مجلة الرسالة/العدد 997/من الإسكندرية إلى ديروط

مجلة الرسالة/العدد 997/من الإسكندرية إلى ديروط

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1952



للأستاذ أنور الجندي

جمعت في خلال إجازتي بين سفرين؛ كلاهما أبعدني عن القاهرة. فسافرت إلى الإسكندرية ثم عدت إلى ديروط؛ فكأنما ذهبت إلى أقصى الشمال حتى شارفت البحر الأبيض. . ثم قصدت إلى الصعيد الأوسط حيث قضيت أياما في البلد التي ولد على ضفافها حافظ إبراهيم شاعر النيل.

وفي كلتا الرحلتين متاع كبير، ومتاعب كثيرة. . .

أما في الإسكندرية فقد التقيت بصفوة الناس، وتغلغلت في الطبقات الميسورة التي لان لها العيش وأتيح لها أن تأخذ بأوفى حظ من المتاع. . فهجرت القاهرة والأقاليم، وأقلعت إلى الساحل تأخذ أكبر قسط من الهواء والماء. . ومن متاع النفس والجسد

رأيت المجتمع المصري في صورة الحرية المطلقة. وقد تجرد الرجال والنساء على وجه أهله البحر وحرمه الدين؛ وأعطى كل من الجنسين لنفسه الحق في أن يذهب حيث شاء. إن شاء أمضى يومه أمام الكابين. أو تحت المظلة. أو سابحا في الماء. . .

ورأيت صورة الهدى وهي تختلط في صورة الضلال. . . فلا تكاد تفصح إحداهما عن نفسها أو تتبدى واضحة جلية، وأشفقت من المصير الذي ينتظر هذه الجماعات وقد منحت أنفسها ما تهوى وما تحب دون أن تجعل للعرف أو للتقاليد أو للدين حسابا معلوما أو حقا مفروضا. . .

ومن العجب أن تقوم مسارح الفتنة والجمال على شاطئ البحر بين مقامين كبيرين لرجلين من أعظم رجال التاريخ والتصوف هما: ابن جبير الأندلسي الرحالة الذي طاف الشرق وقدم من المغرب ومات في الإسكندرية.

وبشر الحافي الصوفي العراقي الذي أثر عنه الزهد والعلم والورع ولكل منهما مسجده الضخم القائم في قلب المنطقة الآهلة بالمصيفين ورواد الكابينات؛ والذاهبين إلى البلاج والعائدين منه وبينما تذهب آثار الرجلين في بطون التاريخ فلا يذكرهما ذاكر إلا القليل من الباحثين والعلماء، يبسط الله في اسميهما؛ فيكتب في تذاكر الأتوبيس والسيارات، وينادى به الحمالون والسائقون، ويجرى على ألسنة المسافرين والعائدين. . .

ثم سافرت إلى ديروط، تلك المدينة التي كانت حديث الصحف في الشهور الماضية، فلقيت قوما يختلفون كل الاختلاف عمن لقيت في الإسكندرية.

لقيت قوما يكدحون في سبيل العيش والرزق، يعملون سحابه يومهم. . . فإذا أمسى المساء التقوا على (القناطر) التي هي أبدع عمل هندسي في الصعيد بعد خزان أسوان وقناطر أسيوط

رأيت أهل الصعيد في نقائهم وطهرهم وبساطتهم، يمضون في الحياة لا يتكلفون، قد أخذوا من الحضارة بطرف، ولكنهم ما زالوا يضنون عليها بالعرض والشرف والخلق والتقاليد.

رأيت (المئذنة) العالية وسمعت صوت النداء باسم الله ينبعث من فوقها فيهز النفس من الأعماق، ويرسل إلى الكون كله فيضا من الحب والسلام. . . هذه مئذنة الجامع الكبير، من أعلى مآذن القطر كله؛ قد بنيت بالقرميد الأبيض والأحمر على هيئة غاية في الرواء والإبداع، وكان مقامي في بيت قريب منها على الضفة الثانية للترعة الساحلية، فما كنا ألقى نظري من النافذة مرة، جالسا أو قائما، إلا كانت تتراءى لي فتهزني، وتملأ نفسي بذلك الإحساس الروحي الغامر. . فإذا واجه فرقتنا المؤذن في صلاة الفجر، انبعث صوته رطبا نديا. . كأنما يسكب على هذا الصمت والسكون الضياء والنور، فما ألبث أن أهتز في مضجعي أردد اسم الله. . .

ألا ما أبعد الفارق بين ما تثيره ديروط وما تثير الإسكندرية في النفس؛ إن هذه تعطيني معنى الروح كاملا حيا، أما تلك فلا تترك في نفسي إلا متاعب الصراع بين الهوى والحق، وبين القلب والغريزة. . .

وفي ديروط كنت أطلق الطرف بعيدا في تلك المروج الخضراء أتزود وأقتات من جمال الريف، وهناك في أطراف المدينة حيث تلتقي الحضارة بالريف، والصناعة بالزراعة. . . كنت أجلس الساعات الطوال أنظر وأسلح بعيداً حتى ردني عن أفكاري قطار (الديزل) السريع وهو ينهب الأرض في طريقه إلى القاهرة. . .

وفي المساء كنا أسير مع صديقي (محمد زكي) نتحدث عن الرافعي. . . إن صديقي لا يمل الحديث عنه، إنه يحبه غاية الحب، ويرى يومه عبثا من العبث لو أنه انقضى دون أن يقرأ له فصلا أي صفحة أو كلمة أو (كليمة) إن صديقي من أدباء الريف المغمورين، الذين قضت عليهم ظروف الحياة أن يعيشوا هناك، حيث لا تصفو الحياة كثيرا للأديب الذين يريد أن يصنع المجد. . .

وفي ساعات الغروب على الإبراهيمية أو على اليوسفية، تلبس ديروط حلة قشيبة من الجمال. . الحزين. حيث نعود بالذاكرة كرة إلى ما قبل عشرين عاما من العمر، عندما كنا نخطو إلى هذه المدرسة القائمة تجاه مبنى الري. . . نلتقي أول دروس العلم، ودروس الحياة

أما ذلك المساء، فقد كان حزينا حقا، بالغا غايته في الظلمة والحزن. فقد انطلقت إلى حيث كان للقلب قصة منذ سن السابعة عشر، ولما مرت العربة بنا على ذلك المكان الذي يعيش فيه ذلك الروح الحزين. هتف القلب: ترفق أيها السائق؛ فإن لنا هنا ذكرى عزيزة.

كان الوجه الأول الذي لقيني بين ظلمات الأحداث، ومتاعب الشباب الباكر، فأحال دنياي جنة وارفة الظلال، وأمد روحي بذلك الرحيق القدسي الذي يحسه الشباب الحدث، الذي يتطلع إلى المجد، حيث يلتقي مصادفة بإنسان وهبة الله فيض الجمال وفرط الحسن. . . وأمده بذلك الروح الشاعر الصادق، بحيث لا يخرجه عن تقاليده وخلقه، ولا يصرفه عن طهره ونقائه. . .

ولكن الظروف تقصر، والأقدار تأبى، فإذا به يمضي في طريقه وأمضي في طريقي. وأظل على الرغم من مرور بضعة عشر عاما أحس كأنما كان الأمر بالأمس، مازال قائما في النفس لا يبرح، وما تزال صورته في الضمير لا تزول. إذا هتف الهاتف باسمه ظننت أنه هو، وإذا خطر من يشبهه ذكرته، وعدت بالخيال مرة أخرى إلى أيامه الحلوة، عليها سلام الذكريات.

وبالرغم من الزمن البعيد، فهو ماثل في القلب، يذكرني بالماضي البعيد، وكأني به أنتظره وأترقبه؛ وأرجو على مر الزمن أن يتاح لي مرة أخرى أن ألقاه. . .

كان ذلك المساء قاسيا على نفسي، فقد كنا في السيارة نتذاكر قصيدة الأستاذ محمود محمد شاكر (اذكري قلبي فقد ينضر من ذكراك عودي). . . وبينا كان صاحبنا يرددها، كنا نمر في نفس المكان الذي يتنسم فيه شاعرنا أنفاس الحياة.

والحق أن (ديروط (أعادت إلى نفسي الذكريات التي طوتها أعباء الحياة في القاهرة؛ فما أظن أنني قضيت في ديروط عشرة أيام منذ سبعة عشر عاما غير هذه المرة. . .

لقيت وجوها كثيرة لم أرها منذ طويل، وجوه كلها إلى حبيب، ولي معها ذكريات؛ ولكن غاب عني وجه لطالما أحببت أن ألقاه، ولكنه طريح في المستشفى، عجل الله له الشفاء وكتب له الصحة والعافية. . .

أنور الجندي