللحود؟

وأنتقل إلى شعر الطبيعة في ديوان فدوى لأقرر أن الشاعرة قد تغنت بجمال الطبيعة في البيئة المحيطة بها، والشاعرة عاشت في مدينة عريقة في مدينة نابلس في فلسطين حيث يحتضن جبلا جزريم وعيبال المدينة، وعلى سفح الجبلين تكثر المروج التي أوحت للشاعرة بقصيدة (مع المروج) ص 9

هذى فتاتك يا مروج ... فهل عرفت صدى خطاها

عادت إليك مع الربيع الحلو ... يا مثوى صباها

درجت على السفح الخضير ... على المنابع والظلال

روحا تفتح للطبيعة ... للطلاقة والجمال

وقد حلقت الشاعرة في أجواء بعيدة، وتناولت فنون الشعر المختلفة، وبرهنت على أن طاقتها الشعرية متعددة المنافذ تغذيها ثقافة واسعة، واطلاع دائم

ولها في الديوان قصائد من تجارب شعرية اجتازتها الشاعرة فكانت تعبيرا صادقا عما يختلج في شعاب القلب ومسارب النفس، وتبدو هذه التجارب في القصائد الآتية.

من الأعماق، غب النوى، إلى الصدور ولا ينحدر مستوى الشاعرة في هذه التجارب عنه في الرثاء والوطنيات. والتأملات والنزعات الفلسفية.

وبعد فأظنني قد قدمت للقراء صورة عن ديوان الشاعرة الملهمة التي قرءوها. والتي قدمها شعرها إلى القراء خير تقديم.

كامل السوافيري